وعد بلفور والدفاتر العتيقة / أنيس فوزي قاسم

 

أنيس فوزي قاسم ( فلسطين ) الأحد 7/8/2016 م …

ورد في خطاب الرئيس محمود عباس أمام مؤتمر القمة العربي المنعقد في نواكشوط (وألقاه بالنيابة عنه وزير خارجيته رياض المالكي بتاريخ 25/7/2016) أنه يطالب الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بمساعدته «»في إعداد ملف قانوني لرفع قضية ضد الحكومة البريطانية لإصدارها وعد بلفور» الذي أدى إلى تشريد الشعب الفلسطيني. ويبدو أن الانحدار الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية وصل إلى مرحلة تسمى «مرحلة المسخرة» (ولم أجد تعبيراً أكثر تهذيباً من ذلك)، فالأمين العام لجامعة الدول العربية (الخبير في تكسير أرجل الفلسطينيين) يحذرنا من الخطر الإيراني ولا يذكر الخطر الصهيوني بكلمة. وأصبح الجنرال السعودي أنور عشقي هو المتحدث باسم فلسطين من داخل فلسطين، بعدما أكمل وضوءه من مياه فلسطين استعداداً للصلاة في المسجد الأقصى، وأصبح تيار التطبيع مع إسرائيل التي لا تعرف الله، أكثر حماسة من التطبيع مع إيران التي تعلن أن «لا إله الاّ الله». ويأتي اقتراح الرئيس بمقاضاة بريطانيا بسبب ما أسماه «وعد بلفور» استمراراً لمسلسل «المسخرة»، ويبدو أن القيادة الفلسطينية لم تعد تجد في جعبتها من اقتراحات إلاّ نبش قبر بلفور والبحث في الدفاتر العتيقة. وبالمناسبة، هل نسي السيد الرئيس ومستشاروه أن المجلس الوطني الفلسطيني حين انعقد في غزة العام 1996 (وكانت تلك مسخرة أخرى) قد عدّل الميثاق الوطني الفلسطيني لشرعنة «تصريح بلفور؟».

ليس واضحاً من هي الجهة التي قامت بترويج فكرة مقاضاة بريطانيا لإصدارها ما يسمونه «وعد بلفور» وإدخالها في نص الخطاب الذي كان قد ألقاه الرئيس عباس في نواكشوط. ولا نعلم إن تمت مناقشة الفكرة بين مستشاري الرئيس، لا سيما مستشاريه القانونيين. ليس سراً أن هناك بعض الكتّاب العرب الذين يجيدون نبش الأرض بحثاً عن الرفات والمتاجرة بها. فهي عملية سهلة لا تحتاج إلى جهد كبير، بل إلى صوت عالٍ ليس إلاّ. وأذكر أن إحدى الشخصيات العربية البارزة في بلدها انهمكت لسنوات تكتب وتجيّش القراء على ضرورة المساهمة في حملة دولية تطلب من بريطانيا، حين تأتي مناسبة مرور مئة عام على إصدار «وعد بلفور»، بإصدار «وعد بلفور» آخر خاص بالفلسطينيين. وما زال بعض العرب المقيمين في أوروبا يحلمون، بل ينشطون في العمل لمقاضاة بريطانيا لإصدارها هذا «الوعد» الذي أدى إلى وقوع نكبة فلسطين، ويعتقدون أن مثل هذه الحملات الدعائية تُغني عن القيام بالواجب الأهم والأقرب والأكثر نجاعة.

ومع التسليم بأن مثل هذه المحاولات تنطوي على حُسن نية واهتمام بالشأن العام، إلاّ أنها محاولات أقرب إلى السذاجة منها الى التفكير العلمي القائم على تحليل ودراسة وتقييم قانوني لما يطرحونه من أفكار. ولم يسبق أن قرأنا مقالة تحليلية تطرح الاقتراح هذا، وكل ما سمعناه كان أقوالاً مرسلة تفتقر الى الأسباب المقنعة. وحين يمرر الاقتراح عبر خطاب الرئيس عباس، فإن مقتضيات المسؤولية الوطنية والرصانة الرئاسية وأهمية الفكرة أو سذاجتها، هي أمور تحتاج الى أكثر من تحليل وتقييم، بل إنها تحتاج الى تدقيق وتحقيق. فهل يُعقل أن يقدم الرئيس الفلسطيني اقتراحاً باسم فلسطين أقرب إلى الهزل والتبسيط المعيب أمام مؤتمر قمة عربي؟ إن في ذلك استهتاراً معيباً بقضية مقدسة مثل القضية الفلسطينية.

ومحاولة الرد هذه على اقتراح الرئيس عباس، ليست دفاعاً عن بريطانيا، فهي ليست بحاجة لذلك، ولديها كتائب من المحامين والقانونيين الذين يملكون القدرة والكفاية للدفاع عن بلدهم. بل القصد من هذا الرد هو إظهار درجة السذاجة التي اتصفت بها سلوكيات المستشارين الذين سرّبوا هذا الاقتراح الى خطاب عباس، والتحذير من غفلة الرئيس الذي يبدو أنه، بعد إفلاسه التفاوضي، راح يبحث في الدفاتر العتيقة عن أي شيء يسند به ظهره الذي أثقلته المفاوضات العبثية والتعاون الأمني.

لا جدال في أن ما يسميه الرئيس عباس «وعد بلفور»، هو إحدى أبشع الوثائق الاستعمارية وأشدها فظاظة. إلاّ أنها ربما كانت الأكثر ذكاءً ودهاءً. وقد أنفق الدكتور حاييم وايزمن، رئيس الحركة الصهيونية آنئذٍ، قرابة سنوات ثلاث وهو يفاوض الحكومة البريطانية لإصدار إعلان «تقبل» بريطانيا بموجبه «إعادة تأسيس فلسطين» كوطن قومي للشعب اليهودي. وتمّ تبادل عدد من المسودات لصيغة الإعلان، حتى انتهى الأمر الى الصيغة التي نعرفها.

من الواضح أن المستشار الذي أوحى للرئيس بأهمية اقتراح مقاضاة بريطانيا بسبب إصدارها «وعد بلفور» قد بدأ بخطأين: الأول انه لم يقترح أين سيقيم الدعوى وأمام أي هيئة قضائية، محلية أم دولية، وهذا قصور غير لائق بالمستشار. والثاني أنه يستند في دعواه الى ما يسمى «وعد بلفور». وجه الخطأ في ذلك أن الترجمة التي جرت على اسم هذه الوثيقة، كانت ركيكة، ذلك أن كلمة «وعد» لم ترد لا في عنوان الوثيقة ولا في متنها. وقد استخدم الميثاق الوطني الفلسطيني تعبير «تصريح بلفور»، وهو تعبير أدق ترجمة وموضوعاً. ويعلم رجال القانون أن «الوعد» ينطوي على «التزام»، وهذا ما تحاشاه اللورد بلفور عند صياغة تلك الرسالة، وبدلاً من ذلك استخدم تعبيراً هلامياً لا ينطوي إلاّ على مشاعر تبدو رقيقه، إذ افتتح رسالته بتعبير أن حكومته «تنظر بعين العطف»، وهذا يقطع أن بريطانيا لم تتعهد ولم تلتزم ولم تعد بالقيام بأي أمر. والظنّ عندي أن هذه الصياغة سوف تطيح الأساس الاول للدعوى المزعومة.

ولم يتضمن تصريح بلفور نصاً على تحويل فلسطين إلى وطن قومي يهودي، كما طلب حاييم وايزمن في المسودة التي قدمها الى بلفور، بل جاء النص على قيام وطن قومي يهودي «في فلسطين». وقد يكون هذا الوطن القومي حارة أو مدينة أو مقاطعة في داخل فلسطين يقيم فيها اليهود ويمارسون طقوسهم فيها. ويؤيد هذا التفسير أنه حين أصبح تصريح بلفور جزءاً من صك الانتداب على فلسطين، صار يجب أن يُقرأ ككل، وضمن نصوص صك الانتداب منع سلطة الانتداب من تجزئة الوحدة الإقليمية لفلسطين أو تأجير أي جزء منها، وهذا يؤيد أن الوطن القومي اليهودي كان سيقام ضمن الوحدة الاقليمية ووحدة الارض الفلسطينية وليس منفصلاً عنها.

ويجب الاعتراف بفضل الوزير اليهودي الوحيد في حكومة الحرب البريطانية، إدوين مونتاجيو، الذي أصرّ على إضافة شرطين واضحين على تصريح بلفور. الشرط الاول ينص صراحة على أن قيام الوطن القومي اليهودي لن يؤثر على الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية (وهو نص فيه خبث شديد)، والشرط الثاني أن الوطن القومي اليهودي سوف لا يؤثر على الحقوق السياسية لليهود من مواطني الدول الأخرى غير فلسطين.

وإذ أصبح تصريح بلفور جزءاً من صك الانتداب، فقد أصبح وثيقة دولية صادقت عليها الدول الاستعمارية كلها آنئذٍ، كما هو الوضع القائم حالياً، حين تصادق الولايات المتحدة أو تعارض مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي، فإن صادقت عليه، أصبح مشروع القرار، قراراً دولياً، وإن صدر القرار بموجب الفصل السابع، أصبح قراراً آمراً وملزماً للدول كافة. وللعلم، فإن بريطانيا، إدراكاً لمسؤوليتها الدولية، وضعت نفسها تحت رقابة وإشراف مجلس عصبة الأمم، وبالتالي تستطيع أن تدافع عن نفسها بقولها إنها كانت تتصرف بناء على قرار المجتمع الدولي آنئذٍ.

وللعلم، وبخلاف الاعتقاد السائد، فإن موضوع استصدار «تصريح بلفور» كان ضربة قاسية للحركة الصهيونية، ومن يطالع مذكرات الدكتور حاييم وايزمن (التجربة والخطأ) وهو المفاوض الرئيسي مع اللورد بلفور، يجد كم كان محبَطاً من نص ذلك التصريح. إلاّ أنه، بعدما قرأ النص، قال ما معناه «سنجعل منه ما نريده أن يكون». وهنا بيت القصيد، فقد استطاعت الحركة الصهيونية بذكائها وقدراتها الذاتية تحويل «تصريح بلفور» الذي هو وثيقة لا قيمة قانونية أو عملية لها، الى «شهادة قانونية لميلاد دولة اليهود» في فلسطين. وهذا الدرس يغفله بعض المثقفين العرب وبعض القيادات الفلسطينية التي فشلت ـ على سبيل المثال – في تحويل فتوى قانونية لمحكمة العدل الدولية كُتبت بماء الذهب إلى أي شيء ذي قيمة.

فمن الذي أشار على الرئيس محمود عباس بطرح اقتراحه أمام القمة العربية؟ وهل ناقش مستشاروه أوجه الربح والخسارة في تحريك مثل هذه القضية أم انها كانت مجرد «بحث في الدفاتر العتيقة» بعدما أفلس التاجر وأنهكته التزامات اوسلو؟

واذا كان لدى الرئيس من يقترح عليه سلوك الطريق القانوني كإحدى الأدوات الرئيسية في مقاومة الاستعمار الاسرائيلي، ألم يكن من الاولى نصح الرئيس بتحريك دعاوى آنية وطازجة والدم الفلسطيني لم يجف بعد من على أرصفة غزة والقدس والخليل بدلاً من العودة مئة عام؟ ألم تنضم فلسطين الى «ميثاق روما» و «ميثاق المحكمة الجنائية الدولية»، وزارها مسؤولون فلسطينيون عديدون حاملين ملفات وتقارير وشهادات؟ فلماذا لا يتم التركيز على هذا الملف الذي ما زال حيّاً بدلاً من العبث في تركات مضى عليها قرن أو يكاد؟

إن طرح مقاضاة الحكومة البريطانية على إصدارها «تصريح بلفور» ـ في ظني ـ ليس إلاّ هروباً من المطالبة بهزّ عرش المحكمة الجنائية الدولية التي ما زالت تتلكأ في اتخاذ إجراءات جريئة لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، ويساعدها في ذلك عدم جدّية القائمين على هذا الملف من بعض القيادات الفلسطينية

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.