نقد الفلسفة المثاليّة المعاصرة … الوجوديّة أنموذجا / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد ( سورية ) – السبت 11/3/2023 م …
الفلسفة المثاليّة عموماَ, هي مجموعة متنوعة من الآراء الميتافيزيقيّة التي تؤكد جميعها أن الواقع المعيوش بكل قضاياه لا يمكن تمييزه أو فصله عن الإدراك أو الفهم البشري. أي أنه بمعنى ما مبني عقليًا. أو من ناحية أخرى هو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأفكار. فالأفكار هي من يُثبت وجود الواقع وليس العكس. لذلك يأتي الحدس والضمير والوجدان والإرادة الذاتيّة والمنطق الصوريّ, (1) هي الأدوات الأكثر فاعليّة في التعامل مع هذا الواقع.
الفلسفة المثالية المعاصرة – الفلسفة الوجودية أنموذجا:
لقد كان للأزمة العميقة التي مر بها النظام الرأسماليّ منذ نهاية القرن التاسع عشر, نتائج مدمرة تجلت في قيام حربين عالميتين, تركتا آثارهما السلبيّة على حياة شعوب الدول الأوربيّة المتحاربة, ولم تزل هذه الاثار قائمة حتى اليوم, وخاصة على البنى النفسيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة بشكل عام, وعلى التوجهات الفلسفيّة المشبعة بروح التشاؤم والسقوط والعبث واللامعقول, بشكل خاص.
هذا وإن الفلسفة الوجوديّة موضوع بحثنا هنا, التي أفرزتها ظروف الحربين العالميتين الموضوعيّة منها والذاتيّة, لم تتجل أو تتمظهر في الفلسفة والفن والأدب فحسب, بل وفي نفسيّة المواطن وقيمه الأخلاقيّة وسلوكياته اليوميّة كما أشرنا قبل قليل. أو بتعبير آخر, لقد ظهرت هذه الفلسفة وتجلياتها في حاضنة اجتماعيّة مليئة بالأسى والحقد العام, والذعر, والآمال المبهمة في الانتقام, والمشبعة بالهيجان الهيستري لأجواء الفاشيّة والنازيّة… أجواء ساد فيها الشعور بالهزيمة والذل القوميّ, وذعر الطبقة البرجوازيّة الحاكمة من صعود المد الثوريّ, وخاصة بعد نجاح الثورة البلشفيّة.
ففي هذه الأجواء الموبوءة بالخوف والرعب وفقدان الاستقرار الفرديّ والاجتماعيّ, ظهر العديد من الفلاسفة الذين راحوا يحللون المجتمع ومعنى الحياة الإنسانيّة, ومصير الإنسان ومشكلات الاختيار والمسؤوليّة الذاتيّة للإنسان. (2). محاولين وضع الحلول للخروج من المأزق الذي دخلوا فيه,. فكان ظهور فلاسفة المدرسة المثاليّة الذاتيّة الحديثة أو المعاصرة ومنها الوجودية بشكل خاص, التي عبر عنها سارتر, وهيدجر, وكيركيجور, وكامو, وغيرهم.
ما هي أهم أفكار الفلسفة الوجوديّة:
أولاً الدعوة إلى الفرديّة:
تشكل الدعوة إلى الفرديّة حجر الزاوية في الأيديولوجيا البرجوازيّة المثاليّة عموما, والوجودية منها على الخصوص, هذه الفلسفة التي وجدت الحل في خروج الإنسان من ظروف الضياع والقهر والألم التي فرضتها عليه الحربين العالميتين والتصدي لها, هو الانطلاق من الفرد, والفرد الوحيد المنطوي على ذاته, هذه الذات المغيبة والمستلبة والمحطمة, التي لا أمل فيها, إلا بتركيز الفرد على اهتماماته ومصالحه.
إن المسائل الوجوديّة التي تشكل المضمون الوحيد للفلسفة الوجوديّة, هي المسائل النابعة من حقيقة وجود الذات الإنسانيّة. أي من مشاكل وجود الإنسان ومحدوديّة هذا الوجود, وانغماسه في العدم… أو انتهاء الوجود و الوصول إلى الموت.
إن الذات الوجوديّة لا تهتم إلا بوجودها الخاص…وبمسيرتها إلى العدم. إي إلى الموت.
ونظراً لكون هذا الوجود, أي وجود الكائن, هو الشغل الشاغل للفلسفة المثاليّة عموماً, وبما أن هذا الوجود واسع للغايّة ولا يمكن إخضاعه للتعريف المنطقي, لذلك نجد الوجوديين يعلنون مفهوماً للوجود غير قابل للتحديد, كونه مستعصيّاً على أي تحليل منطقي. لذلك لا يمكن للفلسفة عندهم أن تصبح علماً عن الوجود, وعليها بالتالي البحث عن سبل أخرى غير علميّة وغير عقلانيّة لسبر أغوار هذا الوجود. ولكون هناك أشياء كثيرة متعذر معرفتها, إلا أن هناك شكلاً واحداً من الوجود يمكن معرفته جيداً هو (وجود الذات المنفردة عن غيرها).
إن الإنسان المنفرد يُمَيًزْ عن بقيّة الأشياء, كونه يستطيع القول بأنه موجود, دون أن يعي بالضرورة معنى الوجود. إن الطريق إلى فهم الوجود المحيط بنا كما هو في ذاته, يمر فقط عبر وجودنا الذاتي, وبالتالي فالوجود عند الوجوديين ماهيّة باطنيّة, لا يعبر عنها بالمفاهيم, ولا يمكن أن تصبح موضوعاً أبداً. فهذا الوجود مستعصي على المعرفة العقليّة, والسبيل الوحيد لإدراكه هو معاناة الفرد المنفرد بذاته ووضعه, كما يتكشف للإحساساته الباطنيّة في معاناته المباشرة. إن معاناة الفرد في هذا الوجود هي مادة هذا الوجود.(3).
ثانياً: الذعر:
يشكل الذعر أو الخوف عند الوجوديين البعد الذي ينكشف في الوجود كاملاً. إن الذعر أساس كل الوجود. إنه الشعور الذي يتجلى عند الوجودي في مواجهته للعالم الخارجي الغريب والعدائيّ لذاته.. أو في مواجهته للقوة التي تدفع بوجوده إلى نهايته … إلى العدم.. إلى الموت.
إن القيمة المعرفيّة للذعر, هي أن يضع الذات في مواجهة نهايتها جنباً إلى جنب مع اللاوجود.. أي العدم. وفي هذه الحالة يتكشف وجود الذات. وبسبب الذعر يجد الإنسان نفسه وحيداً مع ذاته .. مع وجوده في مواجهة العدم.
يقول هايدجر: في الذعر يتكشف العدم. أي بما أن الوجود البشري محاط بالعدم, فإنه هو عدم أيضاً. إن العدم يولد الإنسان, وإن الذات عندما تعي عدميتها, ينتابها الذعر الذي يضيئ لها وجودها الذي هو العدم ذاته كما يقول سارتر. (4).
إن الجوانب العاطفيّة والنفسيّة, تكسب عند الوجوديين طابعاً انطولوجياً (وجودياً) في أشكال الوجود .. العدم.. الموت. لذلك يغدو الإنسان في فلسفتهم هو الذعر والذعر فقط. أو بتعبير آخر, إن الوجود البشريّ يتكشف في المواقف الحدّية داخل هذا الوجود, أي في المواقف التي تكشف عن قسوة عالمنا وغربته ومواقف الألم والنزاع فيه. بمعنى أن الإنسان يشعر بذاته عندما تصطدم بذات الآخرين, كما يقول سارتر.
ثالثاً: موقع الحريّة في الفلسفة الوجوديّة:
لقد تبين معنا أن الذعر في الفلسفة الوجوديّة يكشف محدوديّة الوجود البشري, ويضع الإنسان أمام ضرورة اختيار موقف بالنسبة للموت, أي العدم, ففي إمكانيّة مثل هذا الاختيار تكمن حريّة الفرد.
إن الفلسفة الوجوديّة بالرغم من اعترافها بأن جوهر الإنسان هو نتاج مجمل علاقات الحياة الاجتماعيّ, لكنها تسبغ على هذه الحقيقة طابعاً ذاتياً وإراديّاً محضاً. على اعتبار أن هذا الإنسان يختار ماهيّة الأشياء كما يشاء, لذلك هو يصنع ذاته بذاته, وأن ما هيته وفق هذا التصور لم تكتمل, كونها إمكانيّة احتياطيّة (وجود بالقوة).. فكرة … أو مشروع. (5).
إن الوجودي وفق هذا المعطى للفلسفة الوجوديّة, ينزع دوماً نحو المستقبل, وفيه يخطط لنفسه متجاوزاً بذلك حدود ذاته. فالإنسان يختار نفسه بملء الحريّة, ويتحمل كامل المسؤوليّة عن اختياره هذا. إن الحريّة ليست ملازمة للإنسان في الفلسفة الوجوديّة فحسب, بل هي جوهر وجوده أيضاً. فالإنسان هو حريته.
إن أفكار الحريّة, والاختيار الحر, والمسؤوليّة كل هذه القضايا لم تساعد الإنسان في الحقيقة على إيجاد حل صحيح لها كما تدعي الوجوديّة, بقدر ما زادته ارتباكا وتخبطاً. ففي النظرة الوجوديّة عن الذعر, والتي يجد فيها الوجوديون اَلْمَنْفَذَ الوحيد للحريّة. يكمن جوهر الحريّة وأسباب انطلاقتها, إنها الحريّة التي تتجسد في نشاط الفرد الخلاق الذي يهدف إلى تحويل العالم المحيط به أو الموجود فيه.
إن نقدنا العقلانيّ لهذا الفهم المشبع بالوهم عن الحريّة, يأتي من معرفتنا العقلانيّة لحياة الناس, فالنظرة الموضوعيّة من قبلنا لما عاشته أوروبا أثناء الحربين العالميتين وما بعدهما, لا تنكر وجود الخراب والمرض والعذاب والذعر والموت, وهذه التجليات السلبيّة التي أفرزتها تلك الظروف, أو ظروف الحروب بشكل عام تفرز معها أيضاً حالات نفسيّة وأمزجة عقليّة تشير إلى انحطاط هذه الحياة.
إن الحريّة في الفلسفة الوجوديّة أمر متعذر عن التفسير, ولا يعبر عنه بالمفاهيم, فهو لا عقلاني, لذلك فالوجوديون يعارضون الضرورة بالحريّة, وينفون مشروطيّه الاختيار.. لذلك تأتي الحريّة عندهم خارج المجتمع, أي حريّة الفرد المنطوي على ذاته المنعزلة عن الاخرين.. وبالتالي هي حالة باطنيّة, ومزاج نفسيّ, ومعاناة ذاتيّة. لذلك هي هنا تعارض (الضرورة), أي الظروف الماديّة والفكريّة التي تساهم في التوجه نحوها, أي المعيقة لتحقيقها, لكونهم عزلوها عن هذه الظروف المحيطة بها. فجاءت حريّة بلا قيمة, ومبدأ شكليّ فارغ, ونداء عقيم لا جدوى منه. إن الوجوديين لا يستطيعون ولا حتى يحاولون الكشف عن مضمونها الحقيقي. إنهم يؤكدون فقط على أن الإنسان يجب ان يختار مستقبله بحريّة, لكنهم لا يشيرون إلى ركيزة يعتمد عليها في هذا الاختيار, وبهذا يبقى الإنسان مسلوب الحريّة, كونه لا يجد شيئاً يختاره, فما يمكن أن يختاره ليس أفضل ولا أسوأ من غيره, ويبقى في نهاية المطاف اختيار بلا مغزى, إلا مغزى واحداً هو ما يُشْعِرُ الفرد بأنه معزولاً عن غيره, وبأن ما يريد تحقيقه بعيداً عن مصالح الآخرين ورغباتهم, وهنا تكمن مواجهة الفرد بالمجتمع.
إن الوجوديّة تطرح جانباً المضمون الحقيقيّ التاريخيّ للحريّة, لأن مسألة الحريّة عندهم ليست مسألة تحرير البشر من قسوة الحياة الطبيعية والاجتماعيّة عليهم.. أي ليس تحريرهم من ظلم الطبقات المستغلة وسيطرة القوانين العمياء في الطبيعة والمجتمع عليهم, إنها ليست أكثر من نصائح وإرشادات تهيب بالفرد أن يبحث عن حريته في أعماق وجوده الذاتي فقط.
رابعاً النظرة المثاليّة الذاتيّة للعالم:
يرى الوجوديون أنه, برغم كون الإنسان حراً, فإن حريته تتحدد بأطر حالة معينة يختار فيها موقفه هذا أو ذاك, مع التأكيد هنا بأن الوجود البشري يتميز بأنه وجود بين الناس الآخرين . أي وجود في المجتمع وفي العالم. ومع ذلك فإن الإنسان لا يختار بنفسه ظروفه المعيوشة لأنه اقتيد إلى هذا العالم رغماً عنه, وسيبقى تحت رحمة القدر. إن قدر هذا الإنسان يتحدد عندهم بانتمائه إلى زمن معين, أو شعب معين بطبعه هذا أو ذاك, وبثقافة وقدرات المجتمع العقليّة وغيرها. وهذه جميعها يجدها الإنسان قائمة لا حول له فيها ولا قوة. وحتى أن بداية الوجود الإنسانيّ ونهايته بالنسبة له مستقلان عن إرادته الإنسانيّة. إن هذا كله يدفع بالوجوديين إلى وجود آخر لا واقعي, هو ماهيّة غيبيّة أخرى, بالإضافة إلى الوجود البشري. إن الوجود في العالم حسب رؤيتهم, ليس إلا قلق الإنسان وشعوره بالخطر.
إن العالم الخارجي عندهم يلف الوجود الإنسانيّ كما الضباب الذي يلف الظواهر في علاقة لا تنفصم.
يقول هايدجر: (طالما أن الإنسان موجود, يبقى العالم قائماً, وإذا انتفى وجود الإنسان انتفى وجود العالم.). (6).
نقد النظرة المثاليّة للعالم:
إن من يتفحص هذه النظرة الوجوديّة المثاليّة للعالم, يجد أنها تتجلى بالانفراديّة في جوهرها عند الوجوديين, فهي تنفي لا الطابع الموضوعّي للمكان فحسب, بل وللزمان أيضاً, وَتُحَوُلُهُمَا إلى أشكال لوجود الإنسان المنفرد بذاته. فالزمن هنا ليس إلا معاناة الإنسان لمحدوديّة وجوده أو ديمومته المؤقتة. فالزمن الحقيقي هنا ليس إلا الفترة الممتدة بين ولادة الإنسان وموته. وبذلك فإن أية نظرة أو تصور عن وجود الزمان قبل الوجود الإنساني أو بعده, هو وهم لا أكثر. أو يمكننا أن نقول بتعبير الوجوديين, إن الكلام عما سيكون بعدي هراء فارغ.
هكذا ينفي الوجوديون التاريخ, ليعترفوا باللحظة التي فيها يستيقظ وعي الذات. إن هذه النزعة اللاتاريخيّة ليست إلا صدى للذعر من قوانين التاريخ التي ستودي بالضرورة بالطبقة البرجوازيّة, أو النظام الرأسماليّ إلى نهايته المحتومة.
إن العالم عند الوجوديين المثاليين مليء بالألغاز.. عالم يستحيل فهمه…إن الرموز والاشارات المبهمة تكتنف الوجود من جميع جوانبه.. إنه عالم يمثل صفحة مكتوبة بالشيفرة, يسعى الإنسان دائماً إلى فك رموزها. بيد أن الفشل سيكون حليف هذه المهمة. لذلك لا بد من اللجوء إلى الإيمان وبشكله الدينيّ المبسط المفهوم للجميع, أو إلى الإيمان الفلسفيّ الأكثر تعقيداً, ولكنه لا يختلف عن الأول إلا بالصيغة. إن المواقف الحدّيّة, أو لحظة الاحتضار أو الموت, ستزيح الستار المدلى على الوجود ليلتقي الإنسان بالمتعالي. إن هذا الموقف الوجودي ينطوي على الشموليّة المشبعة بالموت والعدم, وعلى الله قبل كل شيء.
خامساً الفرد والمجتمع:
إن الوجوديين لا ينكرون بأن الإنسان لا يستطيع العيش إلا بين ناس آخرين.. أي في المجتمع, لكن فهمهم لهذه الحقيقة يظل فهماً فرديّاً متطرفاً. فالمجتمع الذي يهيئ الظروف لحياة أفراده والذي فيه ينمو وعي الفرد وتتفتح شخصيته, ليس في نظر الوجوديين إلا قوة كليّة تضغط على الفرد وتسلبه وجوده وتجعله أسير أذواق وأخلاق ونظرات واعتقادات وعادة معينة, فرضتها الكتلة الاجتماعيّة.
فالوجوديون في حقيقة فلسفتهم يعبرون عن مجتمع أوربا الرأسماليّة, التي يُضطهد فيها الفرد ويشيء ويستلب ويغرب ويجرد من إنسانيته. والمشكلة عندهم أنهم يحاولون تحويل احتجاج المواطنين ضد معاناتهم هذه تحت مظلة الظروف الرأسماليّة إلى احتجاج ضد المجتمع عموماً, وليس ضد القوى التي فرضت عليهم هذه المعاناة.
إن الإنسان حين ينتابه الذعر أمام الموت, يلجأ إلى المجتمع ملتمساً فيه العزاء والسلوى, لا لكونهم سيقفون معه ويحلون معاناته, بل على اعتبار أن الآخرين سيموتون ايضاً وهنا تكمن سلواه. وبهذا يشيح الوجودي بأفكاره بعيداً عن موته الذاتيّ, أي عن موته هو. إن حياة الإنسان وفق هذا التصور عن حياته في المجتمع, ليست حياة حقيقيّة أصيلة, إنها وجود سطحيّ عمليّ لا أكثر. لذلك في أعماق الذات فقط, ينكشف الوجود الإنسانيّ الحق.. الوجود الفردي الأصيل, الذي يتجلى لنفر قليل من الناس أشبه بحالة الصوفي في تفرده مع المطلق. إن الذعر أمام الموت هو السبيل الوحيد لإدراك هذا الوجود, وهو الذي يضيء للإنسان وجوده الفرديّ, فلا أحد يموت بدلاً عن الآخر, وكل يموت بمفرده, بيد أن الموت سيصيب الجميع في النهاهية.
هكذا تتكرر المعرفة الوجوديّة هنا, فالإنسان يعيش لكي يموت, والموت هو الإمكانيّة الأخيرة المتبقّية للإنسان, أو هو نهاية كل الامكانات, وهو أسمى الحقائق, وأن الوجود يأتي من أجل الموت, وهو الهدف الأصيل لحياة البشر.
إن من يتابع أفكار الفلسفة الوجوديّة سيجد أنها تلحق ضرراً فادحاً في حياة الإنسان وبنيته الفكريّة وتوجهاتها, وبالتالي في سلوكه, حيث تزرع في نفسه الايمان بأن الموت هو معنى الوجود الإنسانيّ وغايته, وهذا ما يدفعه إلى الاستهتار بالحياة, وبالنضال من أجل مستقبل أفضل. ثم أن الوجوديّة بدعوتها إلى الفرديّة المتطرفة, تحاول أن تقنع الإنسان بأن لا فائدة ترجى من الحياة الاجتماعيّة, أي من تضامن الجهود الاجتماعيّة المشتركة للخلاص من معاناة الواقع وما تتركه التناقضات القائمة في بناه الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة من قهر وظلم على الإنسان. إن الوجوديّة بفهمها اللاعقلانيّ للحريّة, فهي تجرد الحريّة من أي مضمون حقيقيّ, وتجعل السلوك الإنسانيّ بمعزل عن أيّة ضرورة (أي أيّة ظروف موضوعيّة تحيط به داخل المجتمع), ليتحول الإنسان إلى مشيئة (وجود) لا حدود لها وبدون أي معنى.
ملاك القول: إن الوجوديين يعارضون الفرد بالمجتمع, أي بالتنظيم الاجتماعيّ, أو المتحدات الاجتماعيّة. إن الوجوديّة حين تنفي القيمة الكليّة للمبادئ والقيم الأخلاقيّة, إنما تنادي بالنسبيّة الأخلاقيّة المتطرفة, مما يحول الإنسان إلى طريدة.. إلى كائن لا أخلاقي تماماً, فكل شيء عنده يصبح مباحاً.
إن هذه الحياة العبثية التي يمارسها الوجودي في مجتمعه, وصفها خير توصيف الفيلسوف “زيجمونت باومان” في حكاية البطل أوديسيوس, حيث يكتب باومان عن حياة الأوربيين الذين فقدوا سبل الحياة العقلانية بسبب ما خلفته الحربين العالميتين وطبيعة النظام الرأسمالي المتوحش. لقد وصف حياتهم بحياة الخنازير, هذه الحياة التي لم يعد يهمهم التحرر منها, وهي عيشة يجدون فيها كل ما لذ وطاب, يتمرغون بالوحل بلا مسؤوليّة متى يشاؤون, ويشربون ويأكلون بلا هموم أخلاقيّة, ولا التزامات اجتماعيّة, ويتلذذون بعلاقات جنسيّة بلا حب, ولا واجبات ومسؤوليات أسريّة ولا روابط اجتماعيّة, ويعيشون في استقرار لا يحمل هموم الحريّة والكرامة الإنسانيّة, ولا يطيقون صوت الحريّة وهمومها ومسؤولياتها وعواقبها. (7). علماً أن بعض الوجوديين يقفون مع حركة أنصار السلم, ويطالبون بعدد من المطالب التقدميّة, إلا أن فلسفتهم تبقى بطبيعتها معاديّة للأخلاق التقدميّة الاجتماعيّة منها والعلميّة والفلسفيّة, وبذلك هي تلعب دوراً تخريبياً, وتوهن من عزيمة الناس المتأثرين بها.
إن الوجوديّة تنادي بحريّة الإنسان كما بينا أعلاه, ولكن فهمها للذات الإنسانيّة وللحرية معاً, يأتي فهماً متناقضاً ومغلوطاً, ومفعم بنزعات اجتماعيّة وسياسيّة جد متباينة. لذلك لا نستغرب أن الوجوديين هم من منح الفاشيّة والنازيّة والأنظمة الشموليّة الحديثة والمعاصرة سلطات لا محدودة, وبالتالي تبرير استبدادها وقهرها لشعوبها وشعوب العالم. فالفلسفة الوجوديّة إذ تنطلق من اغتراب الفرد في المجتمع البرجوازي باعتباره مبدأ القياس ومعياراً لكل القيم, فهي تنفي أية إمكانيّة للتحليل العلميّ بالنسبة لظواهر الحياة الاجتماعيّة وتقويمها موضوعيّاً. كما تحجب عن الأعين رؤية مجرى الصراع السياسيّ والعقائديّ والطبقيّ داخل المجتمع… إن الفلسفة الوجودية حتى عندما لا تعبر بشكل مباشر عن مصالح اليمين البرجوازي, فهي تبقي معتنقيها في دوامة من الحيرة والضياع, وتدفع بأصحابها إما إلى الاقتراب المؤقت من القوى التقدميّة فعلاً, أو تدفعهم باتجاه معسكر القوى الرجعيّة.
كاتب وباحث من سوريّة
الهوامش:
1- المنطق الصوري أو المنطق الشكليّ, وهو علم آلي وضع لصيانة الذهن عن الخطأ في الفكر. فهو الميزان والمعيار الأساس لمعرفة التفكير الصحيح. أي هو النظر في التصورات العقلية والقضايا والقياسات من حيث صورتها لا من حيث مادتها، وأهم مبادئ هذا المنطق هي : آ- مبدأ الهوية: يقضي أن الشيء هو هو ولا يمكن أن يكون إلا هو، أي أن الشيء يكون مطابقا لذاته. ب- مبدأ عدم التناقض: مضمونه أن النقيضين لا يجتمعان، فالشيء لا يمكن أن يكون ذاته وغير ذاته. ج- مبدأ الثالث المرفوع: مضمونه أن لا وجود لحد وسط بين نقيضين، فالشيء إما أن يكون أو لا يكون.
2- (موقع لماذا؟. بحث بعنوان لماذا ظهرت الفلسفة الوجودية ومعناها.).
3- (الموسوعة الحرة – بحث الوجوديّة).
4- راجع كتاب – موجز تاريخ الفلسفة. مجموعة من الباحثين السوفيات – إصدار دار الأهالي – دمشق – بحث الوجوديّة.
5- المرجع نفسه.
6- موجز تاريخ الفلسفة.
7- ( راجع الحداثة السائلة – زيجمونت باومان – ترجمة حجاد أبو جبر – مكتبة بغداد – الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر –ص8و9).
التعليقات مغلقة.