المواطن العربي بين جبر الدين وجبر السلطة / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد ( سورية ) – السبت 7/1/2023 م …
أولاً: جبر العقيدة:
حديث رواه: مسلم عن حذيفة بن أسيد، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال “يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمسة وأربعين ليلة. فيقول: يا رب! أشقي أو سعيد؟ فيكتبان. فيقول: أي رب! أذكر أو أنثى؟ فيكتبان. ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه. ثم تطوى الصحف. فلا يزاد فيها ولا ينقص”.
إن مصطلح الجبرية موضوع بحثنا مشتق من الكلمة العربيّة “جبر”، والتي تعني الإجبار والإكراه بمصير الإنسان المحتوم، فالجبر عند من يزعمه هنا هو نفي فعل العبد الصادر عن إرادته، وإحالته إلى الله، فكأن الله في زعمهم يُكرِه عباده على فعل الذنوب كما يُكرِههم على فعل الطاعات. أو بتعبير آخر : إن أفعال الإنسان خيرها وشرها من الله, وإن نسبتها إلى العبد إن حصلت, إنما هي قائمة على “الكسب” (( كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين ) . المدثر 38-39.أو على سبيل المجاز كقولنا نجح الطالب في الشهادة الثانويّة عندما جد في دراسته , وإنما الذى جعله يجد في الدراسة حقيقة هو الله، فالإنسان في زعمهم كالريشة في مهب الريح.
ليس المطلوب منا في هذا المقال أن نعود إلى الجذور التاريخيّة أو الأصول المعرفيّة للجبر بالنسبة للوعي الإنسانيّ من جهة, أو لتجليات الممارسة الإنسانيّة وخاصة السياسيّة لهذا الجبر في حياة الشعوب تاريخيّاً من جهة ثانية, هذا الجبر الذي تضمنته عقائد الديانات القديمة بشكل عام, كما تضمنته عقائد الديانات الابراهيميّة أيضاً, ومنها الديانة الإسلاميّة على وجه الخصوص, وقد سُخِرَ لمصلحة من يدعي به – أي الجبر – منذ أن أخذت هذه الديانات تفرض نفسها على الوعيّ البشري, أي وجد له حوامل اجتماعيّة لها توجهات أيديولوجيّة, سياسيّة كانت أو عقيديّة دينيّة, غالباً ما تضمنت مصالح أنانيّة ضيقة, كانت ولم تزل تهدف إلى السيطرة على الإنسان والتحكم به وسلبه حريّة التفكير والممارسة. أي حرمانه من أن يكون سيد نفسه وقدره ومصيره وخليفة الله على هذه الأرض..
إن ما يهمنا في موضوعنا هذا, هو التأكيد على استمراريّة التوجه الفكريّ الجبري بصيغته الأيديولوجيّة الدينيّة منها والوضعيّة, وخاصة السياسيّة في تاريخنا العربيّ المعاصر, على اعتبار أن القوى السياسيّة الحاكمة المستبدة كانت ولازالت هي من يقوم بتوجيه الأيديولوجيا الدينيّة ذاتها نحو (الجبر) خدمة لمصالحها, متكئة في تحقيق ذلك على خطاب دينيّ جبريّ استسلاميّ امتثاليّ كان له تأثيره الكبير عبر تاريخ الخلافة الإسلاميّة, على السنة والشيعة معاً. فتاريخ الجبر عند السنة ظهر بهذا الشكل أو ذاك, أي صريحاً أو ضمناً عند أهل الكلام كالكلابيّة والأشاعرة والماتريديّة, والجهميّة, وعند الفقهاء كالحنابلة والشافعيّة والمالكيّة وحتى الحنفيّة رغم أخذهم بالرأي. هذا ويعتبر الجبر عند الشيعة عموماً والجعفريّة على وجه الخصوص – رغم اعتبار العقل أحد مصادر التشريع عندهم -, أمرا مقراً من قبل النص الدينيّ نفسه, كأحقية آل البيت بالخلافة, وفي عصمتهم, وفي الفقه أيضاً حيث اعتبرت أقوال الأئمة في المذهب الجعفري وهم الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم أو من خلفهم.. هذا وقد اتكأ الأمويون والعباسيون على الجبر, وكذلك الفاطميون. ولم تزل الحكومات القائمة في عالمنا العربي تتكئ على الخطاب الجبريّ وأعلامه من الأشاعرة والماتريديّة والحنابلة والشافعيّة والجعفريّة السابقين واللاحقين منهم.
إذن, ما نريد الإشارة إليه هنا, هو أن عقيدة الجبر لم تزل تلعب دوراً كبيراً في وعي الشعب العربيّ وبالتالي في سلوكياته وموقفه من الحياة. فالجبر في بنيته العقيديّة والفكريّة, يعمل بالضرورة على تحطيم عقل الإنسان وإراته, أو إقصائهما خارج حياته الماديّة والروحيّة. فعقيدة الجبر هي عقيدة الإذعان والاستسلام للغيب، ودفع الإنسان للكسل والخمول والتواكل وانتظار ما يأتيه من الغيب, أو ما سُجِّلَ له في لوحه المحفوظ كما بينا في الحديث الوارد عن النبي أعلاه. وعقيدة الجبر تكره الإنسان بالحياة, وتنمي عنده ثقافة الموت, فهو يرفض المبادرة في هذه الحياة أو يفتقدها, وبالتالي يرضى بما هو قائم على اعتباره مفروضاً عليه, وليس لديه القدرة على تغييره, فالظلم والقهر والفقر والجوع والحرمان والاستبداد والغنى والفقر والسعادة والشقاء, كل ذلك مقدر عليه, من عند الله, وبالتالي فوجود اللصوص والسفلة والفاسدين وسارقي قوت الفقراء وأموال الشعب والمستبدين بحياتهم, هي مشيئة الله عندهم.
إن كل هذه المعطيات التي يحققها الجبر في حياة الفرد, ستنعكس بالضروة على حياة المجتمع, حيث نجد انتشاراً للفكر الجبري ممثلاً بالطرق الصوفيّة والدروشة والتمسك بقشور الدين, وهذا ما يساهم في ترهل المجتمع, وضعف التنمية, وانتشار التخلف وتجذره على المستويات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافية, واستمراه لفترات زمنية طويلة, وإعادة إنتاج نفسه, ورفض كل جديد واعتباره بدعة. فتحقيق الرحمة والعدالة والمساواة في العيش لا يسأل عنها الإنسان, بل هي مقسمة في كل مضامينها من قبل الله: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ). (الزخرف -32).
نقول: أمام كل هذه المعطيات, سينمو الاستبداد في السياسة بشكل خاص, وإن استبد الحاكم برعيته وتعدى على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم فما على الرعيّة إلا السكوت والرضا, كون استبداده وظلمه أمر مقرر من قبل الله انتقاما من الرعيّة التي لم تتمسك بحبل الدين وتركت السراط المستقيم.
في حديث للرسول يقول فيه: ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله ؟ إن أدركت ذلك ؟؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع.). (1).
ثانياً: جبر السلطة:
بغض النظر عن صحة هذه المقولة المنسوبة إلى الملك “لويس الرابع عشر” والملقب بـ “ملك الشمس”: (الدولة أنا، وأنا الدولة), إلا أنها المقولة الأكثر انتشاراً ودلالةً إذ استطاعت أن تربط الحاكم المستبد بالدولة، وقد تحولت مثالاً للاستبداد السياسيّ الذي يتحول فيه الحاكم إلى حاكم مطلق وكل شيء خاضع لإرادته, هذه الإرادة المقدسة التي لا ترد فيما تقول أو تعمل, وغير قابلة للتعديل أو المراجعة أو الرفض. فما يقوله أو يأمر به الحاكم بأمر الله, أو باسمه هو, يعتبر مقدسا ولا يعارض.
الجبريّة السياسيّة في الأنظمة الشموليّة أنموذجاً:
يتجلى الجبر السياسيّ بكل وضوحه في الأنظمة الشموليّة التي يقودها حزب واحد أو عشيرة أو قبيلة او طائفة واحدة, ووجود فرد واحد, هو الأمر الناهي في هذا الحزب والدولة أو العشيرة او القبيلة أو الطائفة. حيث تصبح مقولة (ما يقوله القائد أو الزعيم العام, هو الرأي العام), وما على الآخرين في قيادة دولته وحزبه إلا التنفيذ دون أي اعتراض. فإن أصاب رأيه فهو الحكيم الملهم, وإن خاب رأيه, فالعلة في المنفذين له الذين لم يستوعبوا توجهاته, وما عليهم إلا الرحيل دون حساب بغض النظر عن كل ما تركوه من فساد في بنية الدولة والمجتمع, الأمر الذي جعل من مناصب الدولة والحزب في هذه الأنظمة الشموليّة محل رزق وثراء, طمع فيها انتهازيو الوطن والمطبلين والمزمرين, الذين عرفوا من أين تؤكل الكتف, وخاصة مسألة الولاء للقائد قبل الشعب والدولة والوطن.
أمام هذه المعطيات يتولد في الدولة الشموليّة جملة من السلوكيات التي تعبر عن حالة الجبر السياسيّ المشبع بالاستبداد, يمكننا الإشارة إلى أهمها هنا:
أولاً: انتشار الاستبداد: فالاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى الاعتقاد (بأن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع) كما يقول “عبد الرحمن الكواكبي”. ومع تعميم حالة الاستبداد، ينتشر الفقرَ والضنك والذل والهوان والضعف وضيق الحال وعدم الأمان والاكتواء بنار الغلاء والضرائب والفساد، وتسلط القوي على الضعيف في الدولة والمجتمع.
ثانياً: إقصاء الشعب عن ممارسة دوره في قيادة الدولة والمجتمع: من خلال ممارسة ديمقراطيات شكليّة. فدولة الجبر والاستبداد لا تريد للشعب أن يختار ممثليه، لذا فالاستحقاقات الدستوريّة بالنسبة للقائمين على هذه الدولة الشموليّة، تكتفي بأن يصعد الموالون ومنهم المنافقون والفاسدون وهم (الأكثرية) إلى البرلمانات أو مجالس النواب، أو الإدارات المحليّة حتى يظهر للعالم بآن لدي النظام الدكتاتوريّ الجبرّي ديمقراطيّة حقيقيّة.
ثالثا: ظهور فقه القائد الملهم: فالحاكم المستبد يظن نفسه أذكى الأذكياء والحبر العلامة وكبير المفكرين والفلاسفة, وأن حكام العالم يتعلمون منه ومن خبراته وعلمه وتوقعاته وخططه وتفكيره، ولعل القذافي في كتابه “الأخضر” ومن يسير على منواله خير مثال على ذلك.
رابعاً: استملاك الدولة ومن عليها: حيث يعتبر الحاكم المستبد أن الوطن بالنسبة إليه ضيعة أو بقرة يحلبها في أي وقت يشاء وكيفما يشاء هو وأسرته ومن يطبل ويزمر له.
خامساً: البحث عن إعلام مسيس: يمجد أعماله ويبرز شخصيته ويبرر أخطاءه لجمهوره والعالم, على أنه القائد القدوة والملهم, فهو يدرك أن الإعلام أهم وسيلة للسيطرة على الشعوب، سواء تقدمت هذه الشعوب أو تخلفت، ولكن كلما كانت هذه الشعوب تعاني من الجهل والأميّة الدينيّة والثقافيّة، استطاع هذا المستبد أن يتحكم بها ويسوقها كقطعان غنم عن طريق شبكات من القنوات الفضائية والاذاعات التي يسيطر عليها.
سادساً: تسييد الرأي الواحد: ففي مثل هذه الأنظمة الشموليّة، لابد أن تستخدم سياسة الترهيب والترغيب على اتباع الرأي الواحد, واعتبار أي معارض هو ضمن من يستهدف أمن الوطن ووحدته وسلامة أراضيه.
سابعاً: عسكرة الدولة : وهنا تحدث الطامة والمصيبة الكبرى، حيث سيجد الشعب نفسه أمام صلف عسكريّ وعنجهيّة مجتمعين، ومن هذا المنطلق ستتحول الدولة والمجتمع إلى كتيبة عسكريّة يحكمها ضمناً أجهزة أمنيّة متعددة تخضع لأمرة القائد، وعندها سيرى المواطنون العجب العجاب، من اعتقال لآلاف الأبرياء على كلمة قالوها ضد سياسة النظام أو ضد قيادته, وعندها ستكون ردود فعل الشعوب قاسية ضد أنظمتها وغالباً ما تحمل طابعا دموياً, كما جرى فيما سمي ثورات الربيع العربي.
ثامناً: مأساة الحاكم المستبد في الدولة الشموليّة الجبريّة: عندما يجد نفسه قد غرق ونظامه في الوحل, وأنه أغرق دولته التي وعد أتباعه ومحازبيه – (و خاصة شعبه الذي مورست عليه الوصاية بذريعة عدم وصوله إلى النضوج لقيادة نفسه بنفسه) -, بأن الدولة التي يحكمها ستصبح بفضل سياسته الرشيدة محط أنظار العالم ودرة البلدان، ففي مثل هذه الحالة من تردي الدولة, سيبدأ في تحميل شعبه ما لا يطاق, من خلال اعتباره أن تردي الدولة يعود عنده إلى فعل مؤامرات الداخل والخارج, وعلى الشعب ان يقاوم هذه المؤامرات ويصبر على جوعه وقهره وظلمة, وربما يمتد هذا الصبر لعدة أجيال!، والغريب أن الشعب المسكين يرى حجم الفساد الهائل الذي ينخر في دولته يوماً بعد يوم دون حسيب أو رقيب. والكارثة الكبرى تأتي عندما يجد الحاكم المستبد أن الدائرة ضاقت عليه، فإنه لا يجد غضاضة في التخلي عن كل ثوابت الأمة التي ينتمي إليها، ولا يتوانى عن فعل أي نقيصة من أجل الحافظ على حكمه واستمره, غير متعظ بنهاية المستبدين الذين سبقوه. كصدام الذي أعدم, ومبارك والبشير الذين سجنا, وزين العابدين الذي هرب لاجئاً سياسياً, والقذافي الذي أهانه أبناء شعبه في الشارع وقتلوه بطريقة لا تليق بحاكم.
ملاك القول:
لا شك أن “الظلم مؤذن بخراب العمران”، وهذا ما وصل إليه العلامة “ابن خلدون”، وهذه هي الحقيقة التي نراها بأعيننا، فالسنن الكونيّة لا تحابي أحدا. فالشعوب التي أتت بالديكتاتور وسياسته الجبريّة الشموليّة ستدفع غاليا ثمن صمتها وتبريرها وتأييدها لسنوات طويلة ظلم الحاكم الدكتاتور واستبداده. بيد أن صبرها وصمتها سينفذ في النهاية بعد مشاهدة الخراب الذي حل بها، وبالتالي سينضم المزيد من أبناء الشعب طال الوقت أو قصر إلى الأطياف الأخرى من الشعب التي دفعت هي الأخرى الثمن في المعتقلات والتهميش والاضطهاد والتضييق والنفي. وعندما يدفع الجميع الثمن، فإن هناك لحظة آتية لا ريب فيها، هي لحظة الحقيقة التي ستقول لهذا المستبد إرحل، وكفى تخريباً وفساداً وإفساداً وإسرافاً وجبراً وتجبراً وتسلطاً، وقد ينسى هذا المستبد وغيره، أن القوة لا تدوم, وأن الظلم مصيره النهاية, فمهما طال الظلام لابد للفجر أن يبزغ، ولابد لنور الصباح أن يضيء هذه الدول العربيّة بالحريّة والكرامة والعدل والمساواة والعيش الكريم، ولكن هذا كله لن يكون إلا إذا غيرنا ما في أنفسنا، و إلا فسيدفع الجميع ضريبة الذل وثمن الاستبداد. (2).
كاتب وباحث من سوريّة
الهوامش
1- ( رواه البخاري (7084) ومسلم (1847) باب (يصبر على أذاهم وتؤدى حقوقهم).( يراجع عن موقف السنة عموماً من الخروج على الحاكم الفاسق – موقع إسلام ويب – مركز الفتوى.).
2- ).( للاستزادة أكثر في طبيعة النظام الشموليّ المستبد يراجع موقع الجزيرة نت – دراسة الاستبداد حين يدفع الجميع ضريبة الذل.).
التعليقات مغلقة.