من الحروب إلى التفاوض .. واشنطن توثق هزائمها من فيتنام إلى سورية / م. ميشيل كلاغاصي
م. ميشيل كلاغاصي ( سورية ) – الإثنين 27/2/2023 م …
منذ تأسيس الدولة الأمريكية , تُظهر القراءة في تاريخها السياسي والعسكري , وفي ممارساتها وأدائها وأدوارها الدولية التي لعبتها عبر عشرات العقود ومن خلال النظم العالمية المتعاقبة , والأحداث التي عصفت بهذا العالم , تبدو وأنها دولة محاربة على الدوام , ودولة عدوانٍ دائم على الدول والشعوب , حتى عندما تُهزم في معاركها العسكرية والسياسية والإقتصادية , وفي صلب روايتها الإعلامية التي تضعها عنواناً مبرراً للإعتداء , تسعى إلى تغيير جلدها , ومعاودة الهجوم والعدوان , على الرغم من لجوئها أحياناً إلى التفاوض أو إعلان المهادنة وحتى إعلان قبولها السلام , أمورٌ بمجملها تؤكد اتباعها سياسة النفاق والتضليل والخداع والإحتيال , من باب التكتيك , لكنها في الوقت ذاته تتمسك بإستراتيجية شن الحروب , التي تتوافق مع ذهنية ومصالح ساستها ومفكريها ونخبها الحزبية وأغنياؤها , وكذلك تحظى بإهتمام شبانها وشاباتها من الطبقات المتوسطة والفقيرة , الذين عادةً ما يبدأون حياتهم بجني الأموال , من خلال التحاقهم في صفوف ووحدات الجيش الأمريكي المحارب دائماً.
فعلى سبيل المثال , وبالعودة إلى العاصمة الفرنسية وما حصل فيها قبل نحو خمسون عاماً , يمكن تسجيل لجوء الولايات المتحدة إلى التفاوض وتوثيق هزيمتها العسكرية رسمياً … حيث تم توقيع الإتفاق التاريخي الذي أنهى الحرب الأمريكية على فيتنام ، والتي ورطت نفسها فيها , واستجلبت لنفسها العار ووثقته هزيمةً على سجلاتها العسكرية والسياسية والإقتصادية والإنسانية , وعلى صفحات التاريخ.
على الرغم من الوحشية المفرطة , والأسلحة المحرمة دولياً وإنسانياً التي استخدمتها هناك , لم تستطع قوات الغزو الأمريكي إخضاع فيتنام , وبإعتراف الرئيس نيكسون في خطابه عام 1973: “انتهت الحرب بتكلفة 58 ألف أمريكي وحوالي 140 مليار دولار” ، ومع ذلك اعتبر أنه على الأمريكيين أن يفخروا بهذه الحرب على أنها “من أكثر المشاريع إيثاراً في تاريخ الأمم”.
لم تتعظ الولايات المتحدة , ولم تتعلم من دروس فيتنام , ومضت عبر طريق شن الحروب وقتل البشر, فمن الحرب الكورية إلى الحرب على العراق , وأفغانستان ويوغوسلافيا وليبيا وسورية , وبقي القاسم المشترك لعناوين عدوانها هي تلك “الرواية الأمريكية” التي تدعي جلب الحرية والديمقراطية والقيم الأمريكية إلى شعوب هذه الدول , لكنها في حقيقتها كانت تبحث عن السيطرة على مقدرات تلك الدول , وإسقاط أنظمتها السياسية , وتغير خرائطها الجغرافية والجيوسياسية , لكنها تعثرت في أهدافها , وعانت وتذوقت طعم الهزائم السياسية والعسكرية , وتكبدت الخسائر المادية والبشرية , وباتت تبحث عن التفاوض الذي يوثق هزائمها.
وإذا كان لا يمكن الفصل بين أهداف وجوهر العدوان الأمريكي على العديد من الدول حول العالم , كذلك لا يمكن الفصل بين أسباب وجوهر هزائمها , وما أصبح اليوم معروفاً , بأن أمريكا ليست قدراً للدول والشعوب , وبأن هزيمتها هدفٌ يمكن تحقيقه , ولم يأت من فراغ , لا بل سطرت لأجله عديد الدول والشعوب ملاحم البطولة والتضحية , وجعلت الصبر والثبات ومقاومة الغزو الأمريكي , أدوات وأسلحة مضمونة النتائج لهزيمته.
إن تسليط الضوء على هزائم الولايات المتحدة في كوريا وفيتنام وأفغانستان وليبيا والعراق وسورية , يسمح بإضافة هزيمة أمريكية جديدة باتت معالمها واضحة في أوكرانيا أيضاً , على الرغم من محاولاتها لإستخدام العقوبات الغربية وأسلحة الناتو في مواجهة روسيا ، ومن خلال ميدانيات ويوميات الحرب الغربية على روسيا , وبعد مضي عامٍ كامل على المواجهة , باتت ملامح الفشل الأمريكي في إخضاع روسيا واضحةً , وقد يساهم ذلك في تسريع البحث عن التفاوض مع روسيا أيضاً لتوثيق الهزيمة الأمريكية – الغربية , حتى لو أظهرت بعض الرغبة لإطالة أمد الحرب على روسيا , إلاّ أنها تراهن على استنزاف وسرقة حلفائها ومن يقاتلون لأجلها , وتبدو سعيدة بإنتقال الأموال من أوروبا إلى الخزائن الأمريكية , بما يتخطى رهانها على هزيمة روسيا.
كذلك يبدو من المؤكد بأنها ستعود إلى التفاوض النووي الإيراني , اّجلاً أم عاجلاً , وستوقع “صكوك” هزيمتها , في الوقت الذي يبدو فيه إعلان هزيمتها الحتمية في سورية قد اّن أوانه , فلا يمكن تصور أن تكون واشنطن بعيدة عن المواقف التركية التي قرعت أبواب دمشق , لإنهاء عشرية النار سلماً وحلولاً وتوافقاً على ضرورات محاربة الإرهاب , وضمان الأمن والإستقرار على طرفي الحدود , ويرى البعض أن تركيا حصلت على تفويض الولايات المتحدة لإنهاء الحرب على سورية , شأنها شأن كل من يحاولون مغازلة سورية وخطب ودها سراً أو علناً , وأعتقد أنه من المنطقي لنتائج الصمود والإنتصار السوري , أن يتم في نهاية المطاف الحصول على التوقيع والتوثيق الأمريكي على هزيمة الولايات المتحدة في سورية , وخروجها إلى حيث لا عودة.
بالإضافة إلى أثبتته تداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب سورية وتركيا , والذي أظهر بما لا يدع مجالاً للشك , بأن الولايات المتحدة بدأت تفقد السيطرة والإمساك بقانون قيصر, بعدما تم نسفه تحت العنوان الأخلاقي والإنساني من قبل عشرات الدول الشقيقة والصديقة , وعشرات والشعوب والأحزاب والهيئات والمنظمات الإنسانية , ومع ذلك لا زالت بعد مضي ما يقارب إسبوعين على الكارثة , تحاول بأقصى نفوذها وهيمنتها , حرمان ومنع الدولة والشعب السوري من الحصول على المساعدات الإغاثية , في أصعب الظروف التي فرضتها على السوريين منذ 13 عاماً للعدوان الأمريكي والإسرائيلي والدولي والإرهابي , والحصار والعقوبات , وغيرها من الإجراءات القسرية الظالمة , بعيداً عن القانون الدولي والأخلاقي والإنساني.
إن التمسك بالحرب على سورية الرغم من الظروف القاهرة التي تمر بها , عزل الإدارة الأمريكية , وأظهر وحشيتها ونفاقها , ودفعها لإعادة حرب المعابر الإنسانية التي خسرتها إلى الواجهة.. وسعت لإستعادة كسبها كمعابر لتسليح الإرهابيين تحت ذريعة إدخال المساعدات الإنسانية , حتى لو كلفها ذلك استخدام مجلس الأمن وفصله السابع – بحسب إدعائاتها – , بالإضافة إلى ما تقوم به من أجل التعمية وتجاهل كل ما قامت به الدولة السورية من فتح المعابر حتى الإضافية منها , ونقل المساعدات إلى كافة المناطق السورية بما فيها تلك الواقعة تحت سيطرة المجاميع الإرهابية بقيادةٍ ودعمٍ أمريكي , ومع ذلك تبدو نتيجة إفلاس مشروعها في سورية , قريبةً جداً من إعلان وتوثيق هزيمتها متعددة الأركان والجوانب , وقد تجد طريقةً لتوثيقها عبر تفاوضٍ مباشر مع القيادة والحكومة السورية.
تبدو الولايات المتحدة التي ترفض التعلم من أخطاء الماضي , وتستمر حتى اليوم في العبث وإشاعة الحروب والفوضى حول العالم , كمن تستعجل سقوط إمبراطوريتها , وفي مثل ذلك قالت العرب “جنت على نفسها براقش”.
التعليقات مغلقة.