كانت في زيارة لابنها الاكبر في العراق ، وهذه المرة الثانية التي ذهبت فيها لزيارته ،كانت الزيارة الاولى في آخر كانون الأول عام 1974م وامتدت حتى بداية كانون ثاني 1975 م.
هو ابنها الأكبر وكان في سفرة طويلة امتدت اثنتا عشر سنة متواصلة ،هي اثنتا عشر سنة من الفرقة ، اثنتا عشر سنة من عذاب الشوق والحسرة ،بل هي سنوات انقضت يوما بيوم يملؤها الحنين وتزخر لياليها بالحلم ، احلام النوم وأحلام اليقظة …وهل تنام أم وابنها في الغربة لا تكاد تعلم من أخباره شيء؟.
ان الفرقة اشد من الرمضاء لسعا على قلب الأم الفلاحة التي تربت طوال عمرها معتدة “بالعزوة”..العزوة الذين تفرقوا ..تفرق ثلاثة من فلذاتها (الخمسة )،واحد الى الهند والثاني الى الجزائر والثالث ابتلعته سجون الاحتلال للمرة الثانية ..
تملأ خيالها يوميا برؤيتهم مجتمعين حولها .. يجلسون على مسطبة الدار.. يتناولون اقراص السنبوسك التي صنعتها بيديها الماهرتين وخبزتها في الطابون ،ونضجت حتى تقمرت تفوح منها روائحها الشهية .
– سأصنعها من اللحمة الحمراء هذه المرة ..الاولاد كبروا ..لا..لا.. لا أستطيع هذه المرة صناعة السنبوسك من زوائد اللحمة التي يضعها اللحام بجانب الميزان ..ساق الله على تلك الايام كنا في بيت واحد ..فنشتري من اجل “الزفر” حرصا على صحة الأولاد، كيلو لحمة “قطيم” مع كيلو بصل ، مع الفلفل والبهارات وعجين القمح البلدي
-..لا.. لا اليوم الحال افضل يمكن أن نشتري ثلاث كيلو لحمة نظيفة ,والمرة سوف احشوا العجينة كلها باللحمة وليس مثل ايام زمان حيث يضع الناس ما تيسر “الريحة ولا العدم”..صاحبنا يحب السمبوسك جدا ..هذه المرة سوف اخبز كمية كبيرة وليأكل الواحد قدر ما يشاء بدون تقسيم.. سأضع الاقراص في الصينية ، وليأكلوا حتى يشبعوا.
-اي لعن الله ابو الفرقة والله اليوم الحال أحسن ..
لا احسن ولا شيء..الحال احسن باللمة وبدون يهود ..
-ولكن الامكانيات احسن ..واصبح في بيتنا غاز ثلاث عيون ، وبيت خارج داخل البيت!..
– والله الدنيا هيك وهيك ، يوجد ما هو افضل ولكن ..اليهود ..الاحتلال..!.
——–
حرق قلبها الاشتياق وقررت الانطلاق الى بغداد صبيحة اليوم التالي ، ولم تهدأ نفسها الا حينما رتبت حقيبتها وحزمت امرها ورأت نفسها تسير في الطريق.
——
-“في أي يوم نحن؟”سألت ابنها
-“الاربعاء “اجابها
-“يا يما ..يعني بعد غد الجمعة؟”سألت بلهفة وقد تشوش كل شيء في رأسها.
-“يعني ..يعني بعد غد الجمعة” قالت ذلك وقد لاحظ ابنها انها تتكلم بصورة غير عادية وهي تقريبا شاردة الذهن. وتسائل في نفسه ان كان يوم الجمعة القادم هذا ليس كبقية الايام ، وقد لاحظها صامتة ولاحظ في صمتها حزما ..لاحظ في صمتها امرا ما لم يفهمه.
-“ما بك يا أمي؟”سألها علّه يفعل لها شيئا او يفهم منها سبب تغيرها الواضح.
-“سأسافر الآن” قالت بصوت يملؤه الحزم والشوق والأسف في آن واحد.
لم يمض على زيارتها لابنها أكثر من ستة ايام
– “رأيته “قالت في نفسها ولكن لا أستطيع الغياب عن يوم الزيارة..ان لم اذهب انا فمن يذهب لزيارته ؟”
أخذت تلملم أغراضها .بطريقة تعبر عن أقصى درجات الاصرار، والدمع يملأ عينيها الأثنتين
——-
لقد سبق ان ذهبت الى بيروت حينما عرفت ان ابنها هناك قادم من الجزائر . لم تكن قد دخلت لبنان ولم تكن تعرف اية عنوان هناك ، كل ما كانت تعرفه ان ابنها مسافر الى لبنان ، وانها لا يمكن ان تفّوت هذه الفرصة دون ان تراه دون ان تشمه ،بعد غياب ست سنوات متصلة .
هل يمكن لأم قطعت الظروف بينها وبين أولادها بسبب حرب 1967م ان يعجزها جهلها بلبنان عن ررية ابنها ، وتجلس في بيتها تزفر الحسرة تلو الأخرى ؟
لقد طارت بجناحين ملائكيين ، وحطت في بيروت ، واهتدت الى ابنها بخطة محكمة اتبعتها بدقة متناهية حيث أمسكت بأول الخيط من خلال جامعة بيروت العربية وسألت عن طلبة من فلسطين، كانت بثوبها القلاحي تتميز بين الجموع وفعلا هرع اليها ابناء فلسطين فسألتهم عن ابناء القريةأبناء القرية هناك ، ومن خلالهم الى من يستطيع ان يرشد عن مكان وجوده ودلوها ، وقد طاولت السماء أو ما هو ابعد من ذلك.
—-
-هل من المعقول يا امي ان تسافري بهذه السرعة ؟سألها متبرما من الفكرة
– بللت شوقي قليلا برؤيتك، فقط اوصيك بأن تتدبر أمرك وتتزوج اريد ان ارى اولادك أو على الاقل زوجتك..”
ثم اردفت وهي لا تدري ان كانت تكلمه أو تكلم نفسها
-“يا حبيبي أخوك في السجن كما تعلم، ويوم الجمعة القادم علينا هو موعد زيارته ..من يزوره غيري ..لا زوجة ولا ولد..ولا حتى أب..”.
——-
ان يوم الزيارة ليس يوما عاديا..
يبدأ المعتقلون بتهيئة انفسهم للزيارة قبل ايام من موعدها ، بعضهم يتدبر قميصا معينا من زملائه وبعضهم يريد ملابسه مكوية ، ومعظمهم يقصون شعورهم ، وصباح الزيارة يحلقون ذقونهم..ان يوم الزيارة يقطع سياقا فيبدأ بعده سياق جديد، يساهم في كسر سيلان الزمن .
-“ستأتي امي واختي هذه المرة ، لم أر أختي منذ ثلاث سنوات” قال لصاحبه”قد كبرت خلالها ، وانا كذلك كبرت ،تخيل :اننا نكبر داخل السجن !واهلنا يكبرون وهم خارج السجن!”.
-“اقول لك بصراحة :قبل ثلاثة اشهر ,شاهدت صبية جميلة جدا ، كانت تزور احدهم بجانبي، طار عقلي معها ، وهذا يجيب على سؤالك يومها عندما عدت من الزيارة ولاحظت انني في مزاج غير عادي ولم اتقبل أسئلتك، عدت يومها وطمرت رأسي تحت البرش وتمددت نائما حتى المساء..هي فتاة ارق من النسمة ، وابهى من القمر ، وأشهى من كل شهي في الدنيا، نظرت اليها وأظنها بادلتني النظرة ، فشعرت حينها انني بائس ..ان السجن قبر وانا ميت فيه ، وهي نجمة الصبح وانا لا اشاهدها حقيقة .. انا لم اعرف حينها من انا ..فقط طمأنت نفسي انني في حلم جميل كي اتمكن من التماسك الداخلي والاستمرار في التعامل الطبيعي مع أهلي ..ربما لاحظت أمي نظراتي وحالي ..لقد شاهدتها توزع نظرتها بيننا مصحوبة بتنهيدة عميقة ،وغامت عيناها ثم رمشت بشكل متواصل ، ربما انها كانت تداري د معة حرى..وسألتني عن أحوالي في السجن”
وبعد لحظة صمت:
-يا صاحبي شعرت حينها انني انسان تعس ..ماذا فعلت لأمي سوى انني اسبب لها الحزن العميق الذي تداريه امامي ؟ لقد حلمت كثيرا بيوم عرسي وضبطّها اكثر من مرة تحدث نفسها في شؤون الخطبة والزواج .. كان وجهها يتغير .. يمتليء وجهها سعادة ويكشف ثغرها عن ابتسامة رقيقة ، ثم ينقلب حالها …”
-“لا تقلبها غما يا صديقي ، فحالنا كله من بعضه . ثم قل لي :هل يتملكك كل هذا الاحساس المرهف وقلما يظهر عليك مثل هذا؟”
-“انني في اغلب الاحيان اتماسك وفعلا انا كما قلت لي مرة بأنني اتمتع بصلابة ، واتفهم ظروف الرفاق ومشاعرهم ، وفي الحقيقة انا مثلهم ، فربما يكون الثوريون اكثر رهافة من غيرهم الى جانب ما يتمتعون به من صلابة وترفع عن بعض الامور…”
_”انظر الى هذا ..انه يتجمل قدر استطاعته ، وقد أعطى ملابسه لصاحبه الذي يعمل في المغسلة وأعادها له مكوية بينما الذي يقف بجانبه استعار البسة صديق له من غرفة ثلاثة من ابناء قطاع غزة ، يقول ان اناسا يشبهون الملائكة من المحتمل ان يأتوا مع زائريه..نظف شعر وجهه كله بالخيط ورتب حاجبيه وشاربيه وكأنه في ليلة عرس ..”
-“كما ترى كل الشباب مشغولة بالزيارة ..وبعضهم يتمنى ان تكون زيارته مع فوج اناس معينين من اصدقائه..”
تأتي امهات متطوعات لزيارة معتقلين من الدوريات ليس لهم أقارب، بعض الزائرات يزرن ابنائهن ثم ومكررا يطلبن زيارة أحدهم من لبنان أو من العراق ، او يأتين في موعد آخر لزيارة أسرى الدوريات.
ان الزيارة تعني لقاء اناس آخرين غير نزلاء السجن ،كما تعني اربع علب سجاير عمر وربما يتاح للمرأ ان يدخن سيجارة أو اثنتين بالكعب (الفلتر) بل ان بعضهم يستطيع ان يهرّب عددا من السجائر من تحت انف السجان ويكون سعيدا بغنيمته الى جانب سعادته بتفوقه على التفتيش …
غير ان الاهم هو تبادل الاشجان والأحزان والأفراح من وراء شبك الزيارة “..اخوك مريض..بنت خالك تزوجت ..سجنوا اولاد الجيران..سافرت الى الاردن ..ابن فلان تخرج من الجامعة, كان ابن صفك…عرس ابن الجيران كان جميل جدا تمنيت ان يكون عرسك وبكيت…”
نادوا على اسمه مع الفوج الثالث، خرج معهم من الغرفة ليتجمع آخرون من القسم ,وبعد انتظار تحت رقابة الحراس ,يفتحون باب القسم فيلتقوأ مع الزائرين من أقسام أخرى..انه يوم عيد ..انهم يلتقون من مختلف الاقسام ..اكثر من عشرين سجينا.
لا يرون بعضهم من اقسام محتلفة ، تفصل بين القسم والقسم حواجز من الاسلاك الشائكة والمنع مما يجعل القسم عن الآخر وكأنه في ولاية أخرى .
-“اليوم نرى بعضنا في الغرف المتجاورة بفعل النضالات والاضرابات وتكرار الاحتجاجات ,بينما قبل سنتين ما كان يسمح لأحد في غرفة اثنين ان يتصل بمن هو في غرفة واحد وهما متجاورتان لا يفصل بينهما سوى حائط اسمنتي.. اما الاقسام فكانت مفصولة عن بعضها تماما كما لو كان كل قسم في دولة ..”
-“الاضرابات والمصادمات والثبات على المواقف زحزح ادارات السجون شيئا فشيئا وتمكن المعتقلون من انتزاع بعض التحسينات ..اليوم يمكنك ان تفرش البرش في النهار وتجلس عليه بينما كان هذا جريمة يحاسب عليها السجين بقطع الزيارة واسبوع او اثنين في الزنازين..”
-“انا سعيد ان التقي بك يا صديقي وان شاء الله نجلس بجانب بعضنا على شباكين متجاورين..”
-“اذا دخلنا قبل الاهل نجلس بجانب بعضنا اما اذا أدخلوا الاهل قبلنا ,فالمسألة مسألة حظ..”
——
كانت غرفة الزيارة على مسافة من الاقسام ,وهي عبارة عن غرفة مستطيلة مقسومة قسمين بشكل طولي ويتخلل الجدار الفاصل شبابيك متجاورة عليها حمايات وشبك بفتحات صغيرة على شكل مربع ضلعه واحد سنتمتر فقط .
على كل شباك كرسي يجلس عليه السجين ومن الجهة المقابلة كرسيين اثنين.
-“في السجنة السابقة كنا نزور في ساحة مكشوفة مقسومة بشبك طبقتين واسلاك شائكة يقف المعتقلون في جهة واهلهم في الجهة الثانية..”
—
-“توقفوا” صرخ السجان بجلافة حينما اقتربنا من باب غرفة الزيارة.”انت اسكت ..ولا واحد يتكلم..”
قام احدهم بعد المساجين وتسجيل الرقم على ورقة يحملها بيده ,ثم أمر بتفتيشهم واحدا واحدا ,وكل واحد يخلع نعليه ويفتشها السجان وحتى “البابوج” يخضع للتفتيش .
بعد اجراء التفتيش الجسدي بخشونة,،يقرأ الاسماء اسما اسما ويدخلهم آحادا حيث يستقبلهم حراس آخرين ويأمروهم بالجلوس حسبما ارادوا ,ولم يكترثوا كثيرا لرجاء المعتقلين الذين رغبوا في الجلوس المتجاور.
-“اسكت ..تشمور على شيكت ..اذا حصلت أي فوضى نلغي الزيارة ..اذا رفع احدكم صوته نحرمه من الزيارة ..”وتوالت التهديدات .
دخلت واحدة من الزائرات و كان وجهها ممتقعا
-“لقد فتشني هؤلاء الكلاب وكل قطعة من جسدي ..كانت تفتشني السجانة والجنود واقفون . ثم ادخلتني الى معزل واصرت ان تفتش ملابسي الداخلية .واحدى الزائرات لم تتحمل التشديد في الاهانة والاذلال فصرخت ولم يسمحوا لها بالدخول ,وحينها اخذت تبكي بصوت يقطع القلب خشية ان يمنعوها بعد ان وصلت الى ابنها ..”
ان الشرطي في اقل رتبة يستطيع ان يتحكم في مسار الزيارة بالتفاصيل وكذلك بالجملة ويستطيع طرد الزائر او السجين ويستطيع خلق اجواء من النكد والاشمئزاز ,بل ان بعضهم يرى لقاءات الاهل وكأنها ترف تم انتزاعه من جلده .
—-
دخلت وعيناها تسبقانها تفتش عن ولدها ,كانت تشدّ جسدها الى اعلى وتقطب حاجبيها وتزم فمها وكأنها عطشانة وتبحث عن قطرة من الماء لا..لا ..بل كأنها تريد ان تتأكد انها وصلت الى المكان الصحيح وانها سوف تجد شفاء روحها ووجعها الذي سعت اليه من بغداد حتى بئر السبع..
تغير لونها لقد اصبح اكثر اشراقا ثم اعادت ترتيب شكل وجهها مستهدفة التعبير عن سعادتها بابتسامة سرعان ما هاجمها الدمع فأجهشت في البكاء للحظات ..ثم جففت عيونها بكمها وأخذت تدفع بالابتسامة من بين الدموع ,وبان عليها السرور وامتلأ وجهها حيوية وعادت اليها اشراقتها وأخذت تتلمس الشبك الفاصل ويغالبها الدمع تارة وتبزغ من بين الدموع والتقلصات ابتسامة وكأنها منتزعة غصبا الى ان هدأت نفسها بعد ان تأكدت انها وصلت في الوقت المحدد وانها دخلت فعلا ,وانها تجلس قبالته بدون أي شك .
-“يا حبيبي ..آه لو تعلم ..ثلاثة ايام وانا في السيارات حتى وصلتك ..انني لا أصدق نفسي ..كنت يوم الاربعاء في بغداد ,واخوك بخير “قالت وهي تتعجل الكلام راغبة في توصيل كل ما تريده معا وفي جملة واحدة.
من الواضح ان صدرها يفور اشتياقا وانها راضية عما فعلت كما لو كانت حققت انجازا هاما ..
-“وصلت صباح الخميس ..وتوجهت بعد ان استرحت قليلا الى الجسر حيث نمت ليلة الجمعة في البيت
نمت ؟
لا أعلم ان نمت أو غفوت أو أسهدت
فقد كنت في الرابعة صباحا أمام مكتب الصليب الأحمر في المدينة و قبل وصول الباص .
ثم تحرك بنا الباص ليصل في الموعد المحدد إلى مكان الإنتظارتحت حراستهم .
فيأخذوا بمراقبة كل حركات الاهل ويصرخون كي نظل جالسين وصامتين ومعنا الاولاد الصغار الذين لا يهجعون
كدت ان امزق شرطية تطاولت علينا وكأننا حاثالات أمامها ثم قلت في نفسي سيطردونني بلا زيارة
ولم أصدق نفسي حينما نادوا على اسمك للزيارة .. التفتيش قاسي جدا ..وهو لا يحتمل, والله لولا الشيء الاهم لمزقتها هذه الشعثاء التي تصرخ فينا , والحمد لله ضبط نفسي ,وتنفست الصعداء حينما قالت لي ادخلي..”
-“احتجينا عليها للضباط ,وأحدهم قال اكتبوا شكوى ..نشكي لمن؟ الله يلعن ابوهم ..الله يمسحهم عن وجه الارض بدل هذا الاذلال وهذا التحكم في مشاعرنا..”
“اخوتك بخير والحمد لله ,اخوتك في الخارج واخوتك في البلاد يهدوك السلام ولا ينقصنا شيء..كل اهل البلد يهدوك تحياتهم وكل …”.
التعليقات مغلقة.