متابعات – نشرة أسبوعية – العدد الثّالث عَشَر – الأول من نيسان/ابريل 2023 م / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأحد 2/4/2023 م …
هذا ثاني يصدر منذ حول شهر رمضان الذي اتسم هذه السنة بارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع الغذائية الأساسية، فاختفت بعض أشهر الأطباق والعصائر والحلويات من موائد الأُسَر خلال شهر رمضان 2023، بسبب ارتفاع أسعار مشتقات الحبوب والألبان والبيض والسّكّر، وغياب بعضها من رفوف المتاجر. أما عن اللحوم، بما فيها لحم الدّواجن، فحَدّث ولا حرج، في ظل ظروف اقتصادية سيئة مستمرة منذ سنة 2020، سنة وباء كورونا الذي تلته حرب أوكرانيا، فضلا عن ارتفاع نسبة البطالة والفقر وارتفاع نسب التضخم وغلاء أسعار الغذاء عالمياً، وبذلك أصبح المُسلمون يواجهون ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الأطباق الشعبية التقليدية لموائد رمضان. كما يتزامن صدور هذا العدد مع الذكرى السابعة والأربعين ليوم الأرض (30 آذار/مارس 1976 – 2023)، وتم تخصيص الفقرة الأولى لهذه الذّكرى، والفقرة الثانية لما تُمثله مجموعة “بريكس” من تحولات (قد تكون بطيئة) في موازين القوى العالمية، وتتناول الفقرة الثالثة أزمة المصارف، انطلاقًا من سويسرا كنموذج للسّرّية المصرفية وكملاذ للمال القذر والمَسْرُوق، ولكن لا يقتصر الأمر على سويسرا، فالإمبريالية الأمريكية هي القوة المُهَيْمِنَة، وانطلقت منها الأزمات منذ 1929، وتتناول الفقرة الرابعة أحَدَ الوُجوه القبيحة للولايات المتحدة التي تنتقد الإجراءات التي تتخذها روسيا أو الصين أو إيران بشأن المنظمات الأجنبية المُسماة “غير حكومية”، بينما بقي قانون 1938 الأمريكي الذي يُحجِّرُ أو يُقَيّد عمل مثل هذه المنظمات على الأراضي الأمريكية، ساري المفعول لحد الآن ويتم تطبيقه بصرامة، وجاءت هذه الفقرة بعنوان: “مسموح للولايات المتحدة وممنوع على الآخرين! ملاحظات بشأن عمل المنظمات “غير الحكومية”، وتتابع الفقرة الخامسة ماهِيّة الفوائد التي تجنيها الولايات المتحدة من الحروب، وهي مُزدوجة، إذْ تبيع أمريكا الأسلحة التي تُدمّر العراق أو يوغسلافيا أو أوكرانيا، ثم تستفيد شركاتها التي تدرس منذ أشْهُرٍ مخططات إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب التي لا تزال تدور رحاها بعيدًا عن الأراضي الأمريكية، وتتابع الفقرة السادسة والأخيرة المناورات والإستفزازات الأمريكية وتحفيز حلفائها، من أستراليا إلى اليابان، وتايوان، وفي جنوب آسيا، وتحضيرات الصّين للدفاع عن أراضيها والمَمَرّات المائية لتجارتها، تحسُّبًا لأي احتمال، رغم استبعاد تورّط الولايات المتحدة في حَرْبَيْن كبيرَتَيْن في نفس الوقت، لكن الحذر واجب.
فلسطين – يوم الأرض
انطلقت، منذ بداية سنة 2023، مسيرات تُعبِّرُ عن تناقُضات ثانوية بين فِئَتَيْن من المُستعمِرِين الصّهاينة يحملون آلاف الرايات الصهيونية، لذلك نَأى الفلسطينيون (من الأراضي المحتلة سنة 1948) بأنفسهم عنها، فهي مظاهرات مناهضة للحكومة ولمشروع “الإصلاح القضائي” لرئيس الوزراء الصّهيوني وحلفائه، وهي في جوهرها لا تمسّ جوهر المشروع الإستعماري الإستيطاني الصهيوني، بل احتجاجات صهيونية داعمة للإحتلال، حيث تم الإعتداء على عدد ضئيل جدّا من بعض “الإسرائيليين” الذين حملوا أعلامًا فلسطينية أو لافتات تدعم “وضع حدّ للإحتلال” ( والإحتلال في عُرْفِهِم يقتصر على الأراضي المحتلة سنة 1967) وليس تفكيك المشروع الاستيطاني برمته، وعمومًا تدعم يافطات المتظاهرين “الديمقراطية اليهودية” و”السيادة اليهودية” على الأرض و”الحفاظ على النظام الصهيوني الليبرالي”، وعلى “المنظومة القضائية” وهي جُزْءٌ من النظام والمؤسسات الصهيونية التي تُتيح الإستيلاء على أرض الفلسطينيين وممتلكاتهم وهدم بيوتهم…
تجاهل الفلسطينيون احتجاجات الصهاينة لأنها مُوجّهة ضدّهم، وأحيوا الذكرى السابعة والأربعين ليوم الأرض ( 30 آذار/مارس 1976 – 2023) وهو اليوم الذي احتج خلاله فلسطينيو الدّاخل ضد مُصادرة الأراضي في الجليل، وشملت المظاهرات معظم مناطق فلسطين وقتل القوات المُسلّحة الصهيونية سنة فلسطينيين من ذوي الجنسية “الإسرائيلية” (من فلسطينيي الأراضي المحتلة سنة 1948)، ويخلّد الفلسطينيون هذا الحدث كل سنة، رافعين الأعلام الفلسطينية، إشارةً إلى هويّتهم الفلسطينية وإلى مرْكزية الأرض والوطن في النضال الفلسطيني، حيث ما انفكّت سلطات الإحتلال تصادر الأراض وتهدم المنازل وتهجر أصحابها، في كافة مناطق فلسطين، بذريعة “التطوير” أو “المنفعة العامة” أو عدم ثبوت المِلْكِيّة أو البناء غير المرخص، فيما ترفض البلديات المصادقة على تراخيص البناء أو حتى صيانة المنازل، تطبيقًا للعقيدة الصهيونية التي تريد الإستيلاء على الأرض وتهجير أصحابها، سواء في الجليل أو النّقب أو الخليل أو القدس.
جرت مسيرة العام 2023 في مدينة سخنين، وهي إحدى المُدُن الفلسطينية التي سقط منها شهيدان يوم 30 آذار/مارس 1976، وكان الشهداء الآخرون من عَرّابَة البَطُّوف ودير حَنّا وكفر كنّا والطّيبة، في ظل استمرار محاولات الإحتلال الإستيلاء على أراضي الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم خلال وبعد النّكبة، في الجليل والمثلث والنقب، في مرج بني عامر أو في سهل الحولة، فضلا عن الأراضي التي احتُلّتْ سنة 1967، وتسارعت عملية الإستيطان في المُدُن السّاحلية عكّا ويافا واللّد والرملة وغيرها…
للأسف يحتاج الفلسطينيون، حيثما وُجِدُوا، إلى مشروع تحرير وطني، لأن الصراع ليس مع حكومة “إسرائيلية” بل مع المشروع الصهيوني برُمّتِهِ، وتُشكّل الأرض أهم محاور هذا الصّراع، ويُشكّل يوم الأرض ويوم النّكبة وغيرها مناسبات لإحياء الذّاكرة الجَمْعِية وتعزيز الهوية الفلسطينية الجامعة لكافة الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها…
مجموعة بريكس، نموذج التّحوّلات الجيو-استراتيجيةالعالمية
بدأت العديد من الدّول تهتم بمجموعة بريكس وبمصرف التنمية الجديد الذي أسّسَتْه المجموعة، خصوصًا بعد الأزمات المتتالية في الدّول الرأسمالية المتقدمة منذ 2008، وأعلنت وزارة الخارجية الروسية إن 16 دولة تريد الانضمام إلى المجموعة المشكّلة من خمس دول (البرازيل وروسيا والهند والصّين وجنوب إفريقيا)، وكانت المجموعة قد أعلنت إنها تدرس المعايير التي سيتعين على الدول الراغبة في الانضمام تلبيتها، ودراسة طلبات قبول أعضاء جدد، من بينها السعودية والجزائر وإيران، ودول أخرى تقدمت بطلب رسمي للانضمام إلى المجموعة، وفقاً لسفير جنوب إفريقيا في “بريكس”، وتحاول الصّين تعزيز نفوذها – من خلال بريكس ومشروع الحزام والطّريق – لمواجهة هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها في الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمؤسسات الدّولية الأخرى، خصوصًا خلال السنوات القليلة الماضية، حيث بدأ نفوذ الولايات المتحدة يتزعزع، وحثّت الصين، خلال سنة 2022، لما ترأست مجموعة بريكس، توسيعها، لكن الأعضاء الآخرين لم يكونوا متحمّسين، وتترأس جنوب إفريقيا التي أعلن ممثلها “إن اقتراح توسيع “بريكس” سيكون أحد المحاور الرئيسية للمجموعة الاقتصادية هذا العام”.
في الأثناء كثفت الصين، أكبر منافس للولايات المتحدة، خطط توسيع التعاون مع أعضاء المجموعة ومع دول أخرى، بهدف إفشال المخططات الأمريكية الرامية إلى عزل الصين، وبهذا الشّأن، أعلنت وكالة “شينخوا” الصينية، وحكومة البرازيل (أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية) يوم الأربعاء 29 آذار/مارس 2023، أنها توصلت إلى إتفاق مع الصين للتخلي عن الدولار واستخدام عملتيهما المحليتين – اليوان الصيني والريال البرازيلي – في تعاملاتهما التجارية الثنائية، ما قد يخفض التكاليف، ويعزز التجارة الثنائية ويسهل الاستثمار، وفق بيان الوكالة البرازيلية للترويج للتجارة والاستثمار “أبيكسبرازيل”، التي أشارت أن الصين هي أكبر شريك تجاري للبرازيل، حيث بلغت قيمة التبادل التجاري بينهما نحو 150 مليار دولار سنة 2022، ونُشرت هذه البيانات على هامش منتدى أعمال صيني برازيلي رفيع المستوى عُقد في بكين، سبقه إتفاق مبدئي في كانون الثاني/يناير 2023، وكان الصين قد وقّعت اتفاقيات مع عدّة دول، للتعامل بالعملات المحلية، منها روسيا وباكستان والسعودية وإيران، وعدة دول أخرى.
أقرّت مجموعة بريكس إنشاء مصرف التنمية الجديد، منذ سنة 2014، خلال القمّة السادسة التي انعقدت بالبرازيل، وانتخب مجلس المصرف الرئيسة السّابقة للبرازيل “ديلما روسيف” رئيسة جديدة لمصرف إلى غاية تموز/يوليو 2025 ، وللتّذكير فإن المصرف حدّد مهماته بتمويل مشاريع البنية التحتية، والتنمية المستدامة، بالدول الأعضاء بمجموعة بريكس، والبلدان “النامية”، وأقر مجلس إدارة المصرف، منذ سنة 2014، تمويل أكثر من تسعين مشروع، في مجالات النقل والمياه والطاقة النظيفة والبنية التحتية للإتصالات وغيرها، بقيمة 32 مليار دولار، وأدّى ارتياح الدّول التي تعاملت مع المصرف إلى اجتذاب اهتمام دول أخرى، مثل مصر التي عززت صفوف “مصرف التنمية الجديد” بعد التوقيع النهائي لرئيسها، وكانت بعض الدّول الأخرى، من خارج مجموعة بريكس، قد أنتمت قبل مصر إلى المصرف، منها بنغلاديش والإمارات وأوروغواي وغيرها، وتكمن أهمية مجموعة بريكس في ما تمثّله على الصعيد الدّيموغرافي، حيث تضم حوالي 44% من سكان العالم و26% من مساحة الأرض و نحو 30% من حجم الاقتصاد العالمي وحوالي 35% من إنتاج الحبوب في العالم، ما يجعل من مجموعة “البريكس” واحدة من أهم التجمعات الاقتصادية العالمية…
سويسرا وتحولات النظام المصرفي
تستحوذ سويسرا على حوالي ثلث الأصول المالية والثروات المودعة في الخارج على مستوى العالم، بقيمة تقارب عشرة آلاف مليار دولارا، في ظل حماية الدّولة وقواعد السرّ المصرفي، ويُهيْمن مصرفا “اتحاد المصارف السويسرية – يو بي اس” و “كريدي سويس” على نحو 50% من حيازات المنظومة المصرفية السويسرية، وكان كريدي سويس، ثاني أكبر مصرف في سويسرا، وكانت له فُرُوع في أنحاء العالم، قبل الإعلان يوم 19 آذار/مارس 2023 عن استحواذ مُنافِسِه يو بي إس عليه مقابل ثلاثة مليارات دولارا فقط، وتحَمُّل الخسائر المُقَدّرَة بحوالي 5,5 مليار دولارا، بدعم من الحكومة السويسرية التي هَنْدَسَت عملية إنقاذ صِيت وسُمْعَة النظام المصرفي السويسري.
لم يكن الإنهيار مُفاجئًا للمتابعين أو الخُبَراء في هذا المجال، فقد نشرت خمسون من وسائل الإعلام الدّولية بيانات الآلاف من الحسابات المصرفية لكريدي سويس، كما تم تسريب وثائق، في شهر شباط/فبراير 2022، بعنوان “أسرار سويسرا” الذي نشره “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد”، ونقلته عشرات الصحف والمواقع الإعلامية في العالم، يُلْقِي الضوء على صلات المصرف السويسري بعشرات المسؤولين والسياسيين الفاسدين الذي استحوذوا على ثروات طائلة مشكوك في نزاهة ومشروعية مصدرها…
يُساهم المصرف الوطني السويسري ( المصرف المركزي) في تبديد المال العام، من خلال توفير 108 مليار دولار من السيولة لتسهيل عملية استحواذ يو بي إس على مصرف كريدي سويس، فيما تضمن الحكومة السويسرية مبلغ عشرة مليارات دولارا من الخسائر المحتملة، وتُعلّل وزيرة المالية السويسرية – في ندوة صحفية عُقدت مساء الأحد 19 آذار/مارس 2023، في مدينة برن- عملية تدخّل الحكومة وضخ المال العام، “إن مصرف كريدي سويس أكبر من أن ينهار وأن انهياره يتسبّب في اضطراب اقتصادي لا يمكن إصلاحه في سويسرا وفي جميع أنحاء العالم”. وأكدت وزيرة المالية “إن عملية الاستحواذ أرست أسس استقرار أكبر”.
كان لهذا الحدث تداعيات في الخارج فقد رحّبت أوساط المال والأعمال بالقرار السّريع والحازم للحكومة السويسرية والمصرف المركزي، وعبر ناطقون باسم وزارة الخزانة الأمريكية والمصرف المركزي الاوروبي وعدة دول ومصارف مركزية عن ارتياحهم بعد إعلان استحواذ يو بي إس على كريدي، ما يُجنّب اضطراب الأسواق المالية، خصوصًا بعد انهيار “مصرف وادي السيليكون” ومصرف “سيغيتشار” بالولايات المتحدة…
من اللتداعيات العالمية: تضَرّر المصرف الأهلي السعودي وصندوق قطر للاستثمار، اللّذان ضَخَّا مليارات الدّولارا في المصرف سنة 2022، من عملية الإستحواذ، أما في داخل سويسرا فقد عبّر الاتحاد السويسري للنقابات عن بالغ انشغاله بشأن مصير الموظفين، فقد كان مصرف كريدي سويس يُوَظّف حتى نهاية سنة 2022، أكثر من 52 ألف شخص في العالم، منهم 16700 في سويسرا، وأعلن المصرف في تشرين الأول/اكتوبر 2022 عن إلغاء 9000 وظيفة في جميع أنحاء العالم، وتتخوف نقابات العاملين بالمصرف من تحميل الموظفين تبعات المشاكل التي لا علاقة لهم بها. أما المواطن الأجير والعامل ومتوسّط الدّخل، فقد فرضت عليه الحكومة تَحَمُّلَ عملية الدّعم الحكومي للمصارف وضخ المال العام بهدف امتصاص الخسائر…
يُفترض أن أزمة 2008/2009 كانت درسًا للمنظومة المصرفية العالمية، لكن للأسف لاتزال الحكومات والمصارف المركزية تستخدم المال العام لإنقاذ المؤسسات المالية الخاصّة وحماية الأثرياء الذين تُعْفيهم الحكومات من تسديد الضرائب والرسوم الجمركية على الواردات، وترفض ضخ المال العام في مؤسسات التعليم والصحة العمومية والنّقل العام والمسكن بإيجار منخفض، أو لدعم أسعار الطاقة والغذاء والأدوية …
مسموح للولايات المتحدة وممنوع على الآخرين!
ملاحظات بشأن عمل المنظمات “غير الحكومية”
اضطرت حكومة جورجيا إلى سحب مشروعَيْ قَانُونَيْن بخصوص تمويل المنظمات “غير الحكومية” من الخارج وإلزام الممثلين الأجانب للمنظمات غير الحكومية بالتعريف بأنفسهم لدى السلطات، وسرعان ما عمّت المظاهرات، بينما زعمت وسائل إعلام أجنبية أن مثل هذا الإجراء يمثل عقبة أمام الحريات، واتّهمت الحكومة الجورجية بأنها تدعم روسيا (وهو ادعاء كاذب) ضد أوكرانيا…
يُعتبر مشروع القانون الجورجي أقل حِدّةً من القانون الأمريكي (Le Foreign Agents Registration Act – FARA ) وأقل عداءً منعه. تم طَرْح مفهوم “العميل الأجنبي” في الولايات المتحدة في عام 1938، عشية الحرب العالمية الثانية لمواجهة الدعاية النازية، لكن هذا القانون لا يزال ساري المفعول ويُسْتَخْدَمُ ضد كل من يجرؤ على انتقاد السياسة الأمريكية، خاصة في مناخ الخلافات الحالية بين روسيا والغرب.
يَفْرِضُ قانون تسجيل الوكلاء الأجانب (المعروف باسم FARA) تسجيل الوكلاء الأجانب ، وكان في البداية قانونًا يفرض تسجيل الأشخاص العاملين ضمن وكالات الإشهار والدعاية المُعتمَدَة بالولايات المتحدة، لكن لا يزال هذا القانون يستهدف الجمعيات ووسائل الإعلام وأي منظمة خيرية أو إنسانية أو سياسية، وأي منظمة مدنية أو نقابية أو أهلية يمكن أن تزعج الحكومة الأمريكية أو المنظمات الصهيونية أو المنظمات اليمينية المتطرفة أو غيرها من المنظمات، ليصبح هذا القانون (وتأويلاته المختلفة) سَيفًا مُسلّطًا، يكبح أنشطة الجمعيات والمنظمات من خلال حرمانها من الموارد، وتشويه سمعتها، بحجة خدمة مصالح قوى أجنبية.
كانت السلطات الأمريكية مهووسة بفكرة وجود طابور خامس نازي، ثم طابور سوفييتي، على أراضيها، وقامت باعتقال عشرات الآلاف من الأمريكيين من أصل ياباني، إبّان الحرب العالمية الثانية وزجّت بهم في محتشدات وعانوا التعذيب وظرف الإعتقال الفظيعة، ولا يزال “قانون تسجيل الوكلاء الأجانب” يفرض رقابة صارمة على المنظمات غير الحكومية العاملة في البلاد، والتي تتلقى الأموال الأجنبية، وسبق أن أدت “المكارثية”é في الخمسينيات من القرن العشرين إلى تفاقم هذا الوضع وشلت العديد من المنظمات غير الحكومية الأمريكية أو المنظمات السياسية أو النقابات العمالية التي تم تصنيفها في خانة “العملاء الأجانب”.
سنت روسيا قانونًا بشأن “العملاء الأجانب” بحجة “إن للمواطنين الرّوس الحخق في معرفة مصدر الأموال الأجنبية ومن يستفيد منها”، ورفضت الحكومات “الغربية” ووسائل إعلامها (الناطقة باسم الأيديولوجية المهيمنة في الغرب) هذه الحجج وتعتبر القانون “تقييدًا للحريات”، بذريعة أن للمجتمع المدني الحق في التمويل المستقل عن الحكومات، وفي الواقع، هذا التمويل ليس مستقلاً ولكنه يأتي من حكومات أجنبية تضمُرُ شرّا لنظام روسيا، وتُشكل المنظمات غير الحكومية الألمانية (التابعة للأحزاب والمُمَوّلة مباشرة من الحكومة) والأمريكية ( المُموّلة من الحكومة بواسطة الأمريكية للتعاون الدّولي – يو إس آيد ) أكثر الحالات وضوحا في ارتباطها بالحكومات (رغم صفة “غير الحكومية) وتسمي القوى الإمبريالية العظمى هذا النوع من الهيمنة “القوة الناعمة” (أي غير المُسلّحة)، تحت ستار “دعم المجتمع المدني: المؤسسات والنقابات الجمعيات والمنظمات غير الحكومية”، فقد تخصّصت هذه الحركات زعزعة الاستقرار والتدخل السياسي في بلدان أخرى، وخاصة البلدان الفقيرة، ذات الثروة الباطنية الهائلة، وارتفعت وتيرة تدخل “القوة الناعمة”، منذ انهيار الإتحاد السوفييتي الذي صادف صُعُود النيوليبرالية، حيث أصبح العالم أكثر انقسامًا وأقل توازنا، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، وهي النتيجة المنطقية لهيمنة رأس المال الإحتكاري والإيديولوجية النيوليبرالية.
تمول القوى الإمبريالية العظمى منظماتها غير الحكومية الخاصة بها، والعاملة في البلدان التي يعاني سكانها من الغزو ( العراق أو أفغانستان أو فلسطين أو الصومال…)، ومن الدمار من قبل الجيوش الإمبريالية، حيث يتم تهدئة السكان الذين تم غزوهم ببعض المال الأجنبي، ما قد يُغَيِّرُ ولاءاتهم إلى حد خيانة وطنهم، دون وعي، بل بسبب الجوع والبؤس، وترشو القوى الإمبريالية الغازية بعض العاملين المحليين بهذه المنظمات غير الحكومية براتب مرتفع (مقارنة بالأجور المحلية) وبعض المزايا والحوافز المادية، ليشكلوا (أحيانًا بدون علمهم) طابورًا خامسًا…
تسببت القوى الإمبريالية العظمى في زعزعة استقرار بلدان معينة مثل إيران أو كوبا أو فنزويلا، عبر الحصار، بهدف تجويع الشعوب و”إغاثتها” ببعض الفُتات وبعض الملابس القديمة، وبذلك يتم إضعاف الروح الوطنية ومُقاومة ومناعة هذه الشعوب، وإضعاف أنظمة الحكم بهذه البلدان، وإسقاطها دون تدخل عسكري ظاهر، إن أمكن، أو تشجيع المواطنين على الإنتفاض، بالتوازي مع تدخّل الإستخبارات والفرق العسكرية المتخصصة في التخريب من الدّاخل (بالإعتماد على بعض العُملاء على عين المكان) ويتم تمويل هذا النوع من العمل التخريبي من خلال المنظمات غير الحكومية و “المجتمع المدني”، وغالبًا ما تأتي الأموال من المنظمات الأمريكية، مثل USAID و NED و Open Society وما إلى ذلك، فقد تم تمويل انقلاب 2014 في أوكرانيا ضد سلطة منتخبة ديمقراطيًا بهذه الطريقة، وتَطْهِير المنظمات اليمينية المتطرفة النازية باسم دعم “المجتمع المدني” والديمقراطية.
في بعض البلدان، مثل جورجيا أو سوريا أو إيران، تظاهرت الجماهير لكن من يقود الجماهير في الشوارع بالآلاف ليس جزءًا من الحركة، وبالتأكيد ليس في خدمتها، فقد كان السفير الأمريكي والسفير الفرنسي يتنقلان إلى مكان المظاهرات في سوريا ويَخْطُبان في “الجماهير الثائرة” التي تم تسليحها، بسرعة عجيبة، بواسطة تيار الإخوان المسلمين وتفرعاته، وأصبحت العديد من المتظاهرين جزءًا من جيش المرتزقة، دون أن يُدركوا دورهم في خدمة من صَمّمَ الحركة ويوجهها ويمولها وينظمها ويروج لها على الصعيد الإعلامي عبر السفارات و “المراكز الثقافية” للدول الإمبريالية، ولعبت شبكات الإتصال المُسمّى “اجتماعي” دور ترويج الدّعاية الإمبريالية، وتبرير الخيانة والعمالة ، دون قصد أو دون وَعْيٍ أحيانًا، وبوعْيٍ أحيانًا أُخْرى فقد جنّدت المنظمات “غير الحكومية” الأوروبية والأمريكية والكندية واليابانية والأسترالية وغيرها مناضلي منظمات اليسار في فلسطين وفي العراق وفي مصر وتونس وغيرها للترويج لتفتيت المجتمع، وتفتيت الحقوق الوطنية والطّبقية، إلى حقوق مجموعات (مُكَوّنات) لا رابط بينها: حقوق أطفال وحقوق نساء وحقوق أثنيات وأقليات لغوية أو حقوق مُثُلِيِّين، وبذلك يتم إهمال الحقوق الوطنية، فنحن في معظم البلدان العربية والإفريقية وغيرها في مرحلة تحرّر من الهيمنة الإمبريالية، وفي مرحلة تحرّر من هيمنة طبقة البرجوازية الكمبرادورية، دون طمس حقوق العُمّال وحقوق النّساء وحق المواطنين في التعليم والرعاية الصحية والغذاء السليم الخ، في طريق النضال من أجل مجتمع عادل…
اليوم تدمير وغدًا بناء والرّبح أمريكي في كل الحالات
قال الجنرال الأمريكي دوايت دي أيزنهاور (1890-1969) والذي أصبح رئيسًا من 1953 إلى 1961 في خطاب وداعه: “كل سلاح صُنِعَ وكل سفينة حربية وكل صاروخ يُطلق يؤدّي في النّهاية إلى سرقة قوت الجياع الذين لا يجدون ما يأكلون، وأولئك العُراة الذين يعانون من البرد. إن التّسَلُّح لا يعني إنفاق المال فقط، بل سرقة عرق العمال وعبقرية العلماء وآمال الأبناء … “
تراقب شركات الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي عقود إعادة إعمار أوكرانيا بمجرد انتهاء الحرب، ففي كانون الثاني/يناير 2023، خلال انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا ، اجتمعت الشركات العابرة للقارات لمناقشة فرص الاستثمار التي سوف تكون مُتاحة في أوكرانيا، بمجرد انتهاء الحرب، وفي شباط/فبراير 2023، نظم اتحاد الصناعات الفنلندية ندوة مع المسؤولين الأوكرانيين لمناقشة إعادة إعمار أوكرانيا، بحضور عشرات الشركات العابرة للقارات، وفي آذار/مارس 2023، شاركت أكثر من 300 شركة من 22 دولة في معرض تجاري في وارسو عاصمة بولندا، بعنوان “إعادة بناء أوكرانيا”، اجتمعت معًا لهندسة وتقاسم سوق إعادة إعمار أوكرانيا، بعد نهاية الحرب.
كان لحرب أوكرانيا، مثل كل الحروب، رابحون وخاسرون، حيث تضرر اقتصاد الدول الأوروبية بشدة من ارتفاع تكاليف الطاقة، فيما استفادت اقتصادات الهند والصين، بفضل النفط والغاز الروسيّيْن، الأرخص من سعر الأسواق العالمية.
تُحقّق شركات النفط والدول المصدرة للمحروقات مثل السعودية وقطر، وشركات تصنيع الأسلحة مثل لوكهيد مارتن ونورثروب غرومان، أكبر الرابحين من الحرب التي تمكِّنُها من تعظيم أرباحها الضخمة.
اقترح خمسة وخمسون من الحائزين على جائزة نوبل، خفض الميزانيات العسكرية لجميع البلدان بنسبة 2% لمدة خمس سنوات، لتوفير مبلغ يفوق تريليون دولار، يمكن استثماره في الصحة والتعليم ومشاريع مماثلة في البلدان النامية، ودعم المشاريع الاجتماعية في البلدان الغنية، لكن يتم تجاهل مثل هذا المقترح لأنه يتعارض مع مصالح شركات الأسلحة والمحروقات.
ليس لحكومة الولايات المتحدة أو شركات تصنيع وبَيْع الأسلحة أو شركات النفط أي مصلحة في تعزيز السلام العالمي، فالحرب مصدر ربح وفير، وخصوصًا للشركات الأمريكية، فالولايات المتحدة هي المورد الرئيسي للأسلحة في العالم، وتصنع وتبيع الأسلحة الثقيلة مثل الطائرات العسكرية والقنابل والصواريخ، وكذلك الأسلحة الخفيفة مثل البنادق والمسدسات التي يستخدمها المرتزقة والمليشيات والعصابات، وعلى سبيل المثال كانت نسبة تفوق 40% من الأسلحة المُباعة في العالم، أمريكية الصّنع، في عام 2021، وتدعم حكومات الولايات المتحدة الأنظمة الديكتاتورية والكيان الصهيوني، وتعتدي على شعوب عديدة وتُحاصر شعوب كوبا وفنزويلا وسوريا واليمن وإيران إلخ.
أجراس الحرب تُقْرَعُ في جنوب آسيا
سَنّت الصين قانونًا جديدًا، في كانون الأول/ديسمبر 2022، يسهل تعبئة القوات الاحتياطية من قِبَلِ الجيش، ويُؤَسِّسُ نظام تجديد القوات المقاتلة في حالة الحرب.
قرر المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، في شباط/فبراير 2023، تسهيل تطبيق بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية الصيني على المَدَنيّين كما على العسكريين في أوقات الحرب، كما أصبح القضاء العسكري مُخولا بمقاضاة الأفراد الذين يعارضون الاستيلاء بالقوة على تايوان، واستخدام نفس قوانين الطوارئ في الأراضي المحتلة حديثًا، مثل تايوان، وتماشى هذا الإجراء مع عدم اعتراف الصين بانفصال تايوان عنها، منذ 1949.
صرّح العديد من المسؤولين الحكوميين الصينيين (بدءا من الرئيس ورئيس الحكومة )، بين الخامس والثالث عشر من آذار/مارس 2023، خلال الاجتماع السنوي للبرلمان الصيني، عن زيادة ميزانية الدفاع التي تضاعفت خلال العقد الماضي، فضلاً عن خطط لجعل البلاد أقل اعتمادًا على الواردات من الخارج، مثل واردات الحبوب، فأعلن رئيس الوزراء عن ميزانية عسكرية قدرها 1.550 مليار يوان (حوالي 224,8 مليار دولار) لسنة 2023، بزيادة 7,2% عن سنة 2022 ، لتكثيف “الاستعدادات للحرب”، وهو بمثابة الرّدّ على زيادة الميزانيات العسكرية لحلفاء معاهدة المحيط الهادئ الأمريكية الموحدة (أستراليا واليابان والفلبين وكوريا الجنوبية وتايلاند) وردًّا على زيادة الاستفزازات والمناورات العسكرية الأمريكية على الحدود البحرية للصين.
تستعد الصين لاحتمال اندلاع الحرب، فقد شَرَعَتِ الحكومة في تعزيز القوات المسلحة وأقَرّتْ قوانين جديدة لاختبار الجهوزية ( أو الجاهزية) العسكرية، ولإنشاء ملاجئ جديدة متطورة في المدن القريبة من مضيق تايوان، كما نشطت مكاتب “تعبئة الدفاع الوطني” الجديدة في جميع أنحاء البلاد، وبرّرَ الرئيس الصيني ذلك بقوله: ” يحاول الأعداء أن يفرضوا علينا حروبًا ولا بد لنا من مواجهتها بمخاطبة الأعداء باللغة التي يفهمونها، أي لغة القوة…)، كما أكد الرئيس الصّيني يوم السادس من آذار/مارس 2023 أنه يعتبر توحيد تايوان والبر الرئيسي للصين أمرًا ضروريًا لنجاح سياسته وتحقيق “التجديد العظيم للأمة الصينية”، وَحَثَّ شركات القطاع الخاص على خدمة الأهداف العسكرية والإستراتيجية للصين، وإعداد القاعدة الصناعية للصراع، وكان الرئيس الصيني قد صرّح قبل يوم واحد، أي يوم الخامس من آذار/مارس 2023، إن “الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة قد فرضت إغلاقًا وحصارًا كامِلَيْن ضدنا، الأمر الذي شكل تحديات خطيرة غير مسبوقة لتنمية بلادنا… مما يدفعنا للاستعداد لمواجهة حقبة جديدة من المجابهة المتزايدة … إن مسيرة الصين نحو التحديث مشروطة بكسر الاعتماد التكنولوجي على الاقتصادات الأجنبية، أي الولايات المتحدة وحلفائها من الدّول المُصنّعة، فالصين تعتمد حاليا على الواردات لأكثر من ثلث استهلاكها الغذائي ويجب أن تنهي اعتمادها على واردات الحبوب والسلع المصنعة…. »
التعليقات مغلقة.