الصين في حقبة العولمة وفي مواجهة الولايات المتحدة / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 15/8/2024 م …

عَرْض كتاب من تأليف  بنيامين بورباومر: الصين/الولايات المتحدة، الرأسمالية ضد العولمة -304 صفحة – دار النشر “لاديكوفرت”- نيسان/ابريل 2024




Chine/Etats-Unis, le capitalisme contre la mondialisation –304 pages Benjamin Bürbaumer  – Edition La Découverte – Avril 2024

تقديم

ليس هذا عرضًا أمينًا لمحتوى الكتاب وإنما يُمثّل هذا العرض فُرْصَةً لتناول موضوع تَطَوُّر الإقتصاد العالمي بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وتطور الصين من دولة تدعو إلى الإشتراكية إلى دولة رأسمالية تُنافس الولايات المتحدة على المستوى الإقتصادي وعلى مستوى النُّفُوذ العالمي، ولم أضع حُدُودًا أو فَواصل بين عَرْض محتوى الكتاب والملاحظات على هامش محتوى النّص، وَأَستهِلُّ العرض ببعض العناصر التي لم ترد في الكتاب، بهدف تتبع مسيرة الصّين من الثورة الثقافية وتأثيرها العالمي إلى التّراكم الرّأسمالي والطّموحات التّوسُّعِية.  

لاحظ هنري فيبر في مقدمة كتاب “الحزب الشيوعي الإيطالي واليوروشيوعية”- باريس 1977: “إن اقتران الانفجار الطلابي وثورة العمال الذي افتقرت إليه حركة مايو الفرنسية، كان من العوامل التي ضاعفت من قوة الحركة الجماهيرية في إيطاليا”، حيث شارك  أكثر من عشرة ملايين موظف بشكل مستدام في النضال بشعارات وأهداف مناهضة للرأسمالية، وكان النضال ضد التنظيم الرأسمالي للإنتاج ومن أجل سيطرة العمال على تنظيم العمل… هذه الحركة الجماهيرية المناهضة للرأسمالية (والمناهضة للبيروقراطية) لا تقتصر على المصانع بل تجاوزتها إلى مجمل جوانب الحياة اليومية، من بينها تخفيض الذاتي أسعار النقل والماء والغاز والكهرباء والهاتف والإيجارات والضرائب، بالتوازي مع النضال ضد مناهج التعليم والقضاء الطبقي، وأدّت مثل هذه الحركات الإجتماعية إلى استخلاص رأس المال العالمي الدّروس والشروع في إعادة الهيكلة العالمية لرأس المال للخروج من أزمة السبعينيات، وهو ما أفضى إلى النيوليبرالية في بداية ثمانينيات القرن العشرين… لقد استفادت الرأسمالية من حركة الشباب المُعارض لها لأن هذه الحركة كانت “فَوْضَوِيّة”، غير مُنظّمة وغير واضحة الأهداف، أما الرأسمالية فهي مُنَظّمة على صعيد محلّي ودولي، و”تتميز بالعداء المباشر والمُستَمِرّ للطبقة العاملة”، وفق “هنريك غروسمان – الصراع الطبقي في قلب الأزمة الرأسمالية”…

أوردنا هذا التّقديم لإظهار دَوْر الثورة الثقافية في الصين في انتفاضة الطّلاّب والشباب في أوروبا والعالم، وما آل إليه وضع الصّين فيما بعد، وكيف عجز شباب 1968 الذي أصبح ناضجًا خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، على التّصدّي للنيوليبرالية التي زحفت من بريطانيا والولايات المتحدة لتعصف بمكتسبات الطبقة العاملة والمُجتمعات الأوروبية…

كان جيوفاني أريغي ( 1937 – 2009) من أقطاب مدرسة التّبعية التي تُحمّل الإستعمار مسؤولية تَخلُّف البلدان المُستعمَرَة وشبه المُسْتعمَرة، من خلال التبادل غير المتكافئ المَفْرُوض بحكم التّقْسيم الدّولي للعمل ونَشَرَ جيوفاني أريغي، سنة 2007 ( قبل وفاته بسَنَتَيْن) كتابًا باللغة الإنغليزية بعنوان “آدم سميث في بكين” يؤكد أن صعود الاقتصادات الآسيوية، وفي  المقام الأول  الاقتصاد الصيني، كان في نهاية القرن العشرين، بفضل الصناعات التي تعتمد على عدد كبير من العمال ذوي التخصص الضعيف، ولكنهم يتمتعون باستعداد كبير لتنفيذ التعليمات (الأوامر) وبقدرة كبيرة على إنجاز مهام متعددة، ونشرت الصين العديد من المناطق الصناعية في الأرياف، حيث لا تزال قِيَم تقاسم العمل والمسؤولية داخل الأسرة أو القرية، سائدة، واستغلت الدّولة والرأسماليون الصينيون والأجانب هذه الخصوصيات من أجل تحقيق أهدافهم المتمثلة في تحقيق الحدّ الأقصى من الرّبح، وأظْهَر العُمّال الصينيون قُدرةً كبيرة على الإنضباط والاندماج في مجتمع العمل، والاستجابة بمرونة لحالات الصعوبات الطّارئة، وكان ذلك من العوامل التي سرّعت تطوّر الرأسمالية في الصّين…

أما  بنيامين بورباومر فهو خبير اقتصادي، وَيُشِيرُ إلى أن الاستثمار الأجنبي في الصين تتم إدارته على مستوى محلي (القرية أو البلدية) من قبل جهات فاعلة محلية (السماسرة والتجار والمنتجون…) المرتبطة بالشركات الأجنبية عن طريق العقود، وبالتالي فإن سلاسل القيمة العالمية ترتبط بالبنية الاجتماعية والأسرية الصينية التي تتسم بالديناميكية الشديدة والهيكلة الكثيفة في روابط تضامن غير رسمية إلى حد ما، وسبق أن تناول جوو باي وميشيل أجليتا، هذه الجوانب في كتاب بعنوان “ الطريقة الصينية- الرأسمالية والإمبراطورية ” باريس، نشر دار أوديل جاكوب، 2012، ويُذَكِّرُ بنيامين بورباومر إن قادة الصين كانوا يستهدفون منذ العقد الأخير للقرن العشرين انخراط الصين في الشؤون الدولية بموازاة التنمية الداخلية.  يختزل هذا المُلخّص – على هامش عَرْض الكتاب – أطوار الحرب الإقتصادية الحالية، ليكون العَرض مُجارِيًا لتطوّرات الأحداث، وهو مُحاولة لفهم الصّراع الحالي الذي يُهدّد بنُشُوب حرب عالمية… 

انهيار جدار برلين – مُنْعَرَج الإقتصاد العالمي

تم تقديم انهيار جدار برلين والإتحاد السوفييتي كانتصار نهائي للرأسمالية وكدليل على انعدام أي بديل عنها، بل نهاية التاريخ (فرنسيس فوكوياما) وتم إدماج الصين في الإقتصاد العالمي وفي حركة التّجارة الدّوْلية، وتحويلها إلى “مصْنَع العالم” باستثمارات أمريكية تستغل وَفْرَة العمالة الرّخيصة، على أن تتخصّص الإقتصادات الرأسمالية التقليدية المتطورة (أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان…) في مجالات التكنولوجيا والأدوية والطّاقات “النّظيفة” أو “البديلة” ومختلف المجالات المُرتبطة بالتقدم التكنولوجي لتأمين التّفَوق في المجالات ذات القيمة المُضافة المُرْتَفِعَة وتأمين السيطرة على التجارة الدولية، وخاصة تجارة المواد المصنعة المرتبطة بالثورة التكنولوجية، ومحافظة الدّول الإمبريالية على موقعها المُهيمن ضمن التقسيم الدّولي للعمل وضمن إدامة عملية التبادل غير المُتكافئ ونهْب موارد الدّول الواقعة تحت الهيمنة والإستعمار غير المُباشر (الإستعمار الإقتصادي)…

عندما انخرطت الصين بوضوح في النظام الإقتصادي الرأسمالي العالمي، خلال العقد الأخير من القرن العشرين (قبل استرجاع ماكاو وهونغ كونغ)، كانت الولايات المتحدة تدعم تحول اقتصاد عُملائها من الإعتماد على تصدير المواد الأولية إلى تصدير المواد المُصَنَّعَة، مقل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا في آسيا، واقتصاد بعض بلدان أمريكا الجنوبية، وحافظت الولايات المتحدة وأوروبا واليابان على احتكار التكنولوجيا ذات القيمة الزائدة المُرْتَفِعَة، وعلى تصدير رؤوس الأموال في شكل قُرُوض للبلدان “النّامية” – عبر صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي ونادي باريس…- بشروط مُجحفة وبفائدة مرتفعة، ما رفع حجم الدُّيُون الخارجية للدّول الفقيرة، وعجز بعض دول أمريكا الجنوبية عن تسديد الدّيون سنة 1982 وإلى “انتفاضات الخُبْز” في العديد من البلدان ( المغرب وتونس ومصر والأردن…) بين نهاية عقد السبعينيات ومنتصف الثمانينيات من القرن العشرين…

انتشر مفهوم “العَوْلَمَة” بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وتم تقديمها ك”مرحلة جديدة للتطور انظام الاقتصادي الدّولي”، وهو تغيير لَفْظِي وشَكْلِي لا يُغَيِّرُ من طبيعة “النّظام العالمي الجديد” الذي فرضته الإمبريالية الأمريكية بالعدوان الثلاثيني على العراق في بداية 1991، والذي لم تعترض عليه لا الصين ولا الإتحاد السوفييتي في آخر أيامه، وتميزت العولمة (والنظام الإقتصادي العالمي الجديد) ب”تحرير” التجارة وحركة رأس المال وتكثيف انتقال الموارد والثروات من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، وتم استثناء تنقّل الأفراد من “الجنوب” إلى “الشمال” كما بدأت الولايات المتحدة – وتَبِعَتْها أوروبا – تُطبق سياسات حمائية تجاه سيارات وحواسيب ومصارف اليابان، منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين، لأنها تُنافس الإنتاج الأمريكي في الأسواق الدّاخلية الأمريكية والأوروبية، وبعد بضعة سنوات طبّقت الولايات المتحدة نفس السياسات الحمائية تجاه ألمانيا والإتحاد الأوروبي…

أفلتَت الصين من الإستعمار غير المُباشر بفعل تحرّرها من الإستعمار الياباني، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبفعل سيطرة الحزب الشيوعي منذ سنة 1949، وأدّى انخراطها في النظام الإقتصادي العالمي الجديد (أو العَوْلَمة ) إلى اجتذاب استثمارات ضخمة لما تحولت إلى مصنع العالم، غير إن الصين لم تقترض من صندوق النقد الدّولي أو من نادي باريس، بل حدثت عملية التراكم الرأسمالي على حساب عُمّال وفلاّحي الصين، وعلى حساب مواطني وثروات إفريقيا وآسيا، وبتخطيط من الدّولة التي كثّفت من الإستثمار في التعليم والبحث العلمي والصّحّة والطّاقة وغيرها من القطاعات التي سمحت للبلاد بالتّطوّر السريع من “مصنع العالم” إلى الصناعات التكنولوجية والتقنيات الدّقيقة، ولم تتمكّن الولايات المتحدة وأوروبا واليابان من الضّغط على الصّين بواسطة الدّيُون أو ما تُسمّيها “المُساعدات”، فاستخدمت الحظْر والحصار و”العُقُوبات” لما أصبحت الصين مُنافِسًا قَوِيًّا ومُستقلاًّ عنها…   

لم يَرِدْ هذا التحليل في كتاب بنيامين بورباومر، بل هي ملاحظات قارئ من بلاد “الجنوب”، ويستند الكاتب والخبير الإقتصادي بنيامين بورباومر، في كتابه ” الصين/الولايات المتحدة، الرأسمالية ضد العولمة” إلى تحليل الرأسمالية وتناقضاتها على الصعيد الدّولي لشرح أسباب وأَعْراض ونتائج التنافس الأمريكي – الصّيني الذي يحدد بعض أهم تحولات النظام العالمي الحالي،   ويقدم منظورًا محفزًا للتنافس الصيني الأمريكي، اعتمادًا على تحليلات روزا لكسمبورغ (1871 – 1919) للإقتصاد السياسي الدولي وللإمبريالية… 

الصين، من “البناء الدّاخلي” إلى مُنافسة الإمبريالية الأمريكية

كان شعار قيادة الحزب الشيوعي الصيني عند التّحرير (سنة 1949) “طبق من الأرز لكل صيني” وبعد أربعة عُقُود، أصبحت الصين دولة رأسمالية تستغل موارد عدد من بلدان إفريقيا وآسيا وتُصدّر كميات كبيرة من المواد المُصنّعة الرخيصة والرّديئة التي يستهلكها مواطنو الدّول الفقيرة بسبب انخفاض ثمنها، وساهم ذلك – إلى جانب استغلال الطبقة العاملة وتحويل مئات الملايين من الفلاحين إلى عُمال محرومين من الحُقُوق في مصانع المدن الكبرى- في التراكم السّريع لرأس المال في بلد واسع ذي كثافة سُكّانية وسوق داخلية فريدة من نوعها، وتم تحويل الصين إلى “مَصْنع العالم” وإدماجها في منظمة التجارة العالمية، ولما انتقلت الصين إلى مجال البحث العلمي والصناعات المتطورة ذات التقنية العالية والقيمة الزائدة المُرتفعة، وإلى منافسة الشركات الأمريكية والأوروبية في أسواقها الدّاخلية أسّست الولايات المتحدة جبهة مُقاوِمة للصين، باسم “حماية الأسواق الداخلية الأوروبية والأمريكية من الإغراق الصيني”…

أصبحنا نقرأ من حين لآخر مقالات أو دراسات أو نُشاهد وثائق سمعية/بصرية تنقد دَوْرَ الصّين في إفقار إفريقيا وإثقال كاهلها بالدُّيُون وبالمشاريع غير المُجْدِيَة والتبادل غير المتكافئ وما إلى ذلك من الحجج التي نستخدمها لنقد الدّوَل الرأسمالية الإمبريالية، فضلا عن نقد الصّين بشأن الإستغلال الفاحش للعمّال في الصين أو في الخارج، واكتشفنا بالمناسبة إن صحيفة “لوموند” التي دعمت الإمبريالية الأمريكية منذ العقد الأخير من القرن العشرين، أصبحت مُتخصّصة في نقد روسيا والصّين – منافسي أو خصوم الولايات المتحدة – وتدّعي الإهتمام بحقوق الشّعُوب المُضْطَهَدَة وبحقوق العُمّال وتُحمّل الصين نتائج عنجَهِيّة الإمبريالية الأمريكية في العراق وفي أفغانستان ( لوموند 03 أيلول/سبتمبر 2021)، وما صحيفة “لوموند” سوى مثال يعكس مستوى الصحافة “الغربية” التي تَزْخَرُ بالأدبيات التي تصف الصين بالقوة “الإمبريالية  التي تُؤَدِّي دَوْرًا سلْبِيًّا في إفريقيا والعالم”

سمحت العمالة الصينية الرخيصة، منذ ثمانينيات القرن العشرين، للشركات الأمريكية العابرة للقارات بزيادة هوامش ربحها بشكل غير مسبوق، وبتحدِّي نقابات الأُجَراء، من خلال تعويض ركود الأجور في الولايات المتحدة باستيراد السلع المصنعة المنتجة بتكلفة منخفضة في الصين، فيما تعمل الصّين على حل التناقضات الداخلية بين العمل ورأس المال، وقضايا التنمية، من خلال زيادة الصّادرات والإلتفاف على الحصار الأمريكي من خلال مُبادرة الحزام والطريق أو طريق الحرير الجديدة، وبذلك حافظت على نسق النّمو والإقتراب من الولايات المتحدة…  

استطاع بنيامين بورباومر في كتابه “ الصين/الولايات المتحدة، الرأسمالية ضد العولمة ” تحديد الدور الذي تلعبه الصين اليوم على المسرح العالمي سواء في ديناميكيات علاقات الإنتاج الرأسمالية أو في تاريخ الصراعات من أجل الهيمنة التي تقودها القوى العالمية الكبرى داخل نمط الإنتاج الرأسمالي، وتأثير ذلك على نضالات الطبقة العاملة ومتابعة تطور الصين من النضالات الاجتماعية ( الثورة الثقافية وتأثيرها العالمي) إلى رأس المال العابر للحدود الوطنية.

ينطلق المؤلف من فرضية: إن التنافس الحالي بين الصين والولايات المتحدة يندرج ضمن قواعد العولمة كما حَدّدتها الولايات المتحدة لتكون دائمًا في صالحها ولِتُحافِظَ على هيمنتها، فيما تعمل الصّين على تقويض هذا الشكل من العولمة، وعلى إعادة هيكلة السوق العالمية بهدف اكتساب دور مهيمن، أي تحدي الهيمنة الأمريكية ( وحلفائها) والدّفاع عن موقع الصين، من خلال “مبادرة الحزام والطّريق” (طريق الحرير الجديدة) وتكثيف النشاط الدّبلوماسي (للحد من الخلافات بين إيران والسّعودية أو الإشراف على لقاء الفصائل الفلسطينية) وزيادة الإنفاق على التّسلّح… 

العولمة الحديثة

يبْدُو وكأن العالم اكتشف العَوْلَمَة بنهاية القرن العشرين أو بداية القرن الواحد والعشرين، لكن العولمة تعني حركة توَسُّع رأس المال إلى خارج حدود الدّولة القومية بعد استكمال غزو السوق المحلية، وهي العملية التي أطلق عليها كارل ماركس (1818 – 1883) وفريدريك إنغلز ( 1820 – 1895 ) في كاتب البيان الشيوعي ( 1848) عبارة “العَوْلَمة”، وأوضح فلاديمير لينين ( 1870 – 1924 ) إن عملية تراكم رأس المال تُؤدّي إلى الإحتكار – احتكار السوق الداخلية – ثم تبحث الشركات الإحتكارية عن أسواق خارجية لتصريف فائض الإنتاج ولتوريد المواد الأولية الرخيصة واستغلال العاملين في البلدان الفقيرة، وهي ما أطلق عليها عبارة “الإمبريالية”، وهي المرحلة المتواصلة منذ منتصف القرن التاسع عشر، مع اختلاف الأشكال، وبدأت الحقبة الحالية من الإمبريالية (أو العَوْلَمَة) كرد فعل أو “استجابة” رأس المال لنضالات عقد السبعينيات من القرن العشرين وارتفاع حِدّة النضالات الاجتماعية والسياسية ( النقابات والشباب والنّسْوَة والأقليات، وخصوصا السّود ومناهضة حرب فيتنام وحركات التحرر)، وما انجَرّ عنها من انخفاض معدل أرباح الشركات الرأسمالية في أمريكا الشمالية التي كانت تُعاني كذلك من مُنافسة شركات ألمانيا الغربية واليابان، وهي دُوَلٌ تُهيمن عليها الولايات المتحدة، وتُؤْوِي قواعد عسكرية ضخمة، ويعتبر بعض الباحثين الفرنسيين، من بينهم بنيامين بورباومر وجيرار دومينيل ودومينيك ليفي وروبرت برينر إن رأس المال الأمريكي ( الشركات العابرة للقارات) كثّف الإستثمار في الخارج، خلال العُقُود الأخيرة من القرن العشرين للتّعجيل باستخلاص الأرباح من الإستثمارات السابقة من خلال الضغط على النفقات والأجور أي لخفض تكاليف الإنتاج، وشكّل رأس المال الصّناعي ورأس المال المالي الأمريكيّيْن تحالفًا عابرًا للحُدُود، لصالح حرية حركة رأس المال والسلع، أو ما يمكن تسميته “العَوْلَمَة” وهي عملية اقتصادية وسياسية واجتماعية، تتخذ شكل إعادة هيكلة المجتمعات والعلاقات الاجتماعية على نطاق عالمي، بهدف إخماد ديناميكية الاحتجاج خلال فترة السبعينيات من القرن العشرين في أوروبا وأمريكا الشمالية، أو ما اعتبره ديفيد هارفي “تعديل الظّروف الإقليمية وخلق فضاء عالمي جديد ملائم لتداول السلع والخدمات ورأس المال وتحقيق الأرباح…”

في هذا الإطار شكّل ديفيد روكفلّر وهنري كيسنغر وزبيغنيو بريجنسكي ومجموعة بيلدربيرغ “اللجنة الثلاثية” لتعزيز التعاون بين الولايات المتحدة وأوروبا واليابان سنة 1973 ، بهدف “تنسيق وتعزيز سياسات تحرير التجارة وأسعار الصّرف وحركة رأس المال وخفض الإنفاق العام وخفض أو إلغاء الضرائب على الثروات وعلى أرباح الشركات وإلغاء القيود التي تفرضها قوانين العمل…” وتمت تجربة هذه الإجراءات وإلغاء القُيُود التّنظيمية في الولايات المتحدة خلال فترة رئاسة جيرالد فورد، بداية من سنة 1974، ثم خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين(كما في بريطانيا) قبل تصديرها عبر المؤسسات المالية (صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي) ومن خلال النفوذ المالي والإقتصادي والسياسي للولايات المتحدة وتَمّت إزالة معظم العقبات التي تعترض حرية حركة رأس المال وإلغاء مكتسبات “دولة الرّفاه” والهجوم الحادّ على المنظمات النّقابية (المناجم في بريطانيا وصناعة السيارات ومراقبو حركة الطيران  في الولايات المتحدة ونقابات الصّلب في ألمانيا وفرنسا…) وتَمّت عَوْلَمَةُ هذه الإجراءات من خلال اتفاقيات التجارة الحُرّة وشُرُوط الإستثمار الخارجي والقُرُوض، بالتوازي مع تكثيف الحملة السياسية ضد الإتحاد السوفييتي (بذريعة الدّفاع عن حقوق الإنسان) وأعلن الرئيس وليام (بيل) كلينتون “إن ازدهار واستقرار الولايات المتحدة يعتمد على سياستها الخارجية وعلى دَوْر الولايات المتحدة كَمُشْرِفٍ على الرأسمالية المعولمة، وبالتالي هيمنتها على العلاقات الدولية، وإعادة هيكلة العالم وفقًا لمصالح رأس المال الأمريكي العابر للحدود، والتي محورها تحقيق الأرباح من خلال التوسع المكاني وانضباط العمال وحَصْر الإحتجاجات المحتملة…”

كانت هذه مُرْتَكزات استثمار الشركات الأمريكية في الصّين التي أعلنت ومارست دخولها في الإقتصاد الرأسمالي العالمي،  منذ انتصرت مجموعة ( أو شق ) دِنْغ هسياو بينغ، من خلال تدفقات رأس المال الأجنبي وتوقيع اتفاقيات التجارة الحرة، ووفَّرت الصّين عوامل خفض التكاليف: القوى العاملة والأرض والطاقة والمواد الخام، فكانت فُرصةً للشركات الأجنبية والأمريكية بشكل خاص لخفض التكاليف واستغلال العمالة الرّخيصة وخصوصا من الفلاحين الذين تم طرد أكثر من 200 مليون منهم من “أراضي الدّولة” التي استولى عليها الأثرياء الجُدُد، واستغلتهم الشركات العابرة للقارات لزيادة الأرباح مع ضمان التحكم في سلاسل القيمة العالمية وتنظيم شبكات التوزيع الأساسية للإنتاج… 

من العلاقات غير المتكافئة إلى التنافس

تزامن “انفتاح” الإقتصاد الصّيني وإقبال الشركات الأجنبية – والأمريكية بشكل خاص – على الإستثمار في الصّين، مع انتصار الشّق الليبرالي في الحزب الشيوعي الصّيني، منتصف سبعينيات القرن العشرين، بعد وفاة ماو تسي تونغ، لكن جذور الرأسمالية تعود إلى ما قبل وفاة ماو تسي تونغ، واستغل الشّق المُنتصر – الذي أمْسك بالسّلطة – أزمة اقتصادية حادّة، نهاية عقد السبعينيات من القرن العشرين، وبعض الأزمات اللاحقة الأخرى، خلال العقدَيْن الأخيرَيْن من القرن العشرين، لتوقيع اتفاقيات جعلت من الصين، خلال عقد التسعينيات، منصة للتصدير، وإقرار قوانين حماية الإستثمار والسّماح بتأسيس شركات ذات رأس مال أجنبي، وإعادة الأرباح إلى الخارج، ولإدماج الصين تدريجيا في شبكات الرأسمالية العالمية بهدف مَحْو أي أثَرٍ للتجربة الإشتراكية، وكان اندماج الصّين في الإقتصاد الرأسمالي المُعَوْلَم، حتى نهاية القرن العشرين، يتم عبر الشراكة غير المتكافئة بين الصين والولايات المتحدة، وتَخَلّلت هذه العملية عدّة هزّات اجتماعية ( 1978/1979 و1989  و 1992…) كان قوامها “المطالب الاجتماعية” لصالح حماية العمال وضد التفاوت بسبب إثراء فِئَةِ البيروقراطيين المندمجين مع رأس المال الأجنبي، لكن الصين تتميّز بمركزية القرار وسرعة التنفيذ، ولما حلّت أزمة “الرّهن العقاري” في الولايات المتحدة وتحولت سنة 2008 إلى أزمة مالية عالمية، اتخذت الصّين قرارات سريعة، ومن بينها اعتماد النّمو على السّوق الدّاخلية بدل التصدير، فرفعت رواتب العُمّال والمُوظَّفِين وأقرّت منحًا وحوافز للمواطنين لتغيير السيارات والتجهيزات المنزلية بهدف تحفيز النمو بواسطة الإستهلاك المحلي في دولة تعد حوالي 1,3 مليار نسمة آنذاك، وأدّت زيادة الرواتب إلى انسحاب الشركات التي تستغل عددًا كبيرًا من العاملات والعاملين برواتب منخفضة، وانتقلت إلى فيتنام أو بنغلادش أو تايلند والفلبين، فيما بقيت شركات التكنولوجيا والإتصالات والشركات التي تُشغّل فَنِّيِّين ومهندسين وعمال من ذوي الكفاءات، وتراجعت مرْكزية السلطة لتفسح المجال للحكومات المَحلّيّة لتطبيق اللامركزية لصالح الشركات متعددة الجنسيات، ومُجابهة مقاومة العمال والموظفين خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ونفّذ العُمّال  العديد من الإعتصامات والإضرابات واحتلال المصانع وبلغت الإحتجاجات حدّ اغتيال أصحاب المصانع وانتحار بعض العاملات والعاملين خلال إضرابات واحتجاجات 2008  

ما الذي يُبَرِّرُ بقاء الشركات العابرة للقارات – خصوصًا ذات المنشأ الأمريكي- في الصين بعد موجة الإضرابات 2007/2009؟

أدّى الإستثمار الصيني في التعليم والصّحّة إلى تخريج عشرات الملايين من العُمال المَاهرين، وسمح ارتفاع إنتاجية العمال الصينيين للشركات الأميركية باستعادة استثماراتها وتحقيق أرباح هامّة جراء تصنيع المنتجات الرخيصة في الصين لتلبية متطلبات المستهلكين الأميركيين والأوروبيين وكانت فترة التسعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين من أهم فترات النمو الإستثنائي لأرباح الشركات الأمريكية من الصين، بينما كان نمو اقتصاد الصين قياسيًّا.

أدّى التّطوّر المُستقل للتصنيع في الصين وتحسين الإنتاجية إلى إثارة تساؤلات السلطات الأمريكية، إلى أن أصبحت الصّين تبدو كمنافس وليس كشريك تابع ضمن النظام الرأسمالي المعولم، وبدأت المنتوجات الصناعية الصينية ذات الجودة العالية تغزو الأسواق الأمريكية – باسم حرية التجارة – ما رفع حجم العجز التجاري بين الصين والولايات المتحدة لصالح الصّين التي أظْهَرت إنها – على النقيض من أوروبا الغربية واليابان – لم تفقد استقلالها الاستراتيجي والمؤسسي بعد انضمامها إلى النظام المعولم، والذي تسعى إلى إعادة هيكلته لصالحها، من خلال العمل على تأسيس عالم رأسمالي متعدّد الأقطاب، بدل عالم رأسمالي وحيد القطب، تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، وتندرج “مبادرة الحزام والطّريق” ( طريق الحرير الجديدة )، ضمن هذا التّمشِّي ( إعادة هيكلة الإقتصاد العالمي والعلاقات الدّولية) وتتمثل المُبادرة في شبكة من البُنَى التحتية (السكك الحديدية والموانئ والطرقات وخطوط أنابيب المحروقات وشبكات الكهرباء والإتصالات …” في ما لا يقل عن ستين دولة يسكنها حوالي ثلثي سكان العالم، وتُنتج حوالي ثلث الإنتاج العالمي ونحو 70% من موارد الطاقة العالمية… وتُوَفِّرُ الصين لشُركائها في مبادرة الحزام والطّريق الإحتياجات في أن تلبي الاحتياجات في مجال البنية الأساسية والمهارات التقنية ومعظم الإحتياجات التي يرفض صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي تمويلها، وتوفر الصين بالإضافة إلى التمويل، السلع والعمالة المطلوبة لإنشاء البنية التحتية، لتُصبح هذه البُلدان أسواقًا للإنتاج الصّيني ومندمجة في تقسيم إقليمي جديد للعمل بإشراف الصّين… 

جوهر الصراع الحالي

احتدّت المنافسة وتحولت إلى حرب اقتصادية وتجارية وإعلامية – فضلا عن التّهديدات العسكرية – منذ تفوقت الصين على أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان في مجالات الألواح الشمسية والطاقات البديلة والإتصالات والبطاريات الكهربائية، وتم اختزال الحرب في مجالات “الذكاء الاصطناعي” وأشباه الموصلات، من أجل السيطرة على مجالات البحث والإبتكار والتطوير في مجالات التقنية المُتقدّمة، وأدّت الإجراءات الأمريكية (الحصار والحظر والعقوبات…) إلى انتقال الحرب إلى المجال النّقْدِي، حيث يسمح استخدام الدّولار في التجارة والتحويلات المالية الدّولية بتمويل العجز التجاري وعجز ميزانية الولايات المتحدة ليُصبح الدّولار، من خلال العقوبات، أداة للسلطة السياسية الأمريكية خارج حدودها، وتُحاول الصّين تقويض سلطة الدّولار من خلال تدويل عملتها اليوان أو الرنمينبي، وإجراء المبادلات التجارية مع العديد من الدّول – أهمها روسيا وإيران –  بعملات غير الدّولار، وخلافًا للولايات المتحدة، تقوم الصين بإنشاء البنية التحتية والمصانع في البلدان التي تفتقر إليها، والإستثمار في التعليم والصّحّة والمعرفة التكنولوجية، دون شروط سياسية…  

الحرب الإقتصادية

هي استراتيجية اقتصادية تستخدم عددًا من الإجراءات التي تهدف كَسْبَ السِّباق مع المُنافِسِين، من خلال إِضْعَاف اقتصادهم، واستخدمت الولايات المتحدة التهديد العسكري وشن الحروب العدوانية، وفرضت عقوبات تضرّرت منها ثُلُثُ دول العالم، وتخضع نحو 60% من الدول الأكثر فقرا لأحد أشكال “العقوبات” التي تفرضها الإمبريالية الأمريكية خدمةً لمصالحها، وأصبحت هذه “العُقُوبات” أداةً لمواجهة الإنحدار الأمريكي البطيء، ولصعود قُوى أخرى من خارج حُلفاء أمريكا مثل الصّين، بالتوازي مع تكثيف عَسْكَرَة السياسة الخارجية في ظل الإدارات الأمريكية الأربع الأخيرة وخصوصًا خلال رئاسة جوزيف بايدن الذي فرض أكثر من ستة آلاف عقوبة على دُوَل وأفراد وكيانات ومصارف وشركات، خلال سَنَتَيْن فقط، كما تستخدم الإمبريالية الأمريكية أجهزة الإستخبارات التي لا يقل عددها عن 18 جهازًا ووكالة يتبع نصفها وزارة الحرب، وتبلغ ميزانيتها حوالي تسعين مليار دولارا لحماية المصالح الأميركية في العالم، وفق الوثائق السّرّيّة للبنتاغون (وزارة الحرب الأمريكية) المُسَرّبة سنة 2023

استخدمت الولايات المتحدة “العُقوبات” للقضاء على منافسة الصناعات الأجنبية ( الألواح الشمسية والهواتف المحمولة والسيارات الكهربائية الصينية مثلا) ولمنع إنتاج المُنافِسِين من دخول أسواق أمريكا الشمالية وحلفائها، كما استخدمت منطق العقوبات وزيادة الرسوم الجمركية على حلفائها (ألمانيا واليابان والطائرات الأوروبية) عندما يُصبح إنتاجها منافسا للإنتاج الأمريكي في السوق الدّاخلية الأمريكية، وتستهدف هذه السياسات حاليا الصين وروسيا بشكل خاص من خلال حَظْر التّوْرِيد أو من خلال زيادة الرُّسُوم الجمركية…

تشمل الحرب الإقتصادية الصراع على الموارد والأَسْواق وحطّمت الولايات المتحدة كافة الأرقام القياسية في إطلاقها ضدّ عشرات الدّول، من خلال صناعة الأزمات الإقتصادية والسيطرة على الأسواق والحصار والحَظْر والعقوبات  والمُقاطَعَة ومنع التعامل بالدّولار والوصول إلى منظومات الدّفع والتّحويلات المالية وزيادة الرُّسُوم الجمركية، وبلغت حدّ مُصادرة الولايات المتحدة أُصُول الدّول واحتياطياتها من العُملات والذّهب…  

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

18 + خمسة =