مؤسسة سيدة الأرض الفلسطينية في مجابهة التطبيع … كسر الحصار ومواجهة التطهير العرقي / د. كمال الحسيني
د. كمال الحسيني* ( فلسطين ) – الإثنين 23/1/2023 م …
*الرئيس التنفيذي لمؤسسة سيدة الأرض…
على مدار ستة عشر عاماً، ظلت مؤسسة سيدة الأرض وفية لرسالتها ورؤيتها الوطنية والثقافية والانسانية، وحفرت عميقاً اسم ومكانة فلسطين في الوجدان العربي والدولي، وحافظت على الاتصال والتواصل مع كبار الشخصيات الوطنية والقومية والدولية من السياسيين والفنانين والإعلاميين والكتّاب العرب، ورسخت معهم بناء الجبهة العربية لمواجهة التطبيع، حيث توجت الجبهة الثقافية مكانتها المتقدمة في مسيرة نضال شعبنا نحو الحرية والاستقلال.
ان دور المثقف دور حيوي في التعبير عن الهموم القومية والوطنية والتصدي لمواجهة التحديات والمؤامرات التي تستهدف تصفية القضية المركزية دون أن ينال شعب فلسطين حقوقه العادلة والمشروعة التي أقرتها الشرعية الدولية المتمثلة بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، ومن هنا فان دور ومكانة المثقفين والفنانين العرب، وما يعبرون عنه من مواقف عبر كتاباتهم المختلفة وأعمالهم الفنية والمسرحية والدرامية من شأنها التأثير في الرأي العام وإحراج الحكومات والأنظمة العربية التي وضعت على أجنداتها موضوع التطبيع ليتم التنفيذ في اللحظة التي تقرر فيها الادارة الأمريكية لأن هذه الأنظمة العفنة فاقدة لشرعيتها وفاقدة لقرارها المستقل .
وعلى المثقفين العرب أن يستمروا في نضالهم عبر الكلمة الحرة والموقف الشجاع المنتظر منهم في هذه اللحظة التاريخية الصعبة التي يمر بها الشعب العربي، في ظل هجمة امبريالية شرسة تستهدف اعادة بناء المنظومة العربية على أسس جديدة بإفراغها من مضمونها العربي وإنهاء أي شكل من أشكال التضامن العربي المشترك وجعل كل دولة من الدول تبحث عن ذاتها في ظل تكالب المطبعين والمهرولين الذين صمتوا دهراً ونطقوا كفراً بعد سنوات من الصمت العربي المخادع .
إن أبسط معنى وأكثره مباشرة ووضحاً للتطبيع هو قبول هذا الآخر- النقيض – المحتل ضمن شروط هيمنته وإكراهاتها العسكرية المفروضة بالتفوق الذي أتاحته له راعيته الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية، والتعامل بصورة طبيعية مع مؤسساته المختلفة التي هي جزء لا ينفصل عن هذا الاحتلال، وعليه، فإن أي تعاط معها يعني القبول بشرعية هذا الكيان الاستعماري البشع.
وهو أمر لا يمكن تحقيقه فعلياً إلا بإلغاء الرواية العربية البديهية حتى الآن، وإحلال رواية استعمارية غالبة يتوجب قبولها على أنها الصيغة الوحيدة المقبولة حتى الآن ، حتى لو لزم الأمر الاستشهاد بآيات قرآنية عن بني اسرائيل الذين قيل لهم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتبت لكم، من دون التفريق اللازم بين إسرائيل المعاصرة بصفتها مشروعاً استعمارياً غربياً، أوروبياً بالدرجة الأولى في البداية على الأقل، وبني إسرائيل القدامى بصفتهم “شعباً” منقرضاً بالمفهوم التاريخي، شأنهم في ذلك شأن جميع الشعوب القديمة التي أعادت إنتاج ذاتها في سلسلة لا نهائية من التحولات الثقافية واللغوية والحضارية ضمن شروط الاستمرار في المكان، وكل ذلك على أي حال يظل جدالاً لا ضرورة له نتورط فيه بين حين وآخر، بعيداً عن المعطيات التاريخية السياسية المعاصرة التي لا تنظر إلى الكتب المقدسة بوصفها وثائق دولية يُستند إليها في اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية.
معركتنا لم تتوقف وهي مستمرة مع العدو الصهيوني، المعركة طويلة وصعبة، ولا يكفي أن نعرف معسكر الأعداء ونحدده، بل علينا فهمه أيضًا، فإن هذا الفهم يضعنا أمام حقيقة أن هذا الصراع مع المستعمِر الصهيوني هو صراع مُركّب؛ أي أن له مناحٍ عدة؛ فهو صراع عسكري وحضاري وثقافي، الخ، ولا يمكننا الاكتفاء بمواجهة العدو بالمقاومة المسلحة، بل علينا مواجهته ثقافيًا وفنيًا، الخ.
ذلك كلّه لمواجهة ماكينة كيّ الوعي الصهيونية، ولعزل العدو في كافة الساحات التي يحاول إثبات نفسه فيها، فمعركتنا مع العدوّ الإسرائيليّ معركةٌ على كلّ الجبهات، وفي طليعتها : جبهاتُ الثقافة، والفنّ، والإعلام، والرياضة.
علينا أن نعي أنّ السبيلَ الأهمّ لمواجهة هذا التطبيع يصيب البيئةَ غيرَ المطبِّعة؛ فلولا هذه البيئة، بيئتُنا نحن، لما استسهل المطبِّعون التطبيعَ، وأهمُّ ما نفعله في هذا الصدد هو “مواجهةُ ثقافة الاستهتار أو الاستهانة بالمقاطعة، وذلك يتمّ بسردِ ما حقّقته المقاطعةُ في العالم والوطن العربيّ من إنجازات على صعيد الفنّانين والأكاديميين والطلّاب وأعضاءِ الكنائس والجمعيّات العلميّة والفِرق الرياضيّة والبلديّات وصناديقِ التقاعد وغير ذلك.
كما نواجه ثقافة الاستهتار بسرد إجراءات العدوّ ضدّ المقاطعة، ومنها: أنّ الكنيست الإسرائيليّ سنّ قانونًا لمحاربة المقاطعة؛ وأنّ وزيرَ الأمن والشؤون الاستراتيجية عُيّن مسؤولًا عن تطبيقه.
نعم، نقولها بصوت مرتفع، علينا نقدُ “ثقافة الحوار” الليبراليّة السمجة، ومن أهمّ مداميكها: التسامحُ مع (الآخر) والسلامُ معه، وكأنّ المحتلّ محضُ (آخر) وتفهّم وجهات النظر المتعددة وتفهُّم السرديّات الأخرى، وفي رأينا، أنّ قضيّة فلسطين، بشكلٍ خاصّ، لا تحتمل إلّا سرديّةً واحدة، اسمُها: حريّة كامل فلسطين وكامل الأراضي المحتلة، وهذه هي الرواية التي تعتنقها مؤسسة سيدة الأرض وهذه هي سرديتها التاريخية الفلسطينية التي لا يمكن أن تسقط في اللحظة.
بالإضافة إلى الزعم أنّ “معرفة العدوّ تستلزم الحوارَ معه”، نقول بما لا يدع مجالاً للشك بأن معرفةُ العدو ضرورةٌ من ضرورات هزيمته، لكنّ ذلك لا يستلزم الحوارَ معه، ولا “تنفيعَه” بشراء كتبه وحضورِ أفلامه مثلًا، فمعرفتُه ممكنة من دون التواصل المباشر معه ومن دون تحقيق منفعة له.
وأرى أنّ على كافة الفنانين والمثقفين العرب وكافة مؤسستنا الثقافية، أن تضطلع بمهمّة تثقيف الناس في سياسة العدوّ واقتصاده وإنتاجه الفنّيّ والثقافيّ والأدبيّ والسينمائيّ، ضمن أطرٍ موجّهة، وبنُسخٍ مقرصنة، كما أنّ على جامعاتنا أن تخصّصَ مساقاتٍ عليا لتدريس إنتاج عدوّنا على كلّ المستويات.
واذا ما تأملنا المشهد العربي بشكل منهجي وفي اطار قراءة جدية ومعمقة، نجد أن مشاريع التطبيع والهرولة والخاصرة الرخوة ما زالت حاضرة في ظل مستنقع التبعية والتتبيع التي تستهدف زج كافة الأنظمة في علاقاتها الطبيعية مع الكيان الغاصب المقام على أرض فلسطين، وعلينا أن نعي تماماً ان المثقفين هم الجبهة الشامخة وصمام الأمان في مواجهة هذا الانحطاط القائم، وعليه علينا أن نعيد الاعتبار لأولنا بالاتكاء على أنفسنا وكسر الحصار الواقع على الشعب الفلسطيني وهذه مسؤولية عربية، وهي نقطة قد نتقف وقد نختلف عليها، ألا وهي زيارة الأشقاء العرب الى فلسطين المحتلة.
ان زيارة فلسطين المحتلة تتطلب شجاعة كبيرة ممن يقوم بها من الفنانين والكتّاب والشعراء والاعلاميين العرب، وهي زيارة تنسجم مع تلك المقولة الفلسطينية الوافية : (زيارة السجين لا تعني زيارة السجان) ، بل انها زيارة تضامن ووفاء للشعب الفلسطيني المقاوم الذي ظل دائماً الجدار المجابهة للتطبيع.
ومن هنا فإننا في حواراتنا مع الفنانين العرب، وآخرها حديثي مع الفنان الكبير علي حجار الذي يعتبر زيارة فلسطين تطبيعاً في ظل وجود الاحتلال، فغالباً ما يكون الحديث في هذا الأمر ذو شجون، ومن هناك قمنا في مؤسسة سيدة الأرض بكسر التابوهات والمواقف الجامدة والجاهزة واستقبلنا على أرض الحلم – أرض فلسطين – قامات وهامات كبيرة من الفنانين العرب، وكان آخرهم الفنان النجم أحمد بدير الذي التف حوله الالاف من ابناء شعبنا وهو يكسر الحصار عن نابلس ويمشي في أحياءها القديمة وبين عرين أسودها في حي الياسمين، وفي جنين حيث التقى بالناس الطيبين في رسالة واضحة للقاصي والداني، وكانت زيارته للحرم الإبراهيمي في الخليل كاسراً الحصار الجائر المفرض على الحرم الذي طفح البلاد موسم وصبا، الى تلك الزيارة الراسخة الحضور والهوية صلاة وحضوراً في المسجد الأقصى المبارك في عاصمتنا المحتلة لتكون هذه الزيارة بمثابة التحدي الأكبر لهذا المحتل الغاصب المدجج بالجريمة.
علينا أن نعيد الاعتبار لفلسطين ومكانتها على خارطة الفعل والتأثير بالعمل على تحدي اجراءات وسياسات الاحتلال التي تعمل على عزلنا عن محيطنا العربي، ومن هنا ورغم كل ما يقال عن زيارة فنانينا ومثقفينا العرب الى فلسطين، وجب علينا التدقيق والتمحيص وعدم التسرع في إطلاق وصمة التطبيع لأن هذه الشخصيات بزيارتها لفلسطين والتعرف على الواقع المعاش وملامسته انما هي الرسالة الأبرز التي علينا تكريسها في خطابنا المقاوم المجابه للاحتلال والعنصرية والفاشية والتطهير العرقي.
خلال الستة عشر عاماً الماضية، عملنا في مؤسسة سيدة الأرض على ترسيخ التضامن العربي والدولي مع القضية الفلسطينية، وبينينا مع المؤسسات العربية بفنانيها ومثقفيها جسوراً للتواصل وبناء الموقف الشعبي على قاعدة تثمين الجهود، حيث تجلى المواقف الشامخة في مؤتمرنا الأخير الذي حمل عنوان : (القدس في عيون الأحرار) والزيارات التي قمنا بها مع الوفود المشاركة والتي حملت رسائل مباشرة في مواجهة الاحتلال ونقلت صورة واضحة عن معاناة وصمود شعبنا وهو يدافع عن مقدساته العربية الاسلامية والمسيحية، حيث كانت لتلك الزيارة التاريخية للحرم الإبراهيمي في الخليل معانيها الكبيرة حيث يحرم العرب والمسلمون من الوصول الى أحد مقدساتهم التاريخية، ولكن وصلت الرسالة بالزخم الاعلامي وبالحضور اللافت للفنانين العرب الذين عاشوا تلك اللحظات المؤلمة والحالمة والمفتوحة على كافة الاحتمالات.
التعليقات مغلقة.