بيرو –  نموذج الهيمنة الإمبريالية في أمريكا الجنوبية / الطاهر المعز




أهمية توسيع قاعدة النضال ضد الامبريالية

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 14/2/2023 م …

بعد المظاهرات الضخمة يوم السبت الرابع من شباط/فبراير 2023، وتوسيع نطاق حالة الطوارئ (الأحد 05 شباط/فبراير 2023) في محاولة لمواجهة الإحتجاجات التي أدّى قَمْعُ المُشاركين بها إلى قَتْل العشرات، تعرّضت البلاد إلى انهيارات أرضية (زلزال) أودت بحياة حوالي خمسين مواطن، يوم الثلاثاء 07 شباط/فبراير 2023، وتعيش البلاد وضعًا مُضطربًا، منذ شهرَيْن إثر الإطاحة بالرئيس المُنتَخب، من قِبَل اليمين النيوليبرالي، الموالي للإمبريالية الأمريكية والشركات العابرة للقارات التي تستغل ثروات البلاد…

وُلد النظام الرأسمالي بغزو الأمريكتين وبناء اقتصاد قائم على استغلال الذهب، وخلال فترة “الإستعمار الجديد”، أصبحت نشاطات التّعدين والاستخراج من ركائز إعادة استعمار أمريكا الجنوبية وأفريقيا، حيث تشتري شركات الدّول الصناعية (الشركات متعددة الجنسيات) المواد الخام بسعر منخفض جدًا، ليتم شحنها إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة ثم تحويلها إلى منتجات مُصنّعة وإعادة بيعها بأسعار عالية جدًا، في شكل سيارات أو آلات أو تجهيزات ومعدات إلكترونية، وبالتالي تتغذى الرأسمالية بنهب الموارد الطبيعية لشعوب الجنوب، كالليثيوم البوليفي أو التشيلي، الضروري لصناعات الإلكترونية وجميع أنواع البطاريات، وكالنحاس المُسْتَخْرَج من  بيرو أو تشيلي، وهو ضروري لازدهار الصناعة الألمانية، أقوى اقتصاد أوروبي…

يتسبب استغلال المناجم واستخراج المعادن في إعادة تشكيل التنظيم الإجتماعي والإقتصادي والسياسي لمنطقة الأنديز بأكملها حيث يعيش السكان الأصليون، أول ضحايا تلوثت الغابات والأراضي والمياه، فضلاً عن مصادرة أراضيهم لصالح شركات التعدين والغاز والنفط والزراعة الأحادية المكثفة، ليتم اقتلاعهم وتهجيرهم من أرض أجدادهم.

تُعتَبَرُ بيرو نموذجا لهذا الشكل من لإستعمار الجديد، حيث تَمَتّعتْ شركات التعدين والنفط والغاز بامتيازات عديدة في مناطق ادّعت الحكومة والشركات إنها “خالية من السكان ومن أي أنشطة إنتاجية”، وهي نفس الأكاذيب التي روّجَتْها المشاريع الاستعمارية في الجزائر أو أمريكا الجنوبية أو فلسطين، إذ ادّعى الصهاينة إن فلسطين أرض بلا شعب، بينما تقع جميع المشاريع الاستخراجية بأمريكا الجنوبية، وفي بيرو، في مناطق تسكنها المجتمعات الريفية والفلاحية والسكان الأصليون، في الأمازون والمناطق الجبلية (جبال الأنديز)، وما ترويج أسطورة فراغ هذه الأراضي من السكان، سوى لتبرير مصادرتها لصالح المستوطنين والوافدين الجدد، من أَصْقاع بعيدة.

أصدرت بيرو، سنة 2011، قانون الاستشارة المسبقة الذي لا يتم تطبيقه، بل يتم تجاهله على نطاق واسع عندما يتعلق الأمر بالنشاطات الإستخراجية، وأشار بعض محامي السّكّان الأصليين أن حكومات بيرو المتعاقبة تنحاز إلى القطاع الخاص على حساب مصالح المواطنين المحليين، وتقمع أي شكل من أشكال المعارضة السياسية والاجتماعية. من جهة أخرى يشغل العديد من موظفي الدولة السابقين أو القادة السياسيين مناصب عليا في الشركات الخاصة، كما يسمح القانون البيروفي لأفراد الشرطة الوطنية بتقديم خدماتهم إلى الشركات الخاصة، باستخدام معدات الشرطة الخاصة بهم، ما يُحَوّل جهاز الشرطة إلى مليشيا مُسلّحة تعمل لفائدة الشركات الاستخراجية، وتساعدها على قتل زعماء السكان الأصليين في جبال الأنديز والأمازون والكويتشوا أو المزارعين الفقراء الذين يعارضون مشاريع شركات التعدين في بيرو وأمريكا الجنوبية.

الثمن المُرتفع لاستقلالية القرار

لماذا فشلت الإمبريالية الأمريكية في الإطاحة بنظام كوبا وبنظام فنزويلا، ونجحت نسبيا، ولفترة قصيرة في بوليفيا، وكذلك في هندوراس (سنة 2009) والأرجنتين والبرازيل، وإكوادور، ومؤخّرًا في بيرو؟

ما أسباب ودوافع استمرار الإحتجاجات في بيرو، وقبلها في بوليفيا، رغم القمع وتدخّل الجيش وفرض حالة الطّوارئ؟

ما الذي يميز وضع أمريكا الجنوبية عن وضع البلدان العربية والإفريقية؟  

لا تُجيب هذه الفقرات عن هذه الأسئلة لأنها لا تتناول سوى الوضع في بيرو، لكن تبقى الأسئلة مطروحًة، تتطَلّب بحثًا وإجابة

فاز المُدَرِّس النقابي بيدرو كاستيلو، في الدّور الثاني للإنتخابات الرئاسية أمام مرشحة اليمين “العريق” “كيكو فوجيموري”، والفائز نقابي، من منطقة ريفية تسكنها الشعوب الأصلية بالبلاد، وهو أول رئيس يمكن أن يُنْسَبَ إلى اليسار (بمفهومه الواسع) يفوز في بيرو التي حكمها ألبرتو فوجيموري ( والد كيكو فوجيموري) بالحديد والنّار، ولم يتردّد في تطبيق أساليب الأنظمة الفاشية، مثل تعقيم النساء والرجال من السّكّان الأصليين ومن الفُقراء، في مناطق غابات الآمازون وجبال الأنديز، عبر قطع القناة المَنَوِيّة (للرجال) أو الرّبط البوقي (للنساء) دون علمهم، خلال العقد الأخير من القرن العشرين، بمعدّل ثمانية آلاف سنويا، بذريعة “تنظيم الأُسْرة” و “تحديد النّسل”، وتمكّنت جمعيات الدّفاع عن حقوق الإنسان من تجميع شهادات حوالي ثلاثمائة ألف شخص تعرّض للتعقيم الذي استهدف الشعوب الأصلية التي لا تستطيع قراء الوثائق التي أُجْبِرُوا على توقيعها، وبعد عشرين سنة من الحملة الحقوقية، اضطر القضاء إلى فتح تحقيق بنهاية سنة 2021، ضد الرئيس السابق “ألبرتو فوجيموري” (وُلِد سنة 1938)، الذي حكم البلاد من سنة 1990 إلى 2000، ووزراء الصّحة السابقين، وتميّزت فترة حُكْمِهِ بالقمع الشديد والإعتداء على الحريات وبمعاداة الفُقراء والكادحين، وإطلاق يد الشركات العابرة للقارات لتنهب ثروات ومَعادن البلاد، فهو رمز الأوليغارشية وطبقة الأثرياء والمُضاربين…

في هذا المناخ السياسي، ترشّح المُدرّس النقابي “بيدرو كاستيلو” الذي لم يكن معروفًا قبل مشاركته النشطة في إضراب المُدرّسين سنة 2017 من أجل تحسين الأُجور وظروف العمل، ولما فاز، كانت أغلبية نواب الكونغرس تُعارض برنامجه، وتزدري أُصولَه الريفية، وعرقلت أغلبية النُّوّاب برنامجه فعجز عن إحداث “التغييرات الجذرية” التي وَعَد بها، منها تغيير الدّستور الذي تم إقراره خلال فترة حكم فوجيموري، ومنها كذلك “معالجة الفقر وعدم المُساواة” وزيادة ميزانيات التعليم والرعاية الصحية، وكان قد وَعَدَ بسيطرة الدّولة على القطاعات الإستراتيجية وعلى الموارد الطّبيعية والمعادن (بيرو ثاني أكبر مُنتج عالمي للنّحاس) الواقعة تحت سيطرة الشركات الخاصة والأجنبية، ووعد باستخدام عائدات الثروات الوطنية لمكافحة الفقر والبطالة والفوارق الطبقية المجحفة، لكن لم تكن للرئيس أغلبية برلمانية تدعمه لكي يتمكّن من الوفاء بوعوده، بل تم عزله بعد نحو 17 شهرًا من تولي منصب الرئاسة، وتم عَزْله لأن معظم مؤيّديه من عمال المدن وفلاحي القُرى من المقاطعات الفقيرة وذات الطابع الريفي، ومن صغار الموظفين والفئات الوسطى والدّنيا من البرجوازية الصغيرة، خلافًا لمنافسته كيكو فوجيموري التي تدعمها البرجوازية وسكان الأحياء الفاخرة بالمُدُن، فلم يُؤَثِّر سقوط والدها ومحاكمته وإدانته بتهم الفساد وتجاوز السّلطة في نفوذ الطّبقة التي تدعمه، بل نشر موقع محطة “صوت أمريكا” تحقيقًا يُؤَكّد أن الحكومات التي تلَتْ سقوط فوجيموري سنة 2000، لم تعالج الفجوة بين المناطق الحضَرِية والريفية ولا الفوارق الطبقية، رغم النّمو الإقتصادي، بل توسّع نطاق الفساد ونهب الثروات، وأكّد تقرير للأمم المتحدة أن 61,5% من السكّان فُقراء أو من الشرائح الدّنيا للفئات المتوسّطة، وأن حوالى 16,6 مليون مواطن، أي أكثر من نصف السكّان، “لا يحصلون بانتظام على طعام كافٍ وآمن”، وإن 40% في المائة من مجموع السّكذان تحت خط الفقر، سنة 2021، رغم تصنيف البلاد من قِبَل البنك العالمي كبلد متوسّط الدّخل، وتحتوي المناطق الجنوبية التي يدعم سكانها الرئيس المنتخب بيدرو كاستيلو، ثروات طبيعية هائلة ( حوالى 53% من الاستثمارات في مجال التعدين، ونحو 18% من الناتج المحلّي الإجمالي)، لكن سكان المنطقة يعانون من أعلى معدّلات الفقر بالبلاد، وأدنى مؤشّرات التنمية البشرية، فلم يستفد المواطنون من نمو الناتج المحلّي الإجمالي، ولم ينخفض معدّل البطالة والإقتصاد الموازي والفقر…

كانت بيرو تعيش حالة عدم استقرار، قبل الإنتخابات، وكان الرئيس بيدرو كاستيلو سادس رئيس، خلال ست سنوات، ولم يكن مدعومًا من قِبَل أغلبية نواب المجلس النيابي، بل عرقل النّواب مشاريع الإصلاح الزراعي والجبائي.

أقر مجلس النواب في بيرو (الكونغرس) تشريعًا يقيد استخدام الاستفتاء، وعَدَّلَ الدستور من خلال قوانين تضعف السلطة التنفيذية، مما يخل بتوازن القوى والسُّلُطات، وقبل الإنتخابات استثمرت قوى اليمين، خلال الحملة الانتخابية، مليون دولار في لافتات مُضيئة تعلن “لا للشيوعية” و “لا نريد أن نكون فنزويلا أخرى”، ومع ذلك فاز بيدرو كاستيلو بالرئاسة، لكن كانت أغلبية النواب تنتمي لخصومه الذين لم يتوقفوا عن حملتهم لتشويه سمعة هذا “المعلم الريفي المنحدر من الشعوب الأصلية “، كما كثّفَت المعارضة اليمينية من محاولات عزل الرئيس المنتخب، خصوصًا وهي تمتلك وسائل الإعلام (كما هو الحال في معظم دول أمريكا الجنوبية) التي تفتقر إلى الموضوعية، بل تلعب دورًا مزعزعًا للاستقرار، وفقًا لتقرير صادر عن بعثة منظمة الدول الأمريكية.

أثارت الدوافع العنصرية والمناهضة للديمقراطية للانقلاب “الدستوري” حركة احتجاج اجتماعية في جميع أنحاء البلاد، وشعر السكان بالغضب لما شاهدو في وسائل الإعلام بثًّا مُباشرًا لاعتقال الرئيس المُنْتَخَب بشكل شرعي، وإهانته من خلال تكبيل يَدَيْهِ ونقله إلى السجن، بعد استخدام المجلس النيابي اليميني كل الحِيَل المُمْكِنَة لعزله.

دفعت مظاهر الإنتقام والتّشَفِّي التي عبّر عنها اليمين العنصري، النقابات وقطاعات كبيرة من السكان إلى التظاهر في معظم مدن البلاد، رغم إعلان حالة الطوارئ، للمطالبة بالإفراج عن الرئيس بيدرو كاستيلُّو وحل الكونغرس وتنظيم انتخابات جديدة وتكوين جمعية تأسيسية، وأغلقت مجتمعات السكان الأصليين طريقًا سريعًا تستخدمه شركة ( Las Bambas ) وهي واحدة من أهم شركات التعدين في أمريكا الجنوبية، وأعلنت إضرابًا لأجل غير مسمى في هذه المنطقة.

قمعت سلطات الإنقلاب بعنف التظاهرات السلمية (أكثر من 60 قتيلاً في أقل من شهرين)، وأدّى القمع إلى زيادة أعمال التخريب ضد رموز الفساد: المصارف وبعض شركات المتاجر والمحاكم، كما أغلق المتظاهرون مطارين دوليين (أريكويبا وكوسكو)، والعديد من الطّرقات البَرِّيّة، ورموا الحجارة على مقرّات القنوات التلفزيونية والمواقع الإعلامية المطبوعة، وتم الاستيلاء على أهم محلات إنتاج الألبان في البلاد…

أعلنت حكومة الإنقلاب، في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2022 (بعد أسبوع واحد من الإنقلاب) حالة الطوارئ لمدة 30 يومًا، تم تمديدها فيما بعد، مما يسمح بتعليق حريات التجمع والعبور وحرمة المنزل، وما يسمح بنشر القوات المسلحة لدعم الشرطة، لكن ذلك لم يفل في عزيمة المتظاهرين الذين يمثلون شرائح واسعة من المواطنين…

في الخارج، وعلى مستوى أمريكا الجنوبية، أصدرت حكومات المكسيك وكولومبيا والأرجنتين وبوليفيا بيانًا مشتركًا في 12 كانون الأول/ديسمبر 2022 نددت فيه بـ “المضايقات المناهضة للديمقراطية” التي كانت مُقدّمة لانقلاب السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2022.

لم يستسلم الموطنون في وجه القمع، منذ عَزْل الرئيس بيدرو كاستيلو، ولا يزال آلاف المتظاهرين يحتشدون في الساحات والشوارع وبالقرب من الكونغرس للمطالبة بالإفراج عنه واستقالة الرئيسة المُنَصَّبَة “دينا بولوارتي” التي خانت الرئيس المُنتَخَب (كانت نائبته)، والدعوة إلى انتخابات جديدة، وجاء الفُقراء من مناطق نائية، وخصوصًا من أقاليم السُّكّان الأصليين، رغم حواجز الجيش والشرطة وإغلاق الشوارع المحيطة بالقصر الحكومي ومنع المتظاهرين من التقدّم، واستخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطيّ أيضاً، ما أدّى إلى قَتْل 54 وجرح ثمانمائة، حتى الأسبوع الثاني من كانون الثاني 2023، تمامًا كما كانت تتعامل معهم دكتاتورية فوجيموري، وتهدّد النقابات بوقف العمل بمنجم النحاس الذي تستغله شركة “غلينكور” العابرة للقارات، وأغلق المُحتجُّون الطرقات الرئيسية وبعض المرافق الحيوية، وتحاول السلطة القضائية تهدئة الوضع، من خلال فَتْح تحقيق أوّلي بشأن الرئيسة المؤقتة “دينا بولوارتي” وبعض الوزراء بتهمة ارتكاب “إبادة جماعية”، كما وافق الكونغرس، مبدئيًّا، على تقديم موعد الانتخابات العامّة إلى نيسان/ابريل 2024، بدل 2026…

أعلنت الحكومة الإنقلابية، يوم الأحد 15/01/2023، تمديد فرض حالة الطوارئ، أي تدخّل الجيش وتعليق الحريات – التي كانت سارية منذ تاريخ الإنقلاب، قبل شهر-  في العاصمة “ليما” وثلاث مناطق خارجها، لكن المُحتجّين تجاهلوا القرار، واحتج الآلاف في العاصمة يوم الإثنين 16/01/2023، وتواصل قطع الطرقات كما تواصل القمع، خاصة ضد سكّان مقاطعة بونو، جنوب البلاد، حيث الغالبية من السكّان الأصليين (“الكيتشوا” و “الأيماراس” )، جنوب جبال الأنديز، وكذلك ضد النقابيين، حيث اعتقلت الشرطة  الزعيمة النقابية الشيوعية “روسيو لياندرو”، بتهمة التحريض على الإحتجاجات وتمويلها، وأصبحت مناطق إقامة السّكّان الأصليين خاضعة للأحكام العُرفية والإشراف المباشر للجيش، وهي المناطق التي لم تهتم بها الحكومات المتعاقبة، ما زاد من الفوارق الطبقية بين الأثرياء والفقراء، وبين السكان الأصليين والسكان المُنْحَدِرِين من أصل استعماري أوروبي، الناطقين بالإسبانية، وحتى بالألمانية، والذين تجمّعت لديهم جميع السلطات، كإرْث من أجدادهم المُستوطنين، ولذلك يعتبر الفُقراء والسّكّان الأصليون أن بيدرو كاستيلو يُمثّلهم، ومنحوه أصواتهم وثقتهم، ودافعوا عنه (وعن أنفسهم) بعد تنحيته بالقوة، ضد نفوذ الشركات العابرة للقارات التي سيطرت على مناجم المعادن وعلى الأراضي الزراعية التي تمتلكها مجموعات السكان الأصليين بشكل جماعي، وصادرتها السلطة لأنها لا تعترف بالملكية الجماعية للأرض…

عندما أراد الرئيس بيدرو كاستيلو تغيير هذا الوضع، وفق “قواعد الديمقراطية” البرجوازية، اعترضت على مخططاته جبهتان، جبهة سياسية داخل مجلس النواب، وجبهة اقتصادية ومالية تدافع عن مكتسبات طبقة الأثرياء التي حصلوا عليها بالنّهب والإستغلال الذي يُجيزه القانون، ثم أتفقت الجبهتان على إزاحته واعتقاله، وتعيين نائبته “دينا بولوارتي” رئيسة مُؤقتة، وهي في واقع الأمر وَاجِهَة، لأن المشرف الفعلي على عمل الحكومة هو رئيس الوزراء “ألبرتو أوتارولا” ووزير الدفاع “خورخي لويس شافيز”، وحلفائهما من الأثرياء الذين حرضوا على إعلان حالة الطّوارئ وقمع المتظاهرين واغتنام الفُرصة لاعتقال النقابيين والمناضلين الشيوعيين، واعتبرت المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان، إن إطلاق النار على المتظاهرين وعلى السكان الأصليين عمليات إعدام خارج نطاق القانون، ولم يتمكّن رصاص الجيش من إخماد أصوات المحتجين، بل أعلنت جمعية السكّان الأصليين في منطقة أمازون، ومنظمات المزارعين الفقراء، والنقابات والعديد من الجمعيات الأهلية، مُقاومة انقلاب الأثرياء ومواجهة السلطات الأمنية والعسكرية…   

ماذا يعني استمرار الإحتجاجات، رغم القمع وتدخل الجيش وحالة الطوارئ؟

يُمثل الرئيس المعزول “بيدرو كاستيلو” رمزًا للفقراء وأهل الريف والسّكّان الأصليين، وَوَاجَهَ العنصرية والتمييز، خلال سبعة عشر شهرًا من الحُكْم، قبل الإطاحة به وسجنه… سَخِر منه الأثرياء ووسائل إعلامهم، لارتدائه قبعة تقليدية، وسخروا من لهجته وانتقدوه لإدماجه احتفالات السكان الأصليين في الاحتفالات الرسمية، وفق وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية، يوم 25/01/2023، ووفق منظمة الدول الأمريكية التي وثّق مُراقبوها بعض مظاهر الميز العنصري ضد السكان الأصليين، وضد الرئيس “من قِبَل مؤسسات وقطاعات تُرَوّح للعنصرية والتمييز، ولا تقبل أن يشغل شخص من خارج الدوائر السياسية التقليدية كرسي الرئاسة، لكن نائبته السابقة التي أصبحت رئيسة (وهي أيضًا من السكان الأصليين، وكانت تدّعي “اليسارية”) لا تتعرض للتمييز أو للسّخرية لأنها خادمة مُطيعة لرأس المال وللشركات الأجنبية.   

ظهرت هذه التعبئة الجديدة للأغلبية المضطهدة من مُواطني بيرو لأول مرة كقوة ساهمت في فوز بيدرو كاستيلو في الانتخابات سوم السادس من حزيران/يونيو 2021، ثم عادت هذه القوة الشعبية للظهور بعد الانقلاب الذي أطاح بكاستيلو في السابع من كانون الأول/ديسمبر 2022 ، وهو أول يساري يتم انتخابه رئيسًا للبلاد، واستطاع أن يهزم “كيكو فيجيموري”، حاملة لواء الأوليغارشية والجيش، وابنة الدكتاتور والرئيس السابق ألبرتو فوجيموري.

احتل المتظاهرون منذ يوم 19 كانون الثاني/يناير 2023 بشكل جماعي ليما ومنعوا الوصول إلى المكاتب الحكومية، فيما كان سُكّان الأحياء الشعبية بالعاصمة والمنظمات الإجتماعية يوفرون لهم الطعام والشُّرب، ووفّرت لهم المدارس والجامعات المأوى، ما جعل من هذه الحركة، مقاومة شعبية في وجه القمع السياسي الذي لم يتمكّن من إخماد الحركة الإحتجاجية، رغم اعتداء الشرطة والجيش على المتظاهرين في جميع أنحاء البلاد بالعنف الشديد، وبالرصاص الحي الذي قتل أكثر من 60 متظاهرًا (حتى يوم 20 كانون الثاني/يناير 2023) وجرح حوالي 600 فيما تم اعتقال المئات، وفي 21 كانون الثاني/يناير 2023، حشدت حكومة الانقلاب ما يقرب من اثني عشر ألف شرطي لصد المظاهرات ومضايقة السكان والطلاب، وحشدت 14 ألف آخرين لتفتيش المنازل والمكاتب ومحلات النقابات والمنظمات، ودخلت قوات الشرطة جامعة سان ماركوس، دون إذن، وألقت القنابل المسيلة للدموع، وانهالت ضربًا على المشاركين في اجتماع عام، واعتقلت أكثر من مائتي طالب.

لماذا يتواصل القمع والقتل والإعتقال في بيرو وسط تجاهل وسائل الإعلام الأمريكية الشمالية والأوروبية، ومنظمات حقوق البشر؟

بالتزامن مع توسّع رقعة المقاومة، كان مُمثلو الإمبريالية الأمريكية يراقبون ما يجري ويتدخّلون مباشرةً إن كان ذلك ضروريا، ففي 19 كانون الثاني/يناير 2023، أعلنت الجنرال “لورا ريتشاردسون”، قائدة القيادة الجنوبية لجيوش الولايات المتحدة، خلال اجتماع المجلس الأطلسي أن “أكبر احتياطيات من النفط والخام الخفيف اكتشفت قبالة غويانا”، وذكّرت بأهمية “النفط والنحاس والذهب في فنزويلا والغاز والليثيوم في بوليفيا”، كما ذكرت “إن هذه المنطقة تحتوي على 31% من المياه العذبة في العالم… هذه المنطقة مُهِمّة لأمننا القومي وعلينا أن نكون يقظين “.

في 18 كانون الثاني/يناير2023، طلبت الرئيسة “دينا بولوارت” من نواب الكونغرس السماح بدخول وحدات بحرية وجنود أجانب مجهزين بأسلحة حرب إلى بيرو، والجنود المعنيين هم جنود الجيش الأمريكي الذي اعتاد على الانتشار في بيرو، بترخيص أو بدونه.

في اليوم السابق لإزاحة بيدرو كاستيلو (7 كانون الأول/ديسمبر 2022)، كانت السفيرة الأمريكية ليزا كينا (ضابطة سابقة في وكالة المخابرات المركزية) في مكتب وزير دفاع بيرو، وفي 18 كانون الثاني/يناير، التقت بوزير الطاقة والمناجم البيروفي، وَرَحَّبَ الوزير “بدعم حكومة الولايات المتحدة لنا في قضايا التعدين والطاقة” وأشار إلى الأولوية التي توليها حكومته “لقطاعي الغاز الطبيعي والطاقة وحماية استثمارات الشركات الأجنبية،” حاليًا ، ومنذ الإنقلاب، يتم – بأمر أمريكي – شحن كامل الغاز الطبيعي المسال المنتج في بيرو إلى أوروبا، لتعويض الغاز الروسي.

كانت بيرو تعيش حالة عدم استقرار، قبل الإنتخابات، وكان الرئيس بيدرو كاستيلو سادس رئيس، خلال ست سنوات، ولم يكن مدعومًا من قِبَل أغلبية نواب المجلس النيابي، بل عرقل النّواب مشاريع الإصلاح الزراعي والجبائي.

أقر مجلس النواب في بيرو (الكونغرس) تشريعًا يقيد استخدام الاستفتاء، وعَدَّلَ الدستور من خلال قوانين تضعف السلطة التنفيذية، مما يخل بتوازن القوى والسُّلُطات، وقبل الإنتخابات استثمرت قوى اليمين، خلال الحملة الانتخابية، مليون دولار في لافتات مُضيئة تعلن “لا للشيوعية” و “لا نريد أن نكون فنزويلا أخرى”، ومع ذلك فاز بيدرو كاستيلو بالرئاسة، لكن كانت أغلبية النواب تنتمي لخصومه الذين لم يتوقفوا عن حملتهم لتشويه سمعة هذا “المعلم الريفي المنحدر من الشعوب الأصلية “، كما كثّفَت المعارضة اليمينية من محاولات عزل الرئيس المنتخب، خصوصًا وهي تمتلك وسائل الإعلام (كما هو الحال في معظم دول أمريكا الجنوبية) التي تفتقر إلى الموضوعية، بل تلعب دورًا مزعزعًا للاستقرار، وفقًا لتقرير صادر عن بعثة منظمة الدول الأمريكية.

أثارت الدوافع العنصرية والمناهضة للديمقراطية للانقلاب “الدستوري” حركة احتجاج اجتماعية في جميع أنحاء البلاد، وشعر السكان بالغضب لما شاهدو في وسائل الإعلام بثًّا مُباشرًا لاعتقال الرئيس المُنْتَخَب بشكل شرعي، وإهانته من خلال تكبيل يَدَيْهِ ونقله إلى السجن، بعد استخدام المجلس النيابي اليميني كل الحِيَل المُمْكِنَة لعزله.

دفعت مظاهر الإنتقام والتّشَفِّي التي عبّر عنها اليمين العنصري، النقابات وقطاعات كبيرة من السكان إلى التظاهر في معظم مدن البلاد، رغم إعلان حالة الطوارئ، للمطالبة بالإفراج عن الرئيس بيدرو كاستيلُّو وحل الكونغرس وتنظيم انتخابات جديدة وتكوين جمعية تأسيسية، وأغلقت مجتمعات السكان الأصليين طريقًا سريعًا تستخدمه شركة ( Las Bambas ) وهي واحدة من أهم شركات التعدين في أمريكا الجنوبية، وأعلنت إضرابًا لأجل غير مسمى في هذه المنطقة.

قمعت سلطات الإنقلاب بعنف التظاهرات السلمية (أكثر من 60 قتيلاً في أقل من شهرين)، وأدّى القمع إلى زيادة أعمال التخريب ضد رموز الفساد: المصارف وبعض شركات المتاجر والمحاكم، كما أغلق المتظاهرون مطارين دوليين (أريكويبا وكوسكو)، والعديد من الطّرقات البَرِّيّة، ورموا الحجارة على مقرّات القنوات التلفزيونية والمواقع الإعلامية المطبوعة، وتم الاستيلاء على أهم محلات إنتاج الألبان في البلاد…

أعلنت حكومة الإنقلاب، في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2022 (بعد أسبوع واحد من الإنقلاب) حالة الطوارئ لمدة 30 يومًا، تم تمديدها فيما بعد، مما يسمح بتعليق حريات التجمع والعبور وحرمة المنزل، وما يسمح بنشر القوات المسلحة لدعم الشرطة، لكن ذلك لم يفل في عزيمة المتظاهرين الذين يمثلون شرائح واسعة من المواطنين…

في الخارج، وعلى مستوى أمريكا الجنوبية، أصدرت حكومات المكسيك وكولومبيا والأرجنتين وبوليفيا بيانًا مشتركًا في 12 كانون الأول/ديسمبر 2022 نددت فيه بـ “المضايقات المناهضة للديمقراطية” التي كانت مُقدّمة لانقلاب السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2022.


قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.