قراءة في رواية إميل حبيبي ” المتشائل “: الفلسطيني بين شؤم الاحتلال وفأل المقاومة / أُسَيْد الحوتري




أُسَيْد الحوتري – الأحد 5/2/2023 م …
الكاتب ناقدا / أسيد الحوتري - نقش الثقافيّة

تتعدد مناهج النقد وتتنوع، ولعل منهاج النقد الاجتماعي من أنسب المناهج التي يمكن أن تتعاطى مع رواية (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد بن أبي النحس المتشائل) للروائي الفلسطيني إميل حبيبي، ولذلك لأن المنهاج النقدي الاجتماعي يقول بجدلية العلاقة بين الأدب والمجتمع، فالأدب يؤثر في المجتمع، وكذلك المجتمع يؤثر في النتاج الأدبي، لقد تأثرت أحداث (المتشائل) بشكل واضح وجلي بما أصاب المجتمع الفلسطيني بعد النكبة والنكسة من قتل، وسجن، وتعذيب، ولجوء، وخسارة للأرض، وللممتلكات.

هذا وقد عمل أميل حبيبي بكل ما أوتي من قوة أدبية خلال صفحات (المتشائل) على التأثير في المجتمع الفلسطيني، واتبع في سبيل ذلك النقد اللاذع والساخر من سلبيات المجتمع الفلسطيني أملا في أن يساهم نصه في إحداث تغيير إيجابي في هذا المجتمع، وهذا هو بالضبط ما يقوم به معظم الروائيين، فالأدب لم يكن يوما آلة تطبيل أو معول هدم ولكنه كان دوما انتقادا يسليط الكاتب فيه الضوء على مواطن ضعف المجتمع بغية معالجتها، أو مديحا لتعزيز مواطن القوة في المجتمع، والمحافظة عليها، والارتقاء بها إلى مستويات أعلى، لم يكتف حبيبي بتوجيه النقد الذاتي للمجتمع الفلسطيني بغية إصلاح مواطن الخلل، بل وتجاوز ذلك إلى انتقاد الاحتلال وفضح جرائمه التي ارتكبها في حق الشعب الفلسطيني.

إن ثيمة الخيانة هي أكثر ما ركز عليه أميل حبيبي في روايته، وهذا لا يعد خافيا على القارئ، فالشخصية الرئيسة في هذه الرواية هي شخصية سعيد أبي النحس الخائن لوطنه العميل للمحتل الصهيوني، وسعيد هذا ورث الخيانة كابرا عن كابر! فلقد أصبح على ما أمسى عليه والده أبو النحس. قصص كثيرة ومتنوعة قصها علينا حبيبي عن الخيانة كان الهدف منها الإشارة إلى أصل الداء وإلى أساس البلاء الذي تسبب في ضياع فلسطين.

يبدأ حبيبي روايته بالتطرق إلى ثيمة الخيانة بسرعة فائقة ابتداء من الصفحة الثانية حيث يورد مجموعة قصص عن الخيانة يأكد من خلالها بأن الخيانة قد استشرت منذ القدم عالميا وعربيا ومحليا، والسبب في ذلك يعود إلى أن الخيانة أصبحت عادة! “ولكننا تعودنا، فلم نعد نجد في خلع الملوك خارقا ولا في بقائهم” (المتشائل: 60)، ويبدأ حبيبي بتدشين موضوع الخيانة بسرد قصة حدثت في سنة (44) قبل الميلاد عندما هاجم مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الروماني (يوليوس قصير)، فقاومهم في البداية، ولكن عندما رأى صديقه (بروتس) يطعنه مع الطاعنين قال: “حتى أنت يا بروتس؟” “Et tu, Brute?” ومات. وهنا يؤكد حبيبي أن الخيانة لم تعد ذلك الفعل المستهجن الذي يكتب عنه الكتاب، ويقول: “فبروتس لم يعد أمرا فذا تكتب الروايات عنه: حتى أنت يا بروتس!” (نفس المرجع: 60).

وينتقل حبيبي بعد ذلك إلى النسخة العربية من قصة (يوليوس قيصر) و(بروتس) والتي هي قصة السلطان المملوكي المظفر سيف الدين قطز وركن الدين بيبرس، فالخيانة هي الخيانة والأسماء تتشابه؛ كما وقد كان قطز وبيبرس أصدقاء أيضا، وعندما انتصر المسلمون بقيادة قطز في معركة عين جالوت على التتر بقيادة هولاكو، كان بيبرس تحت إمرة قطز، ولأنه أبلى بلاء حسنا في المعركة، توقع من قطز أن يوليه على مدينة حلب، ولكن خاب ظنه، فأضمر بيبرس الشر لقطز، وعندما أكب صديق لبيبرس على يد قطز ليقبلها، أهوى بيبرس بالسيف على عنق السلطان قطز فقتله، وأخذ منصبه، وكان ذلك في (1261) من الميلاد، وهنا يقول حبيبي:”ولا تقول العرب: حتى أنت يا بيبرس! وذلك أن السلطان قطز لم يخرج من فيه سوى حشرجة تركية” (نفس المرجع: 60).

وبعد هاتين الخيانتين الرومية: خيانة (بروتس) لـ(يوليوس قيصر)، والتركية: خيانة بيبرس لقطز، يأتي دور الخيانة العربية، فينتسب سعيد، ويخبرنا باسمه وبنسبه الذي يرجع إلى جارية قبرصية من حلب، أسرها (تيمور لنك)، وأرسلها “مع أحد قواده إلى بغداد لتغتسل فتنتظر عودته. فاستغفله” (نفس المرجع: 63)، وهنا نرى كيف خان أن أحد أتباع (تيمورلنك) سيده واستغفله في جاريته، وكيف أن جدة سعيد القبرصية خانت أيضا (تيمور لنك) مع أحد قواده.

وهنا يجد القارئ نفسه أما خيانة تترية قبرصية حلبية! فالخيانة ماركة عالمية شعارها ضعف النفس، وإعلاء الصالح الخاص على الصالح العام، فالخيانة لا عرق لها ولا دين. ويواصل سعيد الحديث عن خيانة جدته القبرصية الحلبية فيقول: “وفرت مع عربي من عرب التويسات، اسمه أبجر…فطلقها عندما وجدها تخونه مع الرغيف بن أبي عمرة، من غور الجفتلك، الذي طلقها في بير السبع” (نفس المرجع: 63). وهنا تظهر للمرة الأولى الخيانة بمشاركة عربية أصيلة تمثلت بظهور الرغيف ابن أبي عمرة. ومما يرويه سعيد عن أجداده وجداته يدرك القارئ أن للخيانة جذورا متأصلة في عائلة أبي النحس المتشائل. ويواصل سعيد وصف تجذر الخيانة في أجداده فيقول: “وظل جدودنا يطلقون جداتنا حتى حطت بنا الرحال في بسيط من الأرض…قيل أنه عكا..” (نفس المرجع: 63).

أما الطلاق بسبب الخيانة فهو خصلة أصيلة في العائلة، يقول سعيد:”من الضروري أن أعرفك بخصلة أصيلة أخرى من خصال عائلتنا العريقة، بالإضافة إلى التشاؤل وإلى أننا مطلاقون…” (نفس المرجع: 79)، وفي هذا إشارة إلى الخيانة المتأصلة في جداته، بعد ذلك وفي سنة 1948، تبعثر أفراد عائلة المتشائل في الدول العربية ، وهنا أشارة إلى أن الخيانة التي دمغت عائلة المتشائل قد انتشر على المستوى العربي، “في سنة (1948)، تبعثر أولاد عائلتنا أيدي العرب واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لما يجري احتلالها” (نفس المرجع: 63)، هذا ويؤكد سعيد عقب كل ما ذكر من خيانات كانت تجري في المؤسسة الزوجية، أن والده أبو النحس كان خائنا على مستوى مختلف، فقد كان خائنا لوطنه فلسطين عميلا للصهاينة، “ووالدي، رحمه الله، كانت له أياد على الدولة قبل قيامها، وخدماته هذه يعرفها تفصيلا صديقه الصدوق ضابط البوليس المتقاعد، الأدون سفسارشك” (نفس المرجع: 63)، ثم يورد سعيد ما يبرر خيانته الشخصية لوطنه قائلا: “ونجونا بجلودنا إلى لبنان حيث بعناها واسترزقنا، فلما لم يعد لدينا ما نبيعه، تذكرت ما أوصاني به والدي وهو يلفظ أنفاسه على قارعة الطريق، قال: رح إلى الخواجة سفسارشك، وقل له: والدي، قبل استشهاده، سلم عليك، وقال: دبرني! فدبرني” (نفس المرجع: 64)، وهكذا كان الفقر ونفاذ ما يباع المبرر الذي قدمه سعيد لبيع نفسه ووطنه للعدو.

صورة أخرى من صور الخيانة كانت لزوجة شقيق سعيد التي لم تهرب في حياة زوجها، ولكنها “هربت بعد سنتين [من موته]، مع رجل آخر” (نفس المرجع:66). وهذا الفعل إن لم يكن خيانة على المستوى القانوني والديني فهو خيانة على مستوى العادات والتقاليد المجتمعية، فالأرملة لا تتزوج بعد وفاة زوجها، وإن تزوجت لا تتزوج إلا بموافقة أهلها ولا تهرب مع حبيب.

يستمر حديث الخيانة والوشاية حتى يصل إلى أحد زملاء سعيد الذي خان الصداقة ووشى به إلى مدير مدرسة صديقة سعيد “يعاد”، ليتسبب ذلك بضرب سعيد في محطة القطار ولم تعد “يعاد” إلى ركوب القطار للذهاب إلى المدرسة، يقول سعيد: “فقد وشى بي إلى مدير مدرستها” (نفس المرجع: 70)، مع ذلك وبعد أن ضُرب سعيد انتقم من زميله الذي وشى وبه ووقعا من القطار على رمل الشاطئ، وعادا إلى حيفا مشيا، تقع خيانة جديدة في طريق العودة، فيخون المضيف ضيفه ويحتال عليه ويسرقه، يقول سعيد: “وأطعمنا الغوارنة خبز الصاج بالزيت وبالملح وسرقوا المزودتين” (نفس المرجع:71).

ينتقل سعيد إلى بلدة معليا حيث ينزل هو وشقيقته وعشيقها ضيوفا على أحد البيوت، فتخون زوجة صاحب البيت زوجها مع عشيق شقيقة سعيد الذي يعقب على هذه الحادثة قائلا: “فيبقى عفاف أختي مصونا بفضل زوجة مضيفنا في معليا” (نفس المرجع: 78).

يقص علينا سعيد بعد ذلك قصة خيانة جديدة. يذهب سعيد وصديقاه إلى لبنان ليجلبوا السلاح والذخيرة للجهاد في فلسطين، فيلقي عناصر من الجيش اللبناني القبض عليهم، ويأخذوا منهم نصف ما يملكون من مال، وكان معهم حينها عشرين جنيه فلسطينيا، قال سعيد: “أخذ العسكر نصفه وشتمونا” (نفس المرجع:84)، وفي هذا خيانة للمجاهدين وللقضية الفلسطينية، يبقى مع سعيد وصاحبيه عشرة جنهيات أخرى، وعندما يصلون إلى بيروت، ويصرفونها على شهواتهم، يقول سعيد: “فأنفقناه فيما وراء البنك في بيروت” (نفس المرجع:84)، والظاهر أنه كان خلف البنك مكان للاستمتاع، ويؤكد ذلك قول سعيد: “ولكني كنت أبكي على الغزالة التي ضاع غزالها في بيروت، وتبينت سبب صدها” (نفس المرجع: 84)، وضياع الغزال يمكن أي يفهم من باب التلميح والإشارة إلى العجز الجنسي الذي يعاني منه سعيد والذي اكتشفه في العلاقة التي أقامها مع إحداهن خلف البنك في بيروت، وبعد رحلة بيروت يعود “المجاهدون” إلى فلسطين بخفي حنين! يقول سعيد: “فلما ألتقانا عائدين حيانا وسأل: أين السلاح أيها المجاهدين؟ أجاب كبيرنا: سلاحنا العلم، وما معنا شروى نقير” (نفس المرجع 84).

وهكذا نكون أمام خيانة أخرى فمال الجهاد يصادر نصفه من أحد الجيوش العربية، وينفق نصفه الآخر “المجاهدون الفلسطينيون”على ملذاتهم! وفي هذا نقد ساخر ولاذع من حبيبي للواقع الفلسطيني والعربي آنذاك.

تكاد الخيانة تكون حاضرة دائما بين صفحات هذه الرواية، يتذكر سعيد ما علمه إياه والده فيقول: “قد علمنا أن الناس يأكلون الناس. فحاشا أن نثق بمن حولنا من الناس، إنما علينا أن نسيء الظن بكل الناس، حتى لو كانوا أخوتك من بطن أمك ومن ظهر أبيك. فإذا لم يأكلوك فقد كانوا يستطيعون أن يأكلوك. ووالدي، رحمه الله، ظل يأكل الناس حتى أكلوه” (نفس المرجع: 88)، وهنا يتضح أن والد سعيد ظل يخون الفلسطينين لصالح الصهاينة، حتى خانه الصهاينة وقتلوه ولو بالخطأ.

في موقع آخر من الرواية يطلب سعيد النصيحة من ذي المهابة الفضائي، فيروي ذو المهابة لسعيد قصة مذكورة في أحد كتب الجاحظ تتضمن نصيحة بتجنب الخيانة وبعدم التعامل مع العدو، ومع ذلك يقول هذا الفضائي لسعيد: “لن تجديك نصيحتي” (نفس المرجع: 90)، لأنه يعلم بأن الخيانة متأصلة في سعيد، ثم يورد له القصة قائلا: “إنني سمعت في بلاد فارس حكاية عن فأس ليس فيها عود ألقيت بين الشجر. فقال الشجر لبعض: ما ألقيت هذه ها هنا لخير! فقالت شجرة عادية: إن لم يدخل في أست هذه عود منكن فلا تخفنها” ( نفس المرجع: 90)، مع ذلك فكان سعيد ذلك العود الذي دخل في أست الفأس الصهيوني وقطع ما أمر الله به أن يوصل من أشجار فلسطين.

وتبقى الخيانة الشغل الشاغل لحبيبي في (المتشائل)، فيصور كيف أن جزءا من الشعب الفلسطيني قد خان المهجرين اللاجئين والنازحين الفلسطينيين، وكان ذلك باستحلال أمتعتهم، يعترف سعيد قائلا: “ولجت بيوتا عربية مهجورة كثيرة في حيفا، من أبوابها المكسورة…وجمعت أثاث بيتي بعضه من هذا البيت وبعضه من ذاك البيت، مما بقي من متاع لم تمتد إليه أيدي الذين سبقوني في الزعامة…الذي سبقته أيدي وجهاء حيفا” (نفس المرجع: 94)، وهنا يصور حبيبي كيف أن بعضا من الفلسطينيين ضعفاء النفوس سرقوا أملاك إخوانهم في الوطن. ولم تقتصر هذه السرقة على العامة بل تعدتها إلى وجهاء المدن فخانوا كما خانت العامة.

هكذا كان الحال في فلسطين عام (1948)، هكذا كانت المأساة، أما المهزلة فكانت عندما تكررت الخيانة في فلسطين عام (1967)، عندما سقطت الضفة الغربية في يد الصهاينة فامتدت أيدي بعض الفلسطينيين من جديد إلى أملاك النازحين والمهجرين، ولكنهم لم يأخذوها ليستعملوها كما في عام (1948)، بل ليبيعوها هذه المرة، “فلما وقعت حرب الأيام الستة…رأيت أولاد القدس والخليل ورام الله ونابلس يبيعون صحون الزفاف بليرة قلت: بليرة ولا بلاش!” (نفس المرجع: 94).

ويطلق أيضا على النقد الاجتماعي النقد الماركسي والذي يركز على العلاقة بين طبقة العمال وطبقة رؤوس الأموال، قد لا تبدو هناك علاقة واضحة في الرواية بين هاتين الطبقتين إلا إن حبيبي انتقد أيضا خيانة بعض أصحاب رؤوس الأموال مثل تجار الصابون في نابلس للغتهم العربية حين اتقنوا العبرية في سنتين فقط، وشرعوا في استخدامها بدلا من لغتهم الأم، “ولما تحول أحدهم إلى صناعة الرخام علق على مدخل جبل النار لافتة بالخط الكوفي المقروء جيدا عن مصنع “الشايش” الحديث لصاحبه مسعود بن هاشم بن أبي طالب العباسي، و”الشايش” هو الرخام بالعبرية” ( نفس المرجع: 97).

وأكد السارد أن هذا من باب “مصلحة كبار القوم، التي أرخصت أمهاتهم، فقالوا: الذي يتزوج أمي هو عمي” ( نفس المرجع: 98)، وهكذا تكون الخيانة للوطن باعتبار أن من يحكمه يصبح ولي النعمة، وولي الأمر، الآمر، الناهي، المطاع. وهكذا كان بعض من أصحاب رؤوس الأموال خاضعين للمحتل مستسلمين له.

يذكر حبيبي حادثة أخرى تأكد أن بعضا ممن كانوا يدّعون العروبة والقومية ومحاربة الصهيونية ما هم إلا عملاء ولكن خلف قناع، وهنا يسرد حبيبي قصة المحامي عصام الباذنجاني الذي ينفث “اللهب على دولة الأدون سفسارشك كلما زاره صحفي أجنبي” (نفس المرجع: 98). قام سعيد في أحد الأيام بزيارة للباذنجاني فوجد زميلا له “من زعماء اتحاد فلسطين، عنده، وكان يلاعبه [النرد]، وقد هم بالخروج” (نفس المرجع: 99). لم يُخفِ سعيد دهشته مما رآه، فحيا الباذنجاني سعيدا قائلا: “جاري!” (نفس المرجع: 99). وكان سعيد يعتقد بأن سفسارشك والرجل الكبير لا يعلمون شيئا عن زيارته للباذنجاني، قال سعيد: “ما بقي إلا أن يسألني عن ليلتي السوداء في بيت الباذنجاني، فصاح: النرد!” (نفس المرجع: 100). وهكذا يتضح أن الباذنجاني المقاوم للاحتلال ما هو صديق للعملاء في اتحاد فلسطين، هو معهم وإن اختلف القناع الذي يرتديه، والدور الذي يلعبه، والدليل أن خبر زيارة سعيد قد وصل لـ(سفسارشك) ورئيسه الرجل الكبير.

ينتقل بنا حبيبي بعد ذلك إلى جارة سعيد الأرمنية التي ما كانت تطيب لسعيد إلا حين يشرب، ويثمل، فيحسبها حبيبته (يُعاد)، وتحسبه حبيبها (سركيس). وهنا صورة من صور الخيانة للمحبوب على أقل تقدير. هذه الخيانة ما هي إلا توطئة لخيانة أكبر، خيانة الوطن، ولقد اتهمت أخت (يُعاد) سعيد بأنه تسبب في إلقاء القبض على والدها، فقالت يعاد: “كلهم يقول أنت. أنت رأس الخيش؟ – أنا؟ – وأبوك من قبلك؟” (نفس المرجع: 103). ورأس الخيش هذا رجل خائن لشعبه “أخفوا رأسه بعديلة خيش، ثقبوا فيه ثلاث ثقوب، لعينيه، ولفمه، وأقعدوه وراء طاولة تحوطها العسكر” (نفس المرجع: 104). وكان الرجال تمر من أمام رأس الخيش ليتحقق الصهاينة منهم، فإذا هز رأس الخيش رأسه إلى الأمام مرتين أمام الرجل تم اعتقاله. وفي نهاية الأمر يقول سعيد: “اقتنعت يعاد وأختها بأنني لم أكن رأس الخيش” (نفس المرجع: 105). ورأس الخيش لم يكن رأسا واحدا، مع كل أسف، ولكنها كانت رؤوسا كثيرة أطاحت برؤوس!.

قصة أخرى يرويها حبيبي تأكد أن جزءا من الشعب الفلسطيني الصامد في أرضه قد خان جزءا ممن هجّر، والقصة هي قصة العجوز ثريا اللداوية التي عادت من مخيم الوحدات في الأردن إلى مدينتها، “أرادت أن تدخل بيتها القديم في اللد لتنتشل كنزها، أغلقت وريثتها الشرعية، من عهد نوح، الباب في وجهها، فلم تفاجأ حيث أن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة” (نفس المرجع: 137). فاستعانت ثريا بشرطة الاحتلال التي استخرجت بالقوة ذهبها، ولكن القيّم على أراضي كيان الاحتلال اكتفى بمنح ثريا “شهادة بالذهب، وأخذ الذهب وذهب” (نفس المرجع: 137). أما ثريا فعادت إلى مخيم الوحدات حاملة شهادة الذهب الذي ذهب.

لقد ركز أميل حبيبي على ثيمة الخيانة لأن لها الدور الأكبر في ضياع الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام (1948)، وذلك عندما أصدرت الأمم المتحدة قرارها الجائر بتقسيم فلسطين الإنتدابية، التي كانت تخضع للإنتداب البريطاني، إلى ثلاث كيانات: كيان عربي، وكيان يهودي، وآخر دولي في القدس وبيت لحم. وفي هذا القرار الدولي خيانة للشعب العربي الفلسطيني الذي منحت أراضيه لعدو جاء هاربا من ظلم وبطش الأوروبيين، وكأنّ الشعب الفلسطيني هو السؤول عن هذه الجرائم، وكأنّه هو من يجب أن يدفع ثمن ما اقترفته أيدي الألمان النازيين ومن ساندهم من الأوروبيين بحق اليهود الأوربيين! إن في قرار التقسيم الظالم خيانة للأخلاق الإنسانية، فالمجرم هو من يدفع الثمن، وهذا ما سنه حمورابي منذ القدم: العين بالعين، والسن بالسن، ولكن قرار (181) جعل الفلسطينيين يسددون فاتورة الجرائم النازية الألمانية ومن تعاون معهم من الأوروبيين. كما ركز حبيبي عدسته على ثيمة الخيانة، لأن بعض القيادات العربية تخاذلت وبعضها الآخر تواطأ مع قرار الأمم المتحدة وأدى دوره في تنفيذ هذا القرار الذي سلم أكثر من نصف الأراضي الفلسطينة للصهاينة عام (1948).

مع كل ذلك لم يكتف حبيبي بمعالجة ثيمة الخيانة، بل طرح ثيمات أخرى تظهر مثالب الشعب الفلسطيني التي ساهمت بشكل أو بآخر في ضياع وطنه، ومن هذه المثالب الفساد الأخلاقي، فذكر حبيبي أن الرحالة البلنسي الذي “بات ليلتين في خان عكاوي، في زمن صلاح الدين، فكتب عنها [عن عكا] أنها “تستعر كفرا وطغيانا” وأنها “مملوءة كلها رجسا وعذرة”” (نفس المرجع: 70).

كما وتطرق حبيبي لجهل الفلسطينيين بمدنهم وقراهم وأرضهم، وهذا ما ساهم في ضياع فلسطين، يقول سعيد: “كنا نعرف عن قرى اسكتلندة أكثر ما نعرف عن قرى الجليل، فأكثر هذه القرى لم أسمع به إلا تلك الليلة” (نفس المرجع: 74).

هذا وقد أعاب حبيبي على بعض أبناء الشعب الفلسطيني قصر نظره، فهو لا يرى أبعد من أنفه، بل لعله لا يريد أن يرى، “نظل نبحث تحت أقدامنا عن مال سقط من صرة عابر لعلنا نهتدي إلى كنز يبدل حالنا الرتيبة تبديلا” (نفس المرجع: 79)، وأكد حبيبي أن النظر إلى الأسفل والبحث بين الرجلين عن المستقبل هو الذي تسبب بقتل والده، وهنا إشارة إلى القتل وكل أنواع الأذى التي لحق بكثير من الفلسطينيين لقصر نظرهم، “كان والدي، حين استشهد، يستشف الأرض تحته. فلم يكشف الكمين الذي كمن له وأودى بحياته. ووالده من قبله، شج رأسه بحجر الطاحون لأنه كان ينظر في الأرض بين قدميه، فلم يقم بعدها” (نفس المرجع: 79). ويؤكد سعيد أن قصر النظر وعدم معاينة الواقع أو استشراف المستقبل هي الخطيئة التي أوصلت الفلسطينيين إلى ما وصلوا إليه، “فهذه هي شيمة عائلتنا النجيبة، أن تظل نبحث تحت أقدامنا عن مال سقط سهوا من صرة عابر سبيل لعلنا نهتدي إلى كنز يبدل حالنا تبديلا. وثق يا محترم، بأنه ما من عجوز، في طول البلاد وعرضها، يسبق رأسها بقية جسمها إلى القبر، وتدب مقوسة مثل رقم (8)، إلا ولها صلة قربى بنا… “(نفس المرجع: 79).

كما وصف حبيبي جزءا من الشعب الفلسطيني بأنه منفصل عن الواقع، حالم دون عمل، “العرب الآن يحلمون ثم يحلمون، وكانوا سابقا يعملون ثم يحلمون” (نفس المرجع: 82)، ومن أحلام هذا الشعب أن تأتيهم معجزة من السماء تخلصهم من الاحتلال وشره، وكان سعيد خير من مثّل الإيمان بفكرة المخلص فقد كان ينظر إلى السماء، ويبحث عن الفضائيين، ويطلب منهم العون والمدد: “أما أنا فقررت أن لا أموت مقوس الظهر كأسلافي، ومنذ نعومة إظفاري أقلعت عن البحث بين قدمي عن كنز الخلاص بل رحت أبحث عنه فيما فوق، في هذا الفضاء الذي لا نهاية له” (نفس المرجع:81)، ويطلب سعيد النجدة دائما من ذي المهابة: “أنقذني يا ذا المهابة” (نفس المرجع:195)، فيرد ذو المهابة قائلا: “حين لا تطيقون احتمال واقعكم التعس ولا تطيقون جمع الثمن اللازم لتغييره تلتجئون إلي” (نفس المرجع:195).

في عودة إلى ما يركز عليه النقد الماركسي، نرى بأن حبيبي عاب على طبقة العمال الفلسطينيين عملهم عند العدو الصهيوني والذي يمثل رأس المال الأكبر في الأرض المحتلة، ويؤكد حبيبي بأن العمالة الفلسطينية هي من ساهمت في بناء دولة العدو، “من شيد المباني وشق الطرق وحرث الأرض وزرعها، في إسرائيل، غير العرب الباقية في إسرائيل…ولقد رأيتهم في ساحة العجمي بيافا، شباب في عمر التمر، من غزة وجباليا وبيت لاهية وبيت حانون ودير البلح وخان يونس ورفح يتمايلون على سيارة المقاول…” (نفس المرجع: 126)، “ورأيتهم في ساحة باريس في حيفا التحتا، شبانا في عمر نوار اللوز…من قلقيلية وطولكرم وجنين وطوباس والسيلة واللّبن ينتظرون سيارة المقاول” (نفس المرجع: 127). وهكذا شكل الفلسطينيون العمالة الرخيصة التي وظفها المحتل في بناء كيانه الصهيوني. والأصل أن يكون الفلسطيني مقاوم ومقاطع للعدو وكيانه ولكن يؤكد حبيبي أن جزء من طبقة العمال الفلسطينيين قد باعت الوطن بلقمة العيش مضطرة أحيانا وغير مضطرة أحيانا أخرى.

لم يشر حبيبي إلى أن الفلسطينيين لم يقاطعوا المنتجات الصهيونية وأنهم كانوا سوقا تجاريا واسعة لهذه المنتجات، ولكنه أكد أن منتجات الكيان المحتل كانت تصل بعض الدول العربية تحت أسماء متعددة، “فانصرف أهلها القادمون من أوروبا إلى صناعة النبيذ الجيد، فتضعه مصايف العروبة وقد تعددت أسماؤه، على موائد أومراء الجزيرة” (نفس المرجع: 127).

هذا وقد انتقد حبيبي ما يقوم به البعض من تماهي مع الكيان المغتصب، كالاحتفال بمناسبات العدو، وانتحال هويته والتسمي بأسمائه، “في كل سنة في أعياد الإستقلال، ترى العرب يرفعون أعلام الدولة ابتهاجا، أسبوعا قبل العيد وأسبوعا بعد العيد…والنُدُل شلومو، في أفخم فنادق تل أبيب، أليس هو سليمان بن منيرة، ابن حارتنا؟ ودودي، أليس محمود؟ وموشي، أليس موسى بن عبد المسيح؟” (نفس المرجع:142).

كل هذه المثالب التي ذكرها حبيبي والتي كانت الخيانة على رأسها، جعلته والشعب الفلسطيني من المتشائمين. ولقد تسبب أمر آخر في زرع التشاؤم في روح الفلسطينيين وهو الاحتلال الصهيوني وجرائمه التي ارتكبها بحق هذا الشعب على مر السنين.

يبدأ الاحتلال أول جرائمه بالقتل، فالقتل إما أن يكون بهدف التطهير العرقي في سبيل الاستيلاء على الأراضي، أو يكون بهدف التخويف والترويع لجعل الطرف الآخر يفر بجلده إلى مكان آمن، وفي المحصلة ستصبح الأرض خاوية فيسهل احتلالها، تبدأ الرواية بكمين يتعرض له سعيد وأبوه، فيقتل الأب، “ففي الحوادث كمنوا لنا وأطلقوا علينا الرصاص، فصرعوا والدي” (نفس المرجع:61)، ولكن سعيد ينجوا من القتل بأعجوبة، “أما أنا فوقع بيني وبينهم حمار سائب فجندلوه. فنفق عوضا عني” (نفس المرجع:62).

أما الجريمة الثانية التي ارتكبها الصهاينة في حق الفلسطينيين فكانت التهجير، والذي كان يتم بأشكال عدة، منها طرد السكان من القرى، “نحن من البروة. لقد طردونا…” (نفس المرجع:73). وكان هذا التهجير يتم بتنسيق مع جهات عربية، “أما الباقون فحملوا خرقهم، وأولادهم، وخرجوا من الباب الشمالي الكبير حيث حملوا في سيارات ضخمة حملتهم، كما أخبرني معلمي فيما بعد، إلى الحدود، حيث ألقتهم شمالا، وتوكلت” (نفس المرجع:78)، كما كان يتم التهجير عن طريق هدم القرى لجعل العودة إليها مستحيلا، “نحن من الكويكات التي هدموها وشردوا أهلها…، أنا من المنشية، لم يبق فيها حجر على حجر، سوى القبور…” (نفس المرجع:73)، “حقا إنهم هدموا القرى التي ذكرها القوم وشردوا أهلها” (نفس المرجع:75)، هذا بالإضافة إلى جريمة تغيير أسماء المدن والقرى والشوارع، فالضفة الغربية أطلقوا عليها “يهودا والسامرة”، وأم الرشراش أطلق عليها “إيلات”، ونابلس اسم “شكيم”، إلخ. كما استبدل المحتل اسم فلسطين بـ” إسرائيل”، أما “حيفا أبقوا على اسمها لأنه توراتي” (نفس المرجع:92). هذا وقد تم إصدار أوامر بمنع العودة إلى المدن والقرى الفلسطينية المحتلة، يقول الحاكم العسكري أبو إسحق: “ألم أنذركم أن من يعود إليها يقتل؟ …قومي اجري أمامي عائدة إلى أي مكان شرقا. وإذا رأيتك أمامي مرة ثانية على هذا الدرب لن أوفرك” (نفس المرجع:63). كما وقد صرّح بعض المهجرين لسعيد بأن “الذي هدم قرانا لا يعيدنا إليها” (نفس المرجع:78).

ومن جرائم الاحتلال نهب الأراضي والممتلكات، “وصار الشيعيون يسمون الحارس على الأملاك المتروكة، الحارس على الأملاك المنهوبة، فأخذنا نلعنهم علانية، ونردد أقوالهم في سرنا” (نفس المرجع:94).

كما أن المحتل لم يتورع عن اتلاف ممتلكات الفلسطينيين، “نحن من عمقا، ولقد حرثوها، ودلقوا زيتها…” (نفس المرجع:73).

هذا وكان الاعتقال والحبس من ضمن الجرائم الأخرى التي ارتكبها المحتل بحق الفلسطينيين، “ألقي القبض عليهم فاقتيدوا إلى محكمة عسكرية، فأوقع حاكم المحكمة العسكرية على هؤلاء الأولاد عقوبة الغرامة، فمن عجز عنها فبما يملكه حتى الطفل، وهو الحياة، شهرا في السجن” (نفس المرجع:119).

والتعذيب كذلك كان من ضمن الجرائم الذي ارتكبها المحتل في حق الشعب الفلسطيني المنكوب، “فأخذت أتمايل نحوهم حتى ملوا اللكم، فأعملوا الرفس فصرت أتدحرج تحت أقدامهم…فأشعر بعدة أفخاذ تميخ على صدري دفعة واحدة. فأصرخ فلا أسمع إلا أصوات مكتومة صادرة عن ضرب ولكم ورفس” (نفس المرجع:170).

هذا وانتهج الصهاينة سياسة التهديد بمعاقبة أهل من يقاومهم من الفلسطينيين، “فلما تنطح له زميلنا الشلفاوي، وقال أنه قرأ في بيان الشيوعيين أنهم يتهمون الحكومة بالإهمال في تنظيف الطريق من ألغام الحرب، أجابه يعقوب: نعلم أن زوج أختك واحد منهم! فانشل لسان الشلفاوي” (نفس المرجع: 105)، وكانوا كذلك لا يتورعون عن معاقبة أهل المطلوبين الفلسطينيين لقضاء العدو، “ولما عجز أحد الأولاد عن دفع الغرامة، افتداه والده بحياته شهرا في السجن” (نفس المرجع:119).

أما احتقار العدو للفلسطينيين فحدث ولا حرج، حتى أنهم يحتقرون العملاء والمتعاونين معهم، يقول سعيد: “دخلت مركز الشرطة الساعة السابعة صباحا…فجعلوني أنتظر حتى الرابعة مساء دون طعام أو شراب سوى قدح من الشاي…” (نفس المرجع:91).

كل ما سبق ساهم في جعل الفلسطيني متشائم لأبعد الحدود، أما الذي سيخرج بالفلسطيني من غياهب التشاؤم إلى نور التفاؤل فهي ثيمة أفرغ لها حبيبي نصيبا كبيرا في روايته، إنها ثيمة المقاومة والتي تمثلت بحبيبة سعيد: يعاد الأولى، وبابنتها: يعاد الثانية، وبزوجة سعيد: باقية، وبنجله: وولاء. وهكذا يكون قد دعى حبيبي في (المتشائل) إلى الثورة والمقاومة على أكثر من لسان، وعندما لام حبيبي الهاربين من الثورة والمقاومة قال على لسان ذي المهابة الفضائي: “أما أنت فتقمصت هرة. وأما هو فتقمص شاعرا. وكلاهما يهرب حتى يتنفس، ويختنق حتى لا يموت. ومنهم من هرب من موقفه بتغيير موقعه. وآخرون أخفوا عورة العجز بورقة الحكمة.

وآخرون بالفلسفة.. وبأن الشعب غير مؤهل.. وبما إلى ذلك من علل العليل” (نفس المرجع: 123). واصل حبيبي التأكيد على أن الثورة والمقاومة هي الحل الذي سينقذ الفلسطيني مما أصابه. يتكلم حبيبي من جديد على لسان ذي المهابة مخاطبا سعيدا ليخبره عما فعله الثائر الوليد بن هشام بن المغيرة قائلا: “فلما رأى الناس يؤمنون بأن الحاكم بأمر الله يحكم بأمر الله…لم ينتظر أن يصبح الشعب مؤهلا، بل أقنعهم بأنه ثائر عليه، هو أيضا، بأمر الله. فتلقب بالثائر بأمر الله على الحاكم بأمر الله. فحيد العزة بالعزة. والحاكم أظلم” (نفس المرجع: 123). وهذه دعوة واضحة وصريحة للثورة على الاحتلال دون انتظار عملية تأهيل الشعب لهذه الثورة، فإن كان الاحتلال قدر الله، فالثورة والمقاومة أيضا قدر الله، والمحتل أظلم.

يستمر حبيبي في تشخيص الداء ووصف الدواء على لسان ذي المهابة: “إنني أنظر إلى ما يفعله الناس الآخرون، وما يبذلونه، ولا يسمحون لأحد بأن يحشرهم في ديماس من هذه الدياميس، فأغضب عليكم، ماذا ينقصكم؟ هل بينكم من تنقصه حياة حتى لا يقدمها، أو ينقصه موت حتى يخاف على حياته؟” (نفس المرجع:90). وهنا يدعو ذو المهابة الفلسطينيين إلى تقديم أرواحهم للخلاص من الحشر في الدياميس والحفر، للخلاص من هذا الذل، فالموت ولا المذلة.

كان ولاء عنوان المقاومة، وممثل الجيل الجديد الذي سيحمل السلاح ليسترد ما ضاع من وطن وكرامة، فقد “أنشأ، مع اثنين من زملاء الدراسة، خلية سرية. فانتشلوا من الكهف، في غور صخري في بحر الطنطورة المهجور، صندوقا محكم الصناعة والأقفال، لا يدخله ماء ولا تناله رطوبة، فيه سلاح وفيه ذهب كثير” (نفس المرجع: 146). يشتبك ولاء بعد ذلك مع العدو، وتنضم إليه أمه باقية لتسانده، يقول ولاء: “- إنهم قادمون وراءك، يا أماه. فهل تحمينهم بحبي؟ – لا يا ولاء، يا ولدي، بل آتية إليك. ففي الصندوق رشاش آخر، وسأحميك بحبي” (نفس المرجع: 154). وهنا يشير حبيبي إلى أن الثورة والنصر سيشرقان من جيل الأبناء الذين ستربيهم الأمهات على قصة الوطن السليب، فكان ولاء ولاء للوطن، وكانت باقية باقية على العهد والوعد.

كل هذه دعوات صريحة إلى الثورة والمقاومة وحمل السلاح، وكان كل هذا بخلاف دعوات أخرى عرّاها حبيبي وسخر منها كدعوة القبول بالواقع مع دفن الرأس في التراب، أو دعوة التعايش مع الاحتلال، أو دعوة انتظار الخوارق والمعجزات لتخليص الشعب الفلسطيني من الاحتلال، وكان سعيد وأجداده الغمام المشؤوم الذي حجب شمس الحرية، أما يعاد الثانية فكانت الفأل الحسن ورمزا من رموز المقاومة التي ستخرج الفلسطيني من حالة التشاؤم والتشاؤل إلى التفاؤل بمستقبل مشرق يغيب عنه ظلام المحتل، يقول سعيد: “وفيما نحن طائران في الفضاء، وأنا محمول على ظهره أناجي أرواح أجدادي، منذ جدي الأكبر، أبجر ابن أبجر حتى عمي الذي لقي كنز العائلة، وأدعوهما أن تحضر، فترى، فتتباهى بابنها الفالح… رأيت يعاد ترفع رأسها إلى السماء، وتشير نحونا وتقول: حين تمضي هذه الغيمة تشرق الشمس”( نفس المرجع: 196).

وهكذا رأينا كيف تأثرت (المتشائل) بالواقع الاجتماعي، فصورت كثيرا مما يعاني منه المجتمع الفلسطيني، هذا وقد حاول حبيبي جاهدا أن يؤثر في المجتمع عبر تسليط الضوء على مثالبه لتقويمها، وعلى مناقبه لتعزيزها. تلك المثالب التي جعلت من حبيبي متشائما حينا، في حين جعلته المناقب متفائلا حينا آخر، ليضيع حبيبي بين الحالتين وليصاب بمتلازمة التشاؤل الذي لا سبيل للخلاص منه إلا بتقويم إعوجاج المجتمع وبتعزيز ثقافة المقاومة.

المرجع:
– سداسية الأيام الستة، الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، وقصص أ خرى. منظمة التحرير الفلسطينية، دائرة الإعلام والثقافة، آب ١٩٨٠.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.