تمثال الفحيص ومسجد بني أمية وبناء “دولة المواطنين” / د.عبدالحكيم الحسبان
قبل أيام وفي توقيت تزامن مع احتفالات الطوائف المسيحية في المشرق العربي بانتهاء عام، وبدء عام جديد، عاش الأردنيون أو من اعتاد متابعة الشأن العام منهم، تفاصيل حادثة التمثال الشهيرة في بلدة الفحيص القريبة من العاصمة عمان.
وتتلخص تفاصيل الحادثة في قيام أجهزة الدولة بإزالة تمثال يرتبط بالرموز المقدسة في الديانة المسيحية من موقعه في وسط بلدة الفحيص التي يقطنها مواطنون أردنيون يتوزع إيمانهم الديني بين المسيحية والإسلام.
من المهم التذكير أن نصب التمثال، كما اختيار مكان نصبه، كانا قد حصلا على موافقة أجهزة الدولة الأردنية التي قيل في تفسير أسباب تراجعها، أنها تراجعت أمام عاصفة كانت تجري في الماضي في فنجان، ولكنها جرت هذه المرة في شاشات أجهزة الموبايل الحديثة المصنعة في كوريا والصين والولايات المتحدة.
في قراءة حادثة الفحيص، يمكن للمرء ألا يتوقف عندها كما يفعل كثير منا وكما اعتاد كثير منا أن يفعل باعتبارها مجرد حادث عابر، وباعتبار الحادثة مجر كم من التفاصيل الصغيرة التي لا ينبغي التوقف عندها.
أخشى أن مسؤولي الدولة الذين انخرطوا في إنتاج الواقعة، بكل تفاصيلها الحزينة، كما تلك الجموع التي لا ترى في الحادثة ما يستحق التوقف عندها تأملا، وتفكيرا، واستخلاصا للنتائج والعبر تمهيدا لتشييد البناء الوطني على أسس أكثر حداثة، وعدالة، ومواطنية، لا يدركون حجم الجرح الغائر الذي قاموا بزيادة مساحته لدى قطاع كبير من الأردنيين مسيحيين ومسلمين، وهم عجزوا بالقطع عن سماع تلك الغصة التي اختنقت بها حلوق الكثير من مؤمني هذه البلاد ومثقفيها، وهم يرون دولتهم التي اتخذت قرارا قانونيا يترجم مفهوم “المواطنية” الذي يقوم عليه الدستور الأردني، وقد تراجعت أمام هجمة غير دستورية، وأمام مطالبات لا دستورية، وأصوات تنتمي إلى عقل ما قبل الدولة، وما قبل المواطنة، بل وما قبل التاريخ.
ولانني أثرت ألا أقف في صفوف من يتجاهلون أو من يؤثرون السكوت عما عاشته بلدة الفحيص باعتبار ما جرى يتجاوز كثيرا كونه حادث عابر في حياتنا ومجتمعنا، وفي نسق الدولة الأردنية التي شيدنا بنيانها منذ عشرة عقود كما في نسق العلاقة التاريخية التي عشناها مسلمين ومسيحيين على هذه الأرض، فما جرى في الفحيص يجب أن نفيد منه في كشف شكل الدولة والمجتمع الذي طورناه حتى اللحظة، وهو يجب أن يفتح بالتأكيد ملفات كبيرة تتعلق بالاسس البنيوية، وبالمفاهيم المؤسسة التي تشكل بنيان المجتمع والدولة في الأردن، التي لا نود إلا أن نراها دولة مواطنين، ولا شيء غير المواطنين.
لا أكتب لكي أخوض نقاشا أو جدلا بيزنطيا مع تلك الفئة من الكائنات الافتراضية التي رأت في تمثال الفحيص عملا من أعمال عبادة الأصنام والأزلام والأنصاب، ولن أخوض كثيرا لأبين تهافت الحجة التي ترى في تمثال الفحيص عملا من أعمال عبادة الأصنام والأزلام، فيكفي للرد على هؤلاء تذكيرهم بأن الخلويات وأجهزة الهاتف الذكي التي استخدموها في معركتهم ضد التماثيل والأصنام، وضد الصور والتصوير هي مصانع حقيقية لإنتاج الصور والمجسمات والتماثيل، والمفارقة هنا أنهم في معركتهم الموهومة ضد الوثنية والتصوير كان سلاحهم الوحيد هو الصور والتصوير، فالتماثيل والأنصاب والأزلام حرام على أهل الفحيص، ولكنها حلال حلال حلال عليهم، ولتذكير هؤلاء بهشاشة فكرهم وحجتهم، نقول لهم إن ما ينطبق على صناعة التماثيل ينطبق بالمطلق على تصاميم البيوت الني نسكنها، وعلى كل الاثاث الذي يملأ بيوتنا، كما كل الرسومات والصور التي تملأ شاشات التلفزة، فانتقال الانسان من البدائية حيث العيش تحت الاشجار وفي الكهوف إلى حياة الاستقرار، والدولة، وبناء البيوت، وتأثيثها يجعل من صناعة المجسمات والتماثيل والاشكال والصور أمر تستحيل الحياة دونه.
في سري أضحك من ذلك العقل الذي يعاني من |الشيزوفرينيا” فينا، والذي يجوب البلاد شمالا وجنوبا، ويحفر سرا وخلسة في أشد الليالي برودة ووحشة، وهو يحلم، عله يجد تمثالا رومانيا او بيزنطيا أو فرعونيا، كي يقوم ببيعه والتكسب والعيش بفضل ثمنه، وهو لا يرى في التمثال أي مس بقيمه الأخلاقية والدينية، ولكن هذا العقل فينا يخوض أشرس المعارك ضد تمثال يمثل صلب الإيمان، ويرمز لمنظومة أخلاقية راقية لجماعة بشرية كانت منذ الأزل شريكة لنا في الارض والتاريخ والدم واللغة والعرف وكثير من المعتقد.
في تناول حادثة الفحيص سوف أذهب إلى عمق المعضلة التي تعيشها مجتمعاتنا كما دولنا ودساتيرنا، وحيث يمكن للمرء أن يتأمل في تلك التحولات التي ضربت مجتمعاتنا في العقود الأخيرة على صعيد أشكال التدين الأصيلة والمتوارثة تاريخيا لدى سكان هذه البلاد، ومقارنتها بتلك الإشكال الوافدة من التدين والتي قدمت إلينا، وضربت عميقا بفعل قوة المال، والإعلام، وبعض الاستراتيجيات العالمية التي شكلت قوة دفع، ورافعة لها.
في فهم حادثة الفحيص، ولفهم التشوه القادم من الخارج الوافد إلينا، سوف أذهب إلى المسجد الأموي في دمشق، ففي دمشق ومنذ أربعة عشر قرنا، لم تنقطع الصلاة في المسجد الأموي وحيث المسجد والذهاب إليه، هو في صلب الحياة الاجتماعية والدينية ليس لجمهور المصلين فقط، بل لكامل المسلمين المشرقيين التي كانت الشام ودمشق مركزا في تشكيل النسخة المشرقية من الإسلام الذي يتبعونه، ففي المسجد الأموي في دمشق التي كانت عاصمة للخلافة الإسلامية، بل إن أقوى فترات الخلافة الإسلامية على صعيد قوة الدولة الإسلامية وتمددها ارتبط بالشام وبدمشق.
في المسجد الأموي في دمشق، والذي كان في الأساس كنيسة انتمت للحقبة الرومانية في بلادنا، يقبع قبر يوحنا المعمدان، وهو يمثل في المعتقد والضمير المسيحيين، أحد أهم الشخوص المقدسة المسيحية. وفي كل يوم يذهب الدمشقيون وأهل الشام، ومنذ أربعة عشر قرنا ليقيموا صلاتهم في المسجد المقدس، وقبر يوحنا المعمدان الرمز المسيحي يتوسط جموعهم، ولم يحدث قط أن قام الدمشقيون بإزالة قبر هذا الرمز المسيحي، باعتبار القبور شكلا من إشكال عبادة الأزلام والأصنام، كما يبشرنا بعض القوم في القرن الواحد والعشرين، أو لاعتبار يوحنا المعمدان المسيحي عدوا للمسلمين.
المسجد الاموي كما طقوس الصلاة فيه، كما إيمان المصلين فيه على مدى أربعة عشر قرنا، تنتمي لنمط من التدين اعتدنا عليه في هذه الأرض، وتحديدا في مصر والمشرق العربي, وهو اسلام يعكس عناصر الحياة في هذه البلاد، فانتقال الإنسان من البدائية، والترحال، وحيث اللادولة، واللاكتابة، واللاقانون المكتوب، إلى محتمعات الحضارة، والكتابة، والاستقرار، والسكن، والمدينة، والدولة، والقانون المكتوب حدث في هذه البقعة من العالم، وهو ما انعكس في تطور الاديان فيها، كما انعكس في صيغ العيش المشترك واحترام التعددية فيها.
في فهم معنى ما يجري في المسجد الأموي، ومعنى الخروج عن النمط الذي جرى في بلدة الفحيص، من المهم التوقف كثيرا عند نمط التقويم السنوي الذي اختصت به كل من المسيحية، والإسلام، واليهودية، واعتمدته كل منهم، كتقسيم لأيام العام، يمكن القول إن اختيار التقويم يعكس حقائق تاريخية وثقافية قلما نفكر فيها، ففي المنطقة التي ولدت بها الديانات في مشرقنا العربي، انقسمت الأرض والجغرافيا بين إقليمين؛ واحد جاف صحراوي، وآخر شبه جاف وماطر، وفي المناطق الجافة وبفعل ضعف الموارد من نبات وحيوان، سادت مجتمعات الرعي والرعاة وحيث تربية القطعان هي التي توفر الطعام والشراب، واللباس والأثاث والمساكن وحتى أسماء الابناء والبنات، وأما في الأرض التي توافر بها النبات والحيوان، فقد تحولت الأرض والاستقرار بها لسبب للزراعة والاستقرار وتطور النشاط العمراني، والحرفي، والتجاري.
ففي المجتمعات الرعوية كان القمر هو المرشد لحركة الجماعات ولإيقاع حياتها وحياة قطعانها، وأما في المجتمعات الزراعية ولان الزراعة وما تشتمل عليه من نشاط لحراثة الأرض ودس البذور فيها، ورعاية النبات، وإزالة الحشائش الضارة منها، وسقايتها وحصادها، ترتبط كلها بالشمس التي تنضج النبات، والتي تسمح حركتها بهطول الأمطار فكان التقويم شمسيا، وعليه، فمن المهم الانتباه إلى حقيقة أن التقويم المعتمد في اليهودية والإسلام كان التقويم القمري، في حين ان التقويم المعتمد في المسيحية كان وما زال هو التقويم الشمسي، الذي يعكس البيئة والجغرافيا التي نشأت في ظلهما المسيحية في بلاد الشام أو سوريا التاريخية.
المسيحية التي يعرفها عقلنا القاصر على أنها مجرد مجموعة من النصوص، كانت في العمق والجوهر تراثا حضاريا وثقافيا يعكس مستوى التطور الكبير الذي عاشته مجتمعات أجدادنا في فلسطين وبلاد الشام التي حولها الانتقال من المجتمع البسيط إلى مجتمعات الحضارة بفعل من الجهد الإنساني الإبداعي على مدى آلاف السنين، ما جعل المسيحية ترتكز إلى الشمس وحركتها لتعتمدها تقويما.
والحال، فإن ما جرى في بلدة الفحيص، وما جرى ويجري في المسجد الأموي في دمشق منذ قرون يجعلنا أمام نموذجين أو نمطين في الممارسة للدين الإسلامي الحنيف وفي علاقة المسلمين بشركائهم في الأرض والتاريخ والوطن والدم من مسحيين وكثير من الطوائف التي تعيش قريبا من وطننا الأردني.
أجزم أن كثيرا من العقل الاقصائي والتهميشي فينا، كما كثير من العقل الجاهل فينا، والذي يرى في المسيحي نقيضا له، في الوطن والدين، مبعثه هو تلك المقاربة التي يتم من خلالها إنتاج العلاقة المسيحية -الإسلامية في أوطاننا وفي بلداننا، فالمسلم الذي يرى في المسيحي مكونا غريبا، أو نقيضا، أو طارئا حاله كحال اللاجئ السوداني أو اليمني أو الأفغاني الذي قدم لبلادنا، هو ضحية لمقاربة سادت تاريخيا أنتجت هذا الشكل المنحرف في النظرة وفي طقوس العلاقة ما بين مكونات الوطن من مسلمين ومسيحيين.
وفي هذه المقاربة القاتلة للدولة وللوطن والمواطنة، يغيب عقل الدولة عن أمر صناعة العلاقة بين السكان بعضهم ببعض, ويترك أمر صناعة الاسمنت الذي يربط أعضاء الجماعة يبعضهم البعض بما أسميه بقوى “التفسير والتأويل للنص الديني”.
ووفق هذه المقاربة ينظر المسلم إلى المسيحي ويعرفه، وفق التفسير والتأويل الذي قدمه إليه بعض رجال الدين أو قدمه إليه برنامج إعلامي ديني، فمن يصنع صورة المسيحي في ذهني وفي عقلي، ومن يصنع الرموز المرتبطة بالمسيحي في عقلي وفي ذاكرتي هو تأويل النص الديني الذي يقدم لي من خلال رجل الدين، وربما من المهم التذكير أن جزءا من خطأ المنهج الاستشراقي الذي نعاني منه نحن المسلمين، ودفعنا ثمنا له، وما زلنا، هو أن المنهج الاستشراقي يدعي أنه يفهمنا بعد أن درسنا وتعمق في دراستنا، ولكن المأخذ على هذا المنهج هو أنه قام بدراسة الشرق الإسلامي من خلال النصوص الرفيعة كالقران الكريم، والحديث الشريف، ونصوص الشعر العربي الكلاسيكي، وهو اكتفى بدراستها ليخرج بتعميمات حول الشرق، وحول ماهيته، وحول هويته. ثمة فارق كبير بين أن تفهم المسلمين من خلال الفضاءات والممارسات الاجتماعات والاقتصادية التي يعيشونها على مدى اليوم، وبين أن تكتفي بدراسة نصوصهم الدينية.
تعريف المسيحي من خلال تفسير بعض رجال الدين المسلمين للمسحيين من خلال نصوصهم وحيث المنهج التأويلي، هو مصدر كثير من الشرور في العلاقة بين المسحيين والمسلمين الذين كانوا دوما شركاء في الوطن والتاريخ والجغرافيا والثقافة وكثير من المعتقد، وحيث المنهج التأويلي يجعل حتى من المسلم يعرف نفسه على أنه سني في مواجهة الشيعي والعلوي والجعفري والدرزي، وانه يعيش معهم الاختلاف لا التشابه والتكامل والإخاء ناهيك عن العداء في بعض الأحيان.
وأما المقاربة التي تنسجم ومجتمع الدولة، وحيث أعضاء الجماعة هم جميعهم مواطنون، لا رعايا طارئون، ولا سياح زائرون عابرون، فإن المقاربة التي يجب على عقل الدولة أن يتبناها، وأن يبنى عليها العلاقة بين مكونات الوطن والأمة من مسلمين ومسيحيين، فهي في الدخول الى الهوية المشتركة للمسلمين والمسيحيين، ليس من خلال النص الديني وتأويله، الذي سيختطفه البعض ليفرق بين عناصر الامة ومكوناتها، بل من خلال عناصر العيش الاقتصادية والاجتماعية والطقوسية واللغوية والتراثية والمعمارية والتاريخية والمعرفية والرمزية المشتركة، والتي لطالما جعلت من المسلمين والمسيحيين في الأردن والمشرق أبناء وشركاء في وطن واحد.
فالمسيحية لم تكن يوما ولو للحظة واحدة من الزمن مجرد ديانة ومعتقد أيماني، حملته طائفة أو جماعة امتلكت حضورا هامشيا أو لحظيا في مسيرة التاريخ الطويل والممتد لهذا المشرق العربي الكبير، والمسيحية، لم تكن ولو للحظة واحدة مجرد دين أو مجرد نص ديني، بل كانت تراثا حضاريا معاشا أكثر منه نصوص مكتوبة تحتاج للتفسير والتأويل، أنتج عمارة بديعة في جرش وأم قيس وعمان وطبريا ونابلس والقدس، شكل وما زال يشكل واقعنا وهويتنا، ومعمارنا حتى اليوم، والمسيحية كانت وما زالت تراثا لغويا نعيشه ونستخدمه مسلمين ومسيحيين حتى اليوم، وحيث اللغة العربية التي هي لغة القران هي امتداد لغوي ومعرفي ورمزي للآرامية التي كانت لغة السيد المسيح، وأما مفردة مرحبا التي نحيي بها بعضنا البعض مسلمين ومسيحيين فهي مفردة أرامية تنتمي للغة السيد المسيح، وبهذا المعنى، فان المسيحية والإسلام هما تراث ديني واحد، ناهيك عن أنهما تراث ثقافي ومعماري ولغوي وفلسفي واحد.
في إنتاج الاسمنت الحداثي أي العلاقة الحداثية التي تربط الأردنيين بعضهم ببعض، بات من المهم الانتقال من انتاج الصور عن المسيحية من خلال النص الديني ومن خلال تأويل رجل الدين للنص الديني. بل آن أوان عقل الدولة بما يملك من أدوات كالمنهاج الدراسي، ومن فضاءات تعليمية كالمدارس والجامعات ومن فضاءات ثقافية ودينية وحضارية كالمتاحف، والمساجد، والكنائس، ومن منتجات فنية وتراثية ليتم من خلالها صناعة الصورة والهوية للأردنيين، مسيحيين ومسلمين، وليتم إنتاج الهوية المواطنية المشتركة للمسلمين والمسيحيين، وليكتشف المسلم الأردني أن كثيرا من عادات طعامه، وأن الكثير من عناصر عمارته، وان كثيرا من عناصر لغته، وأن العديد من طرائق عيشه اليومي طورها أجداده من سكان هذه الارض الذي كان كثير منهم يومها مسيحيين.
التعليقات مغلقة.