من يستطيع وضع الجرس في رقبة النظام الإقليمي العربي؟ / د. حسن نافعة
د. حسن نافعة* (مصر) – الجمعة 27/1/2023 م …
يمتلك العالم العربي من عناصر القوة الشاملة ما يمكنه، إن استطاع استغلالها وتوظيفها على النحو الأكمل، من النهوض بالشعوب العربية والارتقاء بها والدفاع عن مصالحها وحقوقها، ومن لعب دور فاعل على الصعيدين الإقليمي والعالمي. غير أن معظم هذه العناصر ما تزال، للأسف الشديد، إما في حالة كمون، بسبب فشل النظام الإقليمي العربي في تفعيلها والانتفاع بها بالطريقة التي تحقق مصالح وآمال الشعوب العربية، وإما مهدرة ومستغلة لتحقيق أهداف ومصالح خارجية لا تخدم هذه الشعوب.
فعلى الصعيد الجغرافي، يحتل العالم العربي موقعًا شديد الأهمية على خريطة العالم، فهو يتوسط الكرة الأرضية، حيث يقع في المنتصف بين شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، ويحتل مساحة شاسعة تصل إلى أكثر من 13 مليون كم مربع تمتد على جانبي إفريقيا وآسيا، وهو ما يوازي مرة ونصف تقريبًا مساحة الولايات المتحدة الأمريكية أو مساحة الصين، ويطل على بحار ومحيطات حيوية بالنسبة لحركة التجارة وخطوط المواصلات والاتصالات العالمية. فللعالم العربي شواطئ ممتدة على سواحل البحر الأبيض، والبحر الأحمر، والمحيط الأطلنطي والخليج العربي وغيرها، وكلها بحار مفتوحة على مختلف بقاع العالم. وعلى الصعيد الثقافي والحضاري، يعتبر العالم العربي مهبط الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، ومهد العديد من أقدم وأهم الحضارات الإنسانية عبر التاريخ، كالحضارات الفرعونية، والبابلية، والأشورية والفينيقية وغيرها. وعلى الصعيد الاقتصادي، يحتل العالم العربي مكانة اقتصادية متميزة، بحكم ما يحتوي عليه من ثروات طبيعية بالغة الأهمية بالنسبة للاقتصاد العالمي، كالنفط والغاز والعديد من المواد الأولية الأخرى، وأيضًا بحكم ما يمتلكه من أراض خصبة قابلة لزراعة وإنتاج العديد من المحاصيل المطلوبة لأمن المنطقة الغذائي، خاصة في السودان. وعلى الصعيد الديمغرافي، يعد العالم العربي واحدًا من أهم مراكز الثقل السكاني في العالم، إذ يقطنه حوالي 440 مليون نسمة، وهو ما يكاد يعادل سكان الولايات المتحدة وروسيا مجتمعين.
ترتبط الشعوب العربية فيما بينها بروابط قوية، يندر أن يوجد لها مثيل بين شعوب أي إقليم جغرافي آخر في العالم، من أهمها وحدة الثقافة، والتي تشكل اللغة العربية وعاءها الرئيسي وعمادها، ووحدة التاريخ، والذي صنعه انتماء هذه الشعوب إلى دائرة حضارية واحدة، هي دائرة الحضارة العربية الإسلامية التي بدأت مكوناتها المختلفة تتفاعل في إطارها معا منذ ما يقرب من 1500 عام. وبصرف النظر عن الجدل الدائر حول ما إذا كانت هذه الروابط تكفي لتشكيل أمة واحدة يحق لها أن تتطلع لإقامة دولتها الموحدة، إلا أنه ليس بمقدور أحد إنكار أن هذه الروابط أقوى بكثير من تلك التي تجمع بين الشعوب الأوروبية التي تمكنت بالفعل من إقامة تجربة تكاملية ووحدوية مهمة يمكن للشعوب العربية أن تقتدي بها، أو حتى أن تقيم ما هو أفضل منها. ولحسن الحظ فإن عناصر التكامل الكامنة بين الدول العربية، خاصة على الصعيد الاقتصادي، تبدو واضحة وبديهية ولا يمكن التقليل من شأنها. فهناك دول عربية غنية، كدول مجلس التعاون الخليجي على سبيل المثال، ولديها الكثير من الفوائض المالية بحكم ما تمتلكه من ثروات طبيعية، خاصة النفط والغاز، لكن ليس لديها ما يكفي من الموارد البشرية أو من الأراضي القابلة للزراعة لصنع اقتصاديات قوية ومستقلة. وهناك دول عربية لديها موارد بشرية كبيرة، كمصر على سبيل المثال، لكن ليس لديها ما يكفي من الموارد الطبيعية أو من رؤوس الأموال ما يمكنها من الاستغلال الأمثل لمواردها البشرية، وهناك دول عربية لديها الأراضي الزراعية الخصبة، كالسودان على سبيل المثال، والتي عادة ما توصف بأنها الدولة التي تستطيع بسهولة أن تتحول إلى سلة غذاء تكفي العالم العربي كله، لكنها تفتقر إلى بقية العناصر التي تمكنها من الاستغلال الأمثل لهذه الأراضي. معنى ذلك أن عناصر التكامل الاقتصادي متوافرة بشكل طبيعي بين الدول العربية، وبالتالي لا ينقص هذه الدول سوى الإرادة السياسية التي تمكنها من إقامة تجربة تكاملية ناجحة تساعدها على الاستغلال الأمثل لما تملكه من موارد متنوعة، أيًّا كان شكل الصيغة التكاملية التي يمكن التوافق حولها. ولا جدال في أن نجاح الدول العربية في إطلاق تجربة تكاملية حقيقية سيحقق فائدة مؤكدة لكل دولة عربية على حدة ولمجموع الدول العربية ككل في الوقت نفسه، ما سيمكّن العالم العربي في هذه الحالة من التحول تدريجيًّا إلى فاعل سياسي مهم على الساحتين الإقليمية والدولية.
غير أن الطموح المأمول لشعوب العالم العربي يختلف كثيرًا عن واقعها المعاش. فالعالم العربي الذي يملك الكثير من مقومات النهوض والازدهار يعيش واقعًا معقدًا ومليئًا بالتناقضات. فهذا العالم، والذي ترتبط شعوبه فيما بينها بروابط قوية كما أسلفنا، ينقسم إلى 22 دولة مستقلة، بعضها يتمتع بمستويات معيشية عالية جدًا. حيث يصل متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي إلى ما يزيد عن مئة ألف دولار سنويًّا، وهو ما يعادل أعلى متوسطات الدخل في العالم، وبعضها الآخر لا يتجاوز متوسط دخل الفرد فيه عدة مئات من الدولارات. ومع ذلك، فليست كل الدول العربية الغنية بمواردها النفطية قادرة على تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والأمني اللازمين لتمكين مواطنيها من التمتع برغد العيش.
فبعض هذه الدول، كالعراق وليبيا على سبيل المثال، والتي تؤهلها ثرواتها النفطية لتمكين شعوبها من التمتع بمستويات معيشية عالية جدًا، تخوض أزمات سياسية طاحنة تستنزف كل مواردها وإمكانياتها وتتسبب في إفقار شعوبها. ومن المفارقات هنا أن نصف سكان العالم العربي، والذي يبلغ إجمالي ناتجها القومي حوالي 3 ترليون دولار، يعيش تحت خط الفقر ونسبة كبيرة من هؤلاء تعيش تحت خطر الفقر المدقع. الأخطر من ذلك أن العالم العربي، وبسبب الأزمات والصراعات السياسية والحروب الأهلية المشتعلة في مختلف جنباته، يعد أكبر مورد للهجرة غير الشرعية وللاجئين في العالم.
لقد عاشت الشعوب العربية مرحلة طويلة من الاضمحلال والتراجع الحضاري، خاصة خلال القرن الأخير من الحكم العثماني وطوال حقبة الاستعمار الأوروبي الذي مزق أوصال البلدان العربية واستنزف مواردها، ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن تتطلع هذه الشعوب إلى مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني كي تتمكن من وضع قدميها على طريق الازدهار والتقدم، غير أن آمالها وطموحاتها على هذا الصعيد أحبطت تمامًا. صحيح أن حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي شهدت محاولة جادة لإطلاق مشروع للنهضة العربية قادته مصر الناصرية، غير أن هذا المشروع ما لبث أن انهار تحت وطأة تناقضاته الداخلية، من ناحية، والضغوط والمؤامرات الخارجية التي تعرض لها، من ناحية أخرى، خاصة من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل اللتين نجحتا في توجيه ضربة قاصمة له في 1967. وفي ظل هذا الانهيار، راح العالم العربي، ابتداء من منتصف السبعينيات، يهرول في اتجاه إسرائيل ويسعى للتوصل إلى تسوية سياسية معها، غير أن إسرائيل، وبرعاية أمريكية كاملة، استغلت هذه الهرولة لإطلاق “عملية سياسية” صُممت أساسًا لتمكينها من فرض مشروعها للهيمنة على العالم العربي، وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير حتى الآن، على الرغم من أن السلام الحقيقي لم يتحقق في المنطقة وما زال حلمًا أقرب إلى السراب. لذا يمكن القول دون تردد إن العالم العربي يعيش الآن أسوأ مراحل تطوره التاريخي وبحاجة إلى من ينقذه من نفسه ومن أخطائه، وبالتالي إلى من يدق له جرس إنذار قوي كي يستيقظ من غفوته التي طالت بأكثر مما ينبغي، خاصة وأن التحولات العميقة التي يمر بها النظام العالمي حاليًّا لن تكون في صالحه ما لم يسارع بترميم صفوفه وإعادة بناء هياكله المحطمة.
يحتاج العالم العربي أكثر ما يحتاج الآن، لكي يخرج من المأزق التاريخي الذي يعيشه حاليًّا، إلى مشروع نهضوي بديل، يحل محل المشروع الذي قادته مصر الناصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ولكي ينجح هذا المشروع البديل، ينبغي أن يتضمن ثلاث آليات مؤسسية لا يمكن الاستغناء عن أي منها:
الأولى: لحل وتسوية النزاعات بين الدول العربية بالطرق السلمية، لأنه دون أن يتحقق الاستقرار داخلها وفيما بينها، سيستحيل على الدول العربية أن تتقدم وتزدهر.
الثانية: لتحقيق تكامل اقتصادي حقيقي بين الدول العربية عبر خطة مدروسة وبرنامج زمني محدد، لأن أي دولة عربية بمفردها، مهما كانت إمكاناتها ومواردها لن تتمكن من أن تصبح قوة اقتصادية قادرة على حماية استقلالها.
الثالثة: لإدارة الصراع مع إسرائيل بطريقة جماعية ملزمة تتمكن حركة التحرر الوطني الفلسطيني من خلالها، ولكن بعد إصلاحها وإعادة هيكلتها، من أن تلعب دورًا قياديًّا مدعومًا من كافة الدول العربية، كلٌّ حسب طاقته وإمكانياته، وفق رؤية واضح ومتفق عليها من جميع الأطراف.
فمن يتقدم الصفوف كي يتمكن من وضع الجرس في رقبته، فمن يستطيع؟
——————
* عضو مجلس أمناء النهضة العربية (أرض)
التعليقات مغلقة.