الثقافة والتثاقف …الثقافة الْعَالِمَة أنموذجا / د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 6/4/2023 م …




     بالرغم من تعدد المفاهيم التي تناولت الثقافة ودلالاتها, حتى كادت أن تتجاوز المئة تعريفاً, بل تجاوزتها, أستطيع أن أدلو بدلوي في هذا المجال لأقول: إن الثقافة في سياقها العام, هي مجموع ما قام الإنسان بإنتاجه في الاتجاهين الماديّ والروحيّ عبر علاقته التاريخيّة مع الطبيعة والمجتمع, مضافاً إليها كل ما اكتسبه هذا الإنسان من مهارات بفعل نشاطه الفرديّ, أو ما تجذر عنده من قابليات واستعدادات فطريّة انطبعت في جيناته بفعل نشاط الإنسان التاريخيّ. وانطلاقاً من هذا الفهم للثقافة, فالثقافة إذاً, تبدأ بالحرف, وبأول وسيلة إنتاجيّة اكتشفها الإنسان وهي (العصا), وصولاً إلى ذروة الثورة المعلوماتيّة وأقمارها الصناعيّة الفضائيّة.

     إن الثقافة في التحليل السوسيولوجيّ إذاً, هي ثقافة إنسانيّة, قام الإنسان بإنتاجها, وعمل تاريخيّاً على تطويرها, وفي كل مرة يقوم بإنتاج عناصر ثقافيّة جديدة أو تطوير ما قام بإنتاجه, تعمل هذه العناصر- ماديّة كانت أو روحيّه – بدورها أيضاً على تطوير عقل وأخلاق منتجها, وإدراكه وحواسه ومهاراته, فالعلاقة بين عناصر الحضارة والإنسان علاقة جدليّة, كل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر.

     إن الإنسان وفقاً لهذا المعطي هو إنسان ثقافيّ/حضاريّ, وإنه أثناء وجوده في معطيات حياته أو جوده الاجتماعي, أي أثناء كدحه وإنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة وما يترتب أو يقوم على هذا الإنتاج من علاقات إنسانيّة, قد ساهم هذا الوجود أو الإنتاج ذاته في تحقيق اغتراب الإنسان وضياعه الماديّ والروحيّ أيضاً في هذا الإنتاج. فالإنسان في قسم كبير من حياته هو مغترب أو ضائع في منتجاته. ألم يصنع هو ذاته ألهته من حجر ويعبدها, أو من تمر يصلي لها وعندما يجوع يأكلها.. الم يصنع الإنسان ذاته النقود لتتحول إلى قوة ماديّة يباع هو ذاته بها ويشرى, ألم يخلق الإنسان بنفسه آلامه وقهره ومعاناته بفعل الإنسان. ألم يؤلف الشعر والقصة والرواية واللحن والرسم من أجل تصوير أحزانه وأفراحه وطموحاته في هذه الحياة التي أنتجها بنفسه, ثم راح بعض ما أنتج يأخذ حالة التقديس .

     نعم .. هذه هي ثقافته التي كونها عبر التاريخ, وهذه هي ثقافته التي أثرت فيه وطورت وبدلت في حياته مثلما طور وبدل بها هو أيضاً. وأخيراً هذه هي ثقافته التي ضاع في منتجاتها وراح من جديد يبحث عن ذاته فيها لِيُكَوِنَ ثقافة أخرى تَصور أنها غير ثقافته… ثقافة من خارج التاريخ … إنها الثقافة ألْعَالِمَة. أي هي ثقافة غربة الإنسان وضياعه في منتجاته… هي الثقافة التي فقد فيها الإنسان ذاكرته التاريخيّة, فراح يبحث عنها في عصر طفولته الإنسانيّة وما استجد عليها من أساطير نسج هو مكوناتها الفكريّة بما تتناسب مع حلمه في الخلاص وتحقيق السعادة والأمن والاستقرار. فالإنسان في كل دورة حياتية لمعطيات هذه الثقافة, يعيد إنتاج رؤاها الأسطوريّة وطقوسها ورموزها, كونه يشعر في كل دورة حياتية لها – وغالباً ما تكون سنويّة – استعادة جديدة لحياته يتخلص فيها من كل ما علق فيها من خطايا وذنوب ليخرج من جديد إنساناً بولادة جديدة. إنها ثقافة الأسطورة والمقدس والروحيّ بكل أشكالها التاريخيّة ومن ضمنها الثقافة البدائيّة التي لم يستطع الإنسان حتى هذا التاريخ أن ينسلخ عن الكثير من معطياتها. إنها ثقافة تقديس الشجر, والحجر, والضحيّة ودمها, وسن الذئب وجلده, ونضوة الحصان, وريشة الطائر, ورأس الوعل, والثعبان, والخرزة الزرقاء, وإشعال الشموع …

      إنها ثقافة الخوف من الحاضر والآتي, وما يرافق هذا الخوف من بحث عن سر الخلاص عند الشيخ وحجبته أو تميمته, أو عند الساحر ومائه ورماد نيرانه وأسماء جنياته وجنه.. إنها الثقافة التي اعتقدنا أن فيها سر الوجود وحركة الكون وكوارثه أو نعمه.. إنها ثقافة الأسطورة التي لم تزل تهيمن على حياتنا ونفسر بها قوانين حركة الطبيعة والمجتمع, وعالم الإنسان الداخلي في خوفه ومرضه وألمه وحلمه ورغباته  .. إنها ثقافة استرداد الماضي التي لم نزل نعتقد أننا بإحياء ذكرى بعض محطاتها سنوياً نستعيد فردوسونا المفقود, أو ما يمنحنا تجديد حياتنا, وما أكثر تلك المواقف وتعدد دلالات إحيائها, أو الوقوف عند ذكرها, كأعياد الميلاد وغيرها.. إنها الثقافة التي تجسدت في بعض صيغها الأكثر حضاريّة في الطائفة والمذهب والحزب والطريقة الصوفيّة, التي تَلَقَنَهَا الأفراد عبر طقوس تنسيبيّة, ومُنحت لهم على درجات ومراتب يشعر المرء في كل مرحلة فيها أو مرتبة أنه خُلق خلقاً جديدا, وأنه حقق تمايزاً معرفيّاً عن غيره في معرفة نفسه وما يحيط به.. إنها ثقافة الشيخ والبطل السلبيّ الذي نزحف على ركبنا للوصول إليه وتقبيل يده أو أخذ البركة من حضوره ولمسات يده… إنها ثقافة كل الرموز التي تُحول الفرد منا إلى ريبورت يشعر أن كل ما تعلمه من هؤلاء هو بداية المعرفة ونهايتها, وأن معرفة الكون والمجتمع والفرد تكمن فقط فيما تعلمه من هؤلاء… إنها ثقافة الرموز والطلاسم التي لا تنتمي للعقل ولا لنشاط الإنسان, بل هي تريد للعقل والإنسان وحاضره أن ينتمي إليها, كونها هي وحدها من تمتلك الحقيقة المطلقة والعارفة بما كان وما هو كائن وما سيكون. أي هي وحدها الصالحة لكل زمان ومكان… إنها الثقافة الْعَالِمَة.

ثالثاً: التأثير السلبي للتثاقف مع الغرب وتعميق ثقافة الاغتراب:

     مع تحقق عملية تركز الرأسمال في أوربا بشكل عام, وأمريكا على وجه الخصوص, وتحوله إلى رأسمال ماليّ, (1). وبالتالي التحامه بالدولة وتحوله أخيراً إلى رأسمال احتكاريّ, أخذ هذا الرأسمال الاحتكاريّ بدوره تحويل الدولة ذاتها التي التحم بها إلى دولة رأسماليّة احتكاريّة, راحت تمثلها في تاريخنا المعاصر الولايات المتحدة الأمريكيّة, بما تحمل هذه الدولة من مشاريع قهريّة لشعوب العالم, يأتي في مقدمتها تشكيل ما سمي بالنظام العالمي الجديد, والعمل على إعادة هيكلة العالم ( السوق العالميّة) وفقاً لمصالحها. فأمام هذه التحولات البنيويّة للنظام الرأسماليّ, رحنا نلمس انغلاقاً لتاريخ الأفكار, وولوج مرحلة ما بعد الحداثة, التي راحت مقولة (أدر جيداً أرصدتك) تفرض نفسها على كافة مستويات هذه المرحلة, وبخاصة القيميّة منها ممثلة بالفن والأدب والفلسفة والأخلاق. الخ

     إن معطيات ما بعد الحداثة في شقها ألقيمي هنا, لم تعد في مضمار هذا النظام أكثر من جملة من السيرورات التراكميّة التي يشدّ بعضها بعضاً, والتي دخلت عمليّاً كما يقول “ماكس فيبر” في مضمار (بناء تحديث الموارد وتحويلها إلى رؤوس أموال, عبر تنمية القوى الإنتاجيّة, وزيادة العمل…وعلمنة القيم الأخلاقيّة.). (2).

   إن قراءة أوليّة لأفكار ” ماكس فيبر”, تشير لنا وبكل وضوح, إلى أن هناك حالات انزياح قد تمت لمسألة القيم الايجابيّة, ويأتي في مقدمتها النسق الثقافيّ موضوع بحثنا هنا, وذلك من خلال السعي إلى فصل المسائل القيمّة الثقافيّة, عن أصولها أو جذورها من جهة, ثم تحويلها إلى نماذج لسيرورات تطور حياديّة, وقطع صلتها بكل ما هو عقلانيّ, بحيث لم تعد الثقافة بصفتها عمليات تفعيل لتنمية المجتمع وتطوره, أي بوصفها التاريخ الموضوعيّ للبنى العقلانيّة, بقدر ما أصبحت مورداً للدخول ( كم مليون دولار حقق هذا الفلم, وكم مليون دولار تساوي هذه اللوحة, وكم مليون دولار حقق هذا الكتاب.. الخ ).

     وهذا ما يدفعنا للقول أيضاً: إن الثقافة في معطياتها الما بعد حداثويّة التي جئنا عليها أعلاه, قد قضت على مقدمات التنوير, وأصبحت نتائج هذه التحولات القيميّة في صيغتها الما بعد حداثيّة التي أشرنا إليها, هي وحدها من يمارس التأثير على الفرد والمجتمع, وبالتالي هذا ما أدى بالمجتمع هنا, إلى أن يتحرر من إحدى الروافع الأساسيّة المحركة لتطوره الايجابي, وهي “الثقافة”.

      إن الثقافة في هذا السياق, تحولت إلى أسلوب عمل يساعد على تحريك القوانين الوظيفيّة لاقتصاد السوق المتوحش, وللتنمية والعلم الذين يخدمان هذه الوظيفة الاقتصاديّة, وخلق قيم اجتماعيّة وأخلاقيّة وسياسيّة جديدة كالتي أشار إليها “ماكس فيبر” بأنها, تخدم مصالح قادة النظام العالمي الجديد. أي تحويل هذه الثقافة إلى أداة لخلق قيم ونظام ربحيين بعيدين عن خدمة المجتمع, تتكئ على (عقل أداتيّ). (3) في التفكير والممارسة, كل ما يراد من هذا العقل هو إدارة الأرصدة بشكل جيد.                           

      إن (نمذجة الثقافة) في المجتمع الغربيّ والأمريكيّ في الصيغة التي تقدمنا بها أعلاه, دفعت بعلم أو دون علم, بعض الكتاب والمفكرين العرب لتسويقها في ساحتنا الثقافيّة, الأمر الذي زاد من حدّة وسعة الانزياح الثقافيّ في وطننا العربيّ, وبالتالي المساهمة أكثر في تعميم التخلف وتجذيره. 

كاتب وباحث من سورية

[email protected]

الهوامش:

1-   الرأسمال المالي: هو التحام الرأسمال التجاري والصناعي بالرأسمال المصرف, وبالتالي الزيادة في تمركز الراسمال في يد طغمة ماليّة قليلة العدد على مستوى الدولة الوطنيّة.

2-   راجع القول الفلسفي للحداثة, “هبرماس”, ترجمة فاطمة ألجيوشي, وزارة الثقافة, دمشق, 1995 , ص9).

3-   – العقل الأداتيّ: هو العقل عندما يوظف في تسيير التكنولوجيا ورسم الخطط والبرامج الإداريّة او الوظيفيّة لأصحاب الرأسمال بعيدا عن دوره في التخطيط لتنمية المجتمع وتطوره.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.