الوظائف السوسيولوجيّة للدين في عالمنا العربيّ المعاصر / د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد ( سورية ) – الجمعة 14/4/2023 م …




في المفهوم:

الدين لغة:

      جاءت لفظة الدِّين في اللّغة على عدة معاني، ومنها المجازاة، كما في قولهم: كَمَا تَدِينُ تُدان, أو كَمَا تُجازي تُجازَى، أَيّ تُجازَى بعملك وَبِحَسْبِ مَا عَمِلْتَ، ويوم الدّين هو يوم الجزاء، ومنه الدّين بمعنى الإسلام والطاعة: إذ يأتي الدِّين بمعنى الطَّاعَةُ والِانْقِيَادِ، والاستسلام. ويأتي أيضاً: التوحيد. وبمعنى الحكم. والحساب. (1).

الدين عقيدة:

     بيد أن المتعارف عليه بالنسبة للدين: بأن الدين هو ما بينه الله في كتبه المقدسة, أو ما بينه الرجال المصلحون الذين شكلت أفكارهم وقيمهم ديناً قائماً بذاته كالبوذيّة والمانويّة والزردشتية وغيرها. من رؤى وأفكار ومبادئ وعقائد, تَسوقُ الناس إلى الحق  والخير في تفكيرهم وسلوكهم عند ممارستهم لنشاطهم الحياتي.

الدين اصطلاحاً:

     الدين هو نظام اجتماعي- ثقافي من المعارف والمبادئ والسلوكيات أو الممارسات التي تنطبق أو يجب أن تنطبق مع مبادئ هذا الدين، وهي مبادئ لها بعدها الأخلاقيّ، ونظراتها العالميّة ونصوصها واماكنها المقدسة، مقلما لها المنظمات أو الأحزاب أو الطرق، التي تربط الإنسان بأفكار أو معتقدات هذا الدين، وهي في جوهر معظمها متعالية، وروحانيّة. ومع ذلك، لا يوجد إجماع علمي حول التعريف الدقيق للدين.

الأبعاد السوسيولوجيّة للدين ووظائفه:

     لا شك عندنا، بأن البعد السوسيولوجيّ (الاجتماعيّ) للدين يتحدد بالواقع المعيوش، على اعتبار أن الدين نسق من أنساق الوعي البشري. فهو يتصل اتصالاً مباشراً ووثيقاً بالواقع. والواقع هو الذي يحدد طبيعة نصوصه المقدسة من حيث دلالاتها وأهدافها، أي هو الذي فرض ويفرض على النص المقدس أن يتعامل مع هذا الواقع بأبعاده الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والقيمّة، وما يترتب على هذه الأبعاد من مهام ووظائف يجب أن تمارس في الواقع من جهة، ثم أن الواقع ذاته هو من يفرض أيضاً على من يشتغل على هذا الخطاب الدينيّ أن يعمل على تفسير وتأويل نصوصه المقدسة بما يتفق ومصالح الفرد والمجتمع, وفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيوشة من جهة ثانية. والواقع أخيراً في حركته وتطوره وتبدله هو من فرض الناسخ والمنسوخ على هذا النص المقدس في الخطاب الإسلامي ذاته على سبيل المثال لا الحصر، وبالتالي التأكيد على أن الأحكام تتغير بتغير الأحوال من جهة ثالثة.

     فهذا الشيخ الإمام “محمد عبده” يتعامل مع الفكر عموماً ومنه الفكر الدينيّ خصوصاً، بكل جرأة وعقلانيّة وفقاً لهذه الرؤية السوسيولوجيّة بقوله: (نعم إن الإنسان إنسان بكل فكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مزايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكراً، وكل فكر له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأفكار والأعمال ما دامت الأرواح في الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد).(2).

     إذن إن للدين موقفاً معرفيّاً ووظيفيّا تفرضه كما قلنا أعلاه طبيعة المرحلة التاريخيّة المعيوشة بالنسبة لحالات التطور والتقدم التي تصيب المجتمع والدولة تاريخيّاً أولاً، وكذلك بالنسبة لقوة حضور هذا الدين ودرجة فاعليته في حياة هذه الدولة والمجتمع بشكل عام ثانيّاً. ولكن يظل في المحصلة للدين دور وظيفيّ في شقيّه الإيجابيّ والسلبيّ في حياة الشعوب ودولها, أدته حوامله الاجتماعيّة في الماضي (مشايخ ورجال دين)، ولم تزل تؤديه في تاريخنا المعاصر.

     فالدين من الناحية الايجابيّة: يقوم بربط الفرد بالمجموعة، ويقدم له العون المعنويّ عند الضياع والخيبة والاحتجاج، أو عند القناعة والرضى والرضوخ، كما يقدم له العون الماديّ أحياناً من قبل أصحاب هذا الدين أو ذاك أو تفريعاته الطائفيّة والمذهبيّة.

     إن من وظائف الدين الايجابيّة ضبط وتعديل جملة التوازنات الممكنة بين الفرد وذاته، وبين الفرد والمجموع، كما أن آليات الضبط هذه تشتغل على وظيفة الفرد الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، أي وظيفته كإنسان في نهاية المطاف. ومن وظائفه الايجابيّة أيضاً، يشكل الدين في مفاهيم عدالته وموقفه من الظلم والاستعباد والاستغلال أحد الوسائل الأساس التي يتكئ عليها المحتجون أو المعارضون من الفقراء والمحرومين والمهمشين والمقصين من قبل الأنظمة السياسيّة المستبدة القائمة.

     أما بالنسبة للمواقف السلبيّة التي يحققها الدين وخاصة في مواقف حوامله الاجتماعيين الاحتجاجيّة: فهي أن الدين يُعَمَمُ هنا على مجمل مستويات قوى الاحتجاج، أي يغيب البعد الطبقيّ عند القوى المحتجة إلى حد بعيد، طالما أن العدو واحد في مرحلة تاريخيّة محددة. ولكون الدين في رؤيته لمفاهيم العدالة بكل مستوياتها أو تفريعاتها تقوم على رؤى ثابته (معياريّة) غير قابلة عند الكثير من مشايخ الدين للنقد أو المراجعة أو التعديل، لذلك نجد الدين يَحُولُ دون تطور ونضوج قوى الاحتجاج وإيصالها إلى قوى تغييريّة شاملة قادرة على تحقيق ثورة حقيقيّة قد تكون أساسيّة وضروريّة في مرحلة تاريخيّة محددة من تاريخ الدول والمجتمعات التي تعيش حالات من القهر والظلم والاستبداد. فمكانة الدين كـ (أفيون للشعوب)، لا تستثمر الدين عقلانيّا وبما يتفق وروح العصر. ومن ناحية أخرى يظل لوظيفة الدين سلبياتها على حياة المجتمعات ودولها انطلاقاً من الوظيفة الانتمائيّة للدين، هذه الوظيفة التي تتناقض مع تكوين الهويات الأخرى غير الدينيّة التي تقتضيها الوضعيات المعاصرة للأمم والشعوب، كالانتماءات الكبيرة مثل الانتماء للوطن أو للقوميّة، أو الانتماءات الصغرى مثل الحزب أو النقابة أو المنظمة… الخ.

     بيد أن الدين في وضعيته الانتمائيّة القائمة على العقيدة، يصبح هنا عامل تقسيم وتشرذم, خصوصاً داخل المجتمعات المتعددة الديانات والطوائف والمذاهب، حيث تؤدي هذه الانتماءات الدينيّة الضيقة إلى صراعات طائفيّة وأهليّة تهدد وحدة المجتمع ككيان حضاريّ وثقافيّ وسياسيّ, كما جرى في ثورات الربيع العربي التي اتخذت من سلاح الدين أداة لمواجهة الأنظمة السياسيّة القائمة, فحولت الصراع من صراع بين قوى ظالمة ومظلومة من الوجهة السياسيّة والقانونيّة, إلى صراع طائفي مقيت.

      تظل أخيراً هناك وظيفة سلبيّة للدين على درجة عالية من الأهميّة وهي، تحول الدين إلى أيديولوجيا بيد السلطات الحاكمة التي لا تعبر عن مصالح شعوبها، ففي تاريخناً الماضي والحاضر اتكأت السلطات الحاكمة المستبدة والشموليّة على الدين ووظفته تفسيراً وتأويلاً بما يحافظ على وجودها وبالتالي مصالحها. بل إن الدين ظل يحكم طبيعة السلطة ذاتها طوال الخلافة العربيّة الإسلاميّة, من حيث الانتماء الصلبيّ إلى البيت القرشي، أي الانتساب للرسول بالنسبة للدين الإسلامي على سبيل المثال لا الحصر. وهذا التوجه القبليّ/العرقيّ ظل قائما في عالنا الإسلاميّ حتى سقوط الخلافة العباسيّة. وهذا القانون السياسيّ الملفع بالدين منذ السقيفة, فرض على من استلم الخلافة من غير العرب أن يبحث له عن نسب عربي قريشي حتى يشرعن خلافته أو سلطته, والملفت للنظر أن من ينتمي لآل البيت من مشايخ الدين له حظوة اجتماعيّة كبيرة لدى المجتمعات الإسلاميّة إن كان من السنة أو من الشيعة.. كما أن من الآليات المهمة التي يعمل الدين عليها في توجهاته السلبيّة، هو التواطؤ الذي يقوم بين الطبقات الحاكمة والكثير من علماء الدين نتيجة مصالح مشتركة بينهما، وذلك عن طريق بعض المؤسسات الدينيّة وعلمائها، هؤلاء العلماء الذين كانوا بغالبيتهم وفي مختلف عصور الإسلام على سبيل المثال لا الحصر، خاضعين سياسيّاً واقتصاديّا للقوى الحاكمة. وهم من يقوم بعملية تفسير وتأويل النص الديني وإصدار الفتاوى لمصلحة هذه القوى السياسيّة الحاكمة أو تلك. أما الخطر في هذا التحالف المشبوه بين رجال الدين والسلطة، فيتجسد في تشجيع الفكر السلفيّ الغيبيّ الامتثاليّ الجبري وخاصة الأشعريّ والصوفيّ منه على وجه التحديد كونهما يعملان على محاربة العقل والإرادة الإنسانيّة من جهة، ومحاربة الفكر التنويريّ التقدميّ وحوامله الاجتماعيين، ونعتهم وأفكارهم بالزندقة والكفر من جهة ثانية.

كاتب وباحث من سوريّة

[email protected]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 – ابن منظور (1414هـ)، لسان العرب (الطبعة الثالثة)، بيروت – لبنان: دار صادر، صفحة 169، جزء 13. بتصرّف.

ويراجع في هذا الاتجاه ايضاً- مجموعة من المؤلفين (من 1404 – 1427 هـ)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الثانية)، الكويت: دار السلاسل، صفحة 265، جزء 4. بتصرّف.

2- (الأعمال الكاملة – محمد عبده- ج3- ص 286 وما بعد).

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.