بنغلادش – من احتجاجات مَشْرُوعة إلى “ثوْرة مُلَوّنة”؟ / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 22/8/2024 م …  

مقدّمة – ملخص الأحداث




انطلقت احتجاجات جماهيرية ضخمة في العاصمة دَكّا ومعظم مُدن بنغلادش، منتصف شهر تموز/يوليو 2024، ضد نظام الحِصَص الذي يُخصّص أكثر من ثُلُث وظائف القطاع العام إلى من يُسمون “قُدماء المُحاربين” الذين شاركوا في حرب الإنفصال عن باكستان سنة 1971، بزعامة مُجيب الرّحمان، والد الشيخة حسينة، رئيسة الوزراء الحالية، ويُشكّل “قُدماء المُحاربين” وأُسَرهم وأقاربهم سَنَدًا انتخابيا وسياسيا للحزب الحاكم (حزب “عوامي” الذي أسَّسَهُ مجيب الرحمان وتقوده حاليا ابنته رئيسة الوزراء) وتبلغ حصة الوظائف المُخصّصة للعديد من الفئات نحو 56% ويريد الطلبة والمُتظاهرون المُحتجّون أن يكون التّوظيف وفق معايير الجدارة والمُؤهّلات والخبرة، وكانت الحكومة قد أقَرّت حظْر التّجول منذ 19 تموز/يوليو 2024، ولما أصْدَرت المحكمة العليا أمرا إلى الحكومة يوم الأحد 28/07/2024، بتخفيض حصة وظائف الحكومة والمخصصة لفئات ديموغرافية معينة إلى 7% وخفضت المحكمة العليا حصة المحاربين القدامى إلى 5% ، مع تخصيص 93% من الوظائف على أساس الكفاءة، فيما سيتم تخصيص نسبة 2% المتبقية لأفراد الأقليات العرقية والنساء والمعاقين، وفق وكالة “أسوشيتد برس” (28/07/2024) وصحيفة “دكا تريبيون” (باللغة الإنغليزية)، أعلن منظمو الاحتجاجات إنهاء المظاهرات (تحت الضّغوط وفق بعض قادة الإحتجاجات)، بعد ارتفاع عدد القتلى إلى 204 أو 214، وعدد المُعتَقَلِين إلى 5500 متظاهر، وفق مختلف المصادر المحلية ووكالات الأنباء العالمية (حتى يوم الجمعة 26 تموز/يوليو 2024، فيما “اعترفت” الحكومة ب147 قتيلاً فقط)، غير إن الحكومة تركت للمسؤولين المحليين حرية إعلان تمديد أو إنهاء حظر التجوال، ويُطالب المتظاهرون بمحاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين وباعتذار رئيسة الوزراء البنغالية الشيخة حسينة واجد من المتظاهرين، وإجراء تحقيق شامل حول الأحداث، وإعادة فتح المؤسسات التعليمية...

طالب المتظاهرون بحل البرلمان واستقالة رئيسة الوزراء، وهدّدوا بتصعيد وتيرة الإحتجاجات، فضغطت مختلف القوى التي كانت تدعم الشيخة حسينة (خصوصًا الجيش والشرطة) لكي تستقيل الحكومة ورئيستها التي ورثت الحكم عن والدها مجيب الرحمان مؤسس حزب عوامي وأول رئيس حكومة في بنغلادش من 1971 إلى تاريخ اغتياله سنة 1975، فاستقالت بعد 15 سنة من السلطة المستمرة، واضطرت إلى الفرار من البلاد نحو الهند، يوم الإثنين الخامس من آب/أغسطس 2024، واضطر الرئيس (منصف دستوري شَرَفِي) محمد شهاب الدّين إلى حل البرلمان يوم الثلاثاء 06 آب/أغسطس 2024، بعد وفاة ما لا يقل عن ثلاثمائة متظاهر وإصابة الآلاف واعتقال المئات، كما تم الإفراج عن زعيمة حزب بنغلاديش الوطني المعارض (خالدة ضياء) رئيسة الوزراء السابقة التي كانت تحت الإقامة الجبرية وهي بدورها ورثت السلطة عن زوجها ضياء الرحمن الذي اغتيل سنة 1981، وطالب قادة الإحتجاجات بتشكيل حكومة مؤقتة وإجراء انتخابات جديدة وأعلن قادة الحركة الإحتجاجية رَفْضَ أي حكومة يقودها الجيش أو يدعمها، واقترحوا حكومة يرأسها  الحائز على جائزة نوبل للسلام محمد يونس، صديق باراك أوباما والعديد من حُكّام الدّول الإمبريالية، مُؤسّس مصرف “غرامين” الذي يقرض أفقر الناس في الأرياف مبالغ لا تتجاوز مائة دولارا، بفائدة مرتفعة جدًّا وبشروط قاسية ومراقبة مستمرة، يتم تسديد نفقاتها من فوائد القُروض.

للتذكير: يُقدّر عدد المُعَطّلِين عن العمل من الشّبّان والشّابّات المُعَطّلين ب32 مليون من إجمالي 170 مليون نسمة، وبلغت نسبة التضخم 10% في حين أدّت أزمة صناعة وتصدير الملابس إلى انخفاض حجم العملات الأجنبية

كتبت وكالة رويترز يوم 16 آب/أغسطس 2024 : رَفَضَ قادة الطلبة المتظاهرين في العاصمة دكّا الإنتخابات التشريعية السابقة لأوانها – خلال فصل الخريف – التي دعا لها الحزبان الرئيسيان اللذان تداولا على الحكم منذ انفصال بنغلادش عن باكستان سنة 1971- حزب رابطة عوامي بزعامة الشيخة حسينة و حزب بنغلاديش الوطني بزعامة منافستها خالدة ضياء – لأن هؤلاء القادة المُمَوَّلِين والمَدْعُومين من الوقف (الصندوق) القومي للديمقراطية ( NED ) الأمريكي يريدون تأسيس حزب خاص بهم، وهم ليسو جاهزين بَعْدُ، ويريدون استمرار إدارة شؤون البلاد من قِبَل الحكومة المؤقتة برئاسة محمد يونس ومشاركة إثنَيْن من زعماء الطّلبة المُشْرِفِين على الإحتجاجات، ولا تحظى مسألة تأسيس حزب بإجماع قادة الإحتجاجات، حيث يعتبر بعضهم إن الأولوية تتمثل في “التركيز على الحفاظ على روح الانتفاضة الجماهيرية وتعزيز الحكومة بهدف الإصلاح الهيكلي للنظام السياسي الذي سوف يستغرق بعض الوقت…”، وأدّى تغيير الحكومة إلى استقالة بعض المسؤولين من بينهم رئيس القضاء ومحافظ المصرف المركزي ورئيس الشرطة الذين أشرفوا على حملة القمع ضد المُحْتَجِّين…   

تحالف الكُمْبْرادور والجيش والإسلام السياسي

ادعى الشيخ مجيب الرحمن، أحد زعماء الإنفصال عن باكستان ومؤسس حزب “رابطة عوامي”، مُباشرة بعد تأسيس بنغلادش شنة 1971، أن البلاد ستكون “دولة اشتراكية وعلمانية”، لأن الإشتراكية والعلمانية كانتا “مُوضة العَصْر” آنذاك، وتم اغتيال مُجيب الرحمان سنة 1975، من قِبَل الجيش الذي نَصَّبَ الجنرال ضياء الرحمن رئيسًا – أسّس حزبه الخاص “الحزب الوطني البنغلاديشي” سنة 1978 – تحالف خلال فترة حُكْمِهِ (من 1975 إلى 1981) مع “الجماعات الإسلامية” التي تم اتهامها بارتكاب مجازر وُصِفَت بعمليات “إبادة جماعية” خلال حرب الإنفصال عن باكستان، وعاد زعماؤها من المنفى، ثم تحالفوا مع الجنرال حسين محمد إرشاد الذي نفّذ انقلابًا سنة 1982 أطاح بالجنرال ضياء الرحمان قبل اغتياله، وأعلن الجنرال إرشاد “الإسلام دين الدّولة” وحكم مع تيارات الإسلام السياسي حتى سنة 1990…

ورثت الشيخة حسينة قيادة رابطة عوامي عن والدها وورثن خالدة ضياء الحزب الوطني عن زوجها الجنرال ضياء الرحمان، وكان الحزبان يدّعيان “الدّيمقراطية والعلمانية”، لكن الجيش، القوة الأكثر تنظيما وتسليحًا، بدأ يُغازل التيارات الإسلامية التي ازداد نفوذها بفعل الدّعم الخليجي وبفعل النّتائج العَكْسِيّة “للحرب الأمريكية على الإرهاب”، وخصوصًا كردّ فعل على محاكمة عبد القادر ملاّ، زعيم “الجماعة الإسلامية في بنغلادش” (شباط/فبراير – كانون الأول/ديسمبر 2013) بتهمة “ارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال حرب تحرير بنغلاديش” (أي حرب الإنفصال سنة 1971) إلى جانب باكستان، وقيل إنه قَتَلَ شخصيا أكثر من 344 مدنيًا، وتم الحكم بالإعدام، فزاد نفوذ مجموعات الإسلام السياسي في صفوف الجيش وقوات الأمن…

لا يُمْكن لأي قُوّة سياسية تثبيت حُكْمِها دون مُراعاة هذه القوى: حزب رابطة عوامي، والحزب الوطني والجيش ومنظمات الإسلام السياسي، في ظل ظروف الحرب الباردة الجديدة التي تقودها الإمبريالية الأمريكية ضدّ الصّين، وفي ظل تصاعد نفوذ الهند التي يحكمها حزب دكتاتوري، عُنْصُري مُتَصَهْيِن، وتعمل حكومة الهند على تجاوز اقتصاد الصين، بدعم موضوعي من الولايات المتحدة، بفعل تقاطع المصالح، لأن للهند أجندتها الخاصة، ولذلك لم تُشارك في إدانة روسيا ( بداية حرب أوكرانيا – شباط/فبراير 2022) ولكنها تُساهم في مناورات الجيش الأمريكي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. أما الصين فإنها تُواصل بناء مشروعها الخاص “مبادرة الحزام والطريق” من خلال الإستثمار في البُنْيَة التحتية في البلدان التي لها حدود مع الهند: سريلانكا وباكستان ونيبال وبنغلادش، لكن الإمبريالية الأمريكية بالمرصاد، فقد شاركت بشكل مُباشر أو غير مُباشر في الإطاحة بأربع حكومات مُنخرطة في “مبادرة الحزام والطريق” (طريق الحرير الجديدة): حكومة عمران خان في باكستان (نيسان/ابريل 2022 ) وحكومة سريلانكا (تموز/يوليو 2022) وانقلاب دستوري أطاح بحكومة نيبال التي تضم ماَوِيِّين (تموز/يوليو 2024) وجاء دور بنغلادش بعد محاولة الخروج من الأزمة الإقتصادية بالإنتماء إلى بريكس والمشاركة في مبادرة الحزام والطّريق…

الدّور الأمريكي

تُبَيّن العديد من المُؤشّرات إن تغيير النظام في بنغلاديش ليس حدثاً “منفصلاً”، كما تُبَيِّنُ ضُلُوعَ الإمبريالية الأمريكية في الإطاحة بأي حكومة تُحاول الخُرُوج عن المَسار الأمريكي والأهداف الأمريكية في مناطق استراتيجية، مثل جنوب آسيا وشبه القارة الهندية القريبة من المُنافس الصيني، خصوصًا منذ إعلان قرار الرئيس باراك أوباما وعشيرة آل كلينتون، سنة 2012، مُحاصرة الصين وعرقلة مبادلاتها التجارية مع العالم…    

جرت الإطاحة بحكومة الشيخة حسينة في بنغلادش ( وهي ليست مثالاً للتقدّمية ولا للديمقراطية)، في هذا المناخ الجيوستراتيجي الدّولي، تحت مراقبة قيادات المؤسسة العسكرية ومُمثلي التيارات النيوليبرالية من الموظفين السّامين وتكنوقراط الدّولة في مناخ النُّسْخة الجديدة من الحرب الباردة، الحرب الإقتصادية والتجارية، وفي ظل تعزيز دور الهند لتصبح قُوّةً مُوازية للصين، لكن تحت إشراف أمريكي في المنطقة: في باكستان وسريلانكا ونيبال وبنغلادش، حيث تم تنصيب محمد يونس بدعم أمريكي، بعد أن حظي بدعاية قوية منذ نهاية القرن العشرين،  لأن جائزة نوبل للسّلام تُمنح للوكلاء الواعدين، يتم اختيارهم على أساس قدرتهم على نشر قِيم النيوليبرالية، مع بعض الإستثناءات، ويأتي معظم الحائزين عليها من بلدان تعتبرها الولايات المتحدة “غير صديقة” أو “مارقة”، مثل ماريا ريسا من الفلبين، سنة 2020، التي كانت تنتقد للرئيس السابق   رودريغو دوتيرتي الذي كانت الولايات المتحدة تعتبره مُعاديا لها والصحفيس الروسي ديمتري موراتوف ( سنة 2021) بسبب مُعاداته للرئيس فلاديمير بوتين، وأليس بيالياتسكي من بيلاروسيا سنة 2022 ونرجس محمدي من إيران سنة 2023…  

تشرف المؤسسات الأمريكية المعنية بالبروباغندا ونشر “القِيَم الأمريكية” على الحياة الدّراسية (الجامعية) والمهنية لمحمد يونس منذ 1965، لما كان طالبا في سنغافورة وحصل على منحة لمتابعة دراسته الجامعية فولبرايت في الولايات المتحدة، ولما أسّس محمد يونس مصرف غرامين (كمنظمة “غير حكومية” ) سنة 1983، خلال فترة فَرْض برامج “التّكَيُّف” أو “الإصلاح الهيْكَلي”، حصل على دعم البنك العالمي وعلى دعم مالي وسياسي وضمانات من الحكومة الأمريكية بواسطة العديد من المنظمات شبه الحكومية والرّسمية مثل نيد أو الصندوق القومي للدّيمقراطية الذي أسّسه الكونغرس الأمريكي، وتمكن مصرف غرامين من تقديم قروض صغيرة (حوالي مائة دولار) بدون ضمانات، لكن بنسبة فائدة مرتفعة جدا وبضغوط قوية في أكثر من مائة ألف قرية في بنغلاديش، مما ساعد محمد يونس على إنشاء شبكة واسعة من النفوذ في البلاد، وكافأه الكونغرس الأمريكي بالإجماع، سنة 2010، لأنه تمكّن من إدماج الفُقراء في السُّوق ومن نَشْر وهْم إمكانية الثّراء أو حتى الخروج من الفقر بمثل هذه القروض التي تُدْخِل الفقراء في دوّامة لا نهاية لها، كالإقتراض لتسديد القرض السابق، تمامًا كما تفعل العديد من دول العالم، ومنحه جائزَتَيْن ( الميدالية الذهبية للكونغرس سنة 2010 و وسام الحرية الرئاسي سنة 2009) من أعلى الجوائز الأمريكية الثلاث التي تمنحها حكومة الولايات المتحدة، فضلا عن جائزة نوبل للسلام  سنة 2006، وكان على محمد يونس تسديد المُقابل الذي تَمثّل في المُشاركة النّشِطَة في حملات الصندوق (الوقْف) القومي للديمقراطية (نيد –  NED ) منذ سنة 2010، والصندوق القومي للديمقراطية هو مِنَصّة أنشأها الرئيس الأمريكي النيوليبرالي رونالد ريغان سنة 1983، يُموّلها الكونغرس “لتزويد وكالة الاستخبارات المركزية بأداة ملائمة لزعزعة استقرار الحكومات الأجنبية من خلال رعاية مشاريع المنظمات غير الحكومية التي ترفع شعار الدّيمقراطية والشفافية والحَوْكَمة… “، ويحصل الصندوق على الدعم المالي والسياسي المُلائم لطبيعة عمله، لكي يتمكّن من العمل في ظل ظروف صعبة، ومن اقتناص الفُرَص لإحداث تغيير سياسي سريع في بعض مناطق العالم، مثما حَدَثَ في جورجيا وأوكرانيا وتونس ومصر وأرمينيا وتايلند، لكن لم تنجح هذه الإستراتيجية في مناطق أخرى، ويمكن تلخيص المُهمّة الرئيسية للوَقْف القومي للديمقراطية (نيد) في تهيئة الظّروف الموضوعية  لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لزعزعة استقرار البُلدان وتغيير حكوماتها، دون الظّهُور عَلَنًا، بل تختَبِئُ وراء ما يُسمّى “المجتمع المدني” والمؤسسات المَحَلِّيّة في تلك البُلدان، والتي تحصل على أموال وعلى دعم سياسي وإعلامي، مثل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية ومنظمات أرباب العمل والمنظمات “غير الحكومية” التي يدعو إلى احترام حقوق الإنسان واستقلالية الإعلام والقضاء وإلى سيادة القانون والمُؤسسات، وتستقطب هذه المنظمات العديد من فئات الإعلاميين والطّلاّب والنساء والشباب الذين ضاقوا ذَرْعًا بالقمع والإضطهاد والإعتقال وبالرقابة المُستمرة وما إلى ذلك من انتهاكات للحقوق الفردية والجَمْعِيّة…

استغلال الغضب المَشْرُوع

اكتسب محمد يونس ثقة المُؤسّسات الأمريكية وحصل على الدّعم لمُؤَسَّسَتِهِ “غير الحكومية” و “غير الرِّبْحِيّة”، وخلق الإعلام السّائد هالةً حول هذه المنظمة ( مصرف غرامين) مما أثار حفيظة حكومة بنغلادش التي أجْبَرَتْهُ على الإستقالة سنة 2011، متعللة بمخالفات عديدة في عمل المصرف وفي إحدى شركاته الخاصّة في قطاع الإتصالات، وأعادته الإمبريالية الأمريكية إلى صدارة الأحداث، رغم سنّه ( 84 سنة) بتِعِلّة تعيينه من قِبَل أحد قادة الإحتجاجات الطّلاّبية، ليتسنى بذلك للإمبريالية الأمريكية استبداله في الوقت المناسب، بعد التّشاور مع مختلف الأطراف (رابطة عوامي الحزب الوطني البنغالي ومنظمات الإسلام السياسي والجيش) ولم يُشِرْ وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن إلى ضرورة إجراء انتخابات مبكرة في البلاد، لكنه حَدّد هامش الحكومة ببضعة جُمل تُعتَبَرُ رسائل “مُشَفَّرَة” مثل: “إننا حريصون على سلامة وأمن المواطنين الأميركيين وموظفي سفارتنا ومؤسساتنا، ونراقب الوضع باستمرار…”، وأشارت بعض وسائل الإعلام الأمريكية والهندية إلى مشروع أمريكي يُمَكِّنُ فِئَةً من الكُمْبْرَادُور من السلطة من خلال “انتخابات ديمقراطية” في حين يتولى الجيش اتخاذ القرارات من وراء الكواليس بدعم من التحالف الأميركي البريطاني الباكستاني المشترك، الذي هندس الإطاحة بالشيخة حسينة التي صرّحت في مقابلة مع صحيفة إيكونوميك تايمز الهندية وفي حديث لوكالة الأنباء الأندونيسية إن الحكومة الأمريكية لم تغفر لها رفض إقامة قاعدة عسكرية أمريكية في جزيرة سانت مارتن، وأشارت إلى دَوْر وزارة الخارجية الأمريكية في الإلتفاف على احتجاجات الطُّلاّب وتحويلها إلى “ثورة مُلَوّنة”، من خلال نشاط وتنقلات “دونالد لو” (دبلوماسي أمريكي من أصل صيني)، مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون جنوب ووسط آسيا الذي زار دكا ( منتصف أيار/مايو 2024)، وهو ضالع في العديد من العمليات المشبوهة في بيشاور (من 1992 إلى 1994)؛ وفي دلهي (1996-1997) كمساعد للسّفير من 1996 إلى 1997 ثم كنائب رئيس البعثة في دلهي من 1997 إلى 2000

نشرت وزارة الخارجية الرّوسية في وثيقة علنية قبل انتخابات السابع من كانون الثاني/يناير 2024 في بنغلادش: “أن الدبلوماسية الأميركية كانت تخطط لسلسلة من الأحداث لزعزعة استقرار الوضع في بنغلادش، إذا كانت نتيجة الإنتخابات غير مُطابقة لتوقعاتها” وسبق أن نبهت وزارةُ الخارجيةِ الروسيةِ حكومةَ بنغلادش (خلال تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر 2023) إلى النشاط التحريضي للبعثات الدبلوماسية الغربية في دكا، وعلى وجه الخصوص، السفير الأمريكي بي هاس، ومساعد وزير الخارجية الأمريكي “دونالد لو” الذي اشتهربالتّخطيط للثورات المُلَوّنة في قيرغوستان باكستان وجورجيا وألبانيا وأذربيجان وباكستان، وأعلن بعد زيارته دكا (عاصمة بنغلادش)، قبل المُظاهرات بثمانية أسابيع، لإذاعة صوت أميركا: “إن تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في بنغلادش يظل أولوية بالنسبة لنا، وسوف نستمر في دعم العمل المهم للمجتمع المدني والصحفيين من أجل إرساء دعائم  المؤسسات الديمقراطية…”

 بذلت الإمبريالية الأمريكية جُهودًا كبيرة وخصصت أموالا وجواسيس وأجهزة مراقبة وتنصّت في منطقة جنوب وجنوب شرقي آسيا، لمحاصرة الصين وللحُؤُول دون أي تقارب بين الهند والصين، ولتخريب مشروع مجموعة بريكس ( التي تضم روسيا والصين والهند ) لإنشاء نظام رأسمالي عالمي متعدد الأقطاب، وليس من باب الصّدفة أن تنطلق الإحتجاجات (المَشْرُوعة) في بنغلادش بعد أقل من أسبوع من اجتماع الرباعية في طوكيو (أمريكا واليابان وكوريا الجنوبية والهند)،

 خاتمة

اعتبَرَ البنك العالمي والدّول الإمبريالية مُحَمّد يونس مُجَدِّدًا ومُبْتَكِرًا لأساليب جديدة داخل المنظومة الرأسمالية من خلال تطوير أدوات عمل رأس المال المالي (المَصْرِفي) بهدف إدماج الفُقراء (وخصوصًا النساء) في أسواق القروض الصغيرة وفي دَوْرَة الإنتاج، دُون أن يكونوا أُجَراء لتطوير عقلية “المُقاول المُستقِلّ” لدى الفقراء والمعطلين عن العمل، ولذلك حصل محمد يونس، مُؤسّس مصرف غرامين على جائزة “نوبل” للسلام سنة 2006 التي لم تُكْسِبْهُ حصانة، وتمت مُحاكمته بتهمة عدم احترام لوائح العمل في إحدى شرِكاته ( شركة اتصالات) وأُدِين بستة أشهر سجنًا، قبل أن يتم الإفراج عنه بكفالة ليهرب إلى باريس، وظَلَّ محمد يونس مُعارضًا للشيخة حسينة التي وصفته بمصّاص الدّماء وباستخدام القوة والضّغط لانتزاع سداد القروض من فقراء وفقيرات الريف، ما تسبّب في حدوث عدد من الإنتحارات دَرْءًا للفضائح الإجتماعية وحفاظًا على “الشّرف” (شرف احترام مواعيد تسديد حِصَص الدُّيُون التي تراكمت) وتُعَدُّ عودته إلى بنغلادش من المنفى الطّوْعي انتقامًا أو ثأْرًا من الشيخة حسينة التي تبادل معها الأدوار، حيث غادرت حسينة البلاد وعاد يونس ليحل محلها، بطلب من جمهور المنظمات “غير الحكومية” التي تُمولها نفس المنظومة التي منحت يونس جائزة نوبل، وبدعم من الجيش الذي يُمثل إحدى أهم القوى المنظمة في البلاد ( إلى جانب حزب رابطة عوامي و”الحزب الوطني البنغلادشي” الذي تقوده خالدة ضياء) والذي فرض على الشيخة حسينة الإستقالة ومغادرة البلاد على متن طائرة عسكرية إلى الهند، لتجَنُّبِ ثورة حقيقية بعد قَتْل ما لا يقل عن خمسمائة مواطن خلال الإحتجاجات التي انطلقت من أجل مطالب مَشْرُوعة، ثم استولت عليها مجموعات تدعمها الولايات المتحدة سياسيا وإعلاميا وماليا بواسطة الصندوق (أو الوَقْف) القومي للديمقراطية ( NED ) الذي ضخ “استثمارات” عبر تمويل مُنظمات “غير حكومية” في يوغسلافيا وفي أوكرانيا وجورجيا وفنزويلا وبوليفيا وغيرها لتحويل المطالب المَشْرُوعة للشّعُوب إلى “ثورات مُلَوّنة” تُغَيِّرُ شكل الحُكْم لِتُبْقِي على جَوْهر النّظام القائم على التّفاوت والإستغلال والإضطهاد، كما حَصَلَ في تونس ومصر…   

لم تكن حكومة الشيخة حسينة ولا حزبها – رابطة “عَوَامِي” التي أسّسها والدها مُجيب الرحمان – ديمقراطية ولا ثورية أو اشتراكية لتُثِير غضب الإمبريالية الأمريكية والإمبرياليات الأوروبية التي حوّلت بنغلادش إلى مصنع للنسيج الرّخيص الذي يُلَبِّي أسواق أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا واليابان، ولكن “الغرب” لم يغفر لحكومة الشيخة حسينة محاولات اندماج  بنغلادش في مبادرة الحزام والطّريق الصينية، ثم تقديم طلب الإنتماء إلى مجموعة “بريكس”، إذ اعتبرت الشركات العابرة للقارات والعلامات التجارية الكُبْرى للملابس الجاهزة إن هذه الخطوات تُهَدّد مصالحها وتُهدّد مساعي الولايات المتحدة لبناء قاعدة عسكرية ضخمة في جزيرة تابعة لبنغلادش…  

لا يُمكن لأي حكومة أن تُحقّق الإستقرار في بنغلادش إذا لم تتمكن من مراعاة موازين القوى الدّاخلية التي تتوزّع بين
حُلفاء الهند، أي قيادات الجيش والأمن وحزب ومليشيات “رابطة عوامي” الذي تقوده عائلة حسينة، و”الحزب القومي البنغلادشي” الموالي للولايات المتحدة والذي يعتبره البعض خصمًا تاريخيًّا للهند، وتنظيمات الإسلام السياسي، حليفة الإمبرياليات “الغربية” والمُعادية لمصالح الصين والهند في بنغلادش، ولِتيّارات الإسلام السياسي حُضُور قوي في الجامعات التي انطلقت منها الإحتجاجات بقيادة أبناء الفئات الوُسْطى، قبل أن يلتحق بها طلبة الجامعات الخاصة من أبناء المَيْسُورين… 

بإيجاز: انطلقت الإحتجاجات بسبب عُنْف أجهزة الدّولة المَبْنِيّة على المُحاباة والمَحْسُوبية، وبسبب ندرة الوظائف في القطاع الخاص الذي يهيمن عليه قطاع المنسوجات الذي يُمثل نحو 80% من صادرات البلاد ويُوظّف نحو أربعة ملاليين عامل تُشكل النساء نسبة 80% منهم، أما في القطاع الحكومي فإن الخصخصة والسياسات النيوليبرالية خفضت عدد الوظائف، فضلا عن تخصيص أكثر من نصف الوظائف إلى فئات يستخدمها الحزب الحاكم (رابطة عوامي) لتضخيم صفوفه وصفوف مليشياته التي تُشارك في قَمْع المُحتجِّين…   

بلغ الناتج المحلي الإجمالي لبنغلادش 102 مليار دولارا، سنة 2009، سنة عودة الشيخة حسينة إلى السّلطة، وارتفع إلى 437 مليار دولارا سنة 2023، وأصبح ثاني أكبر اقتصاد في جنوب آسيا، بعد الهند، وبلغ نصيب الفرد 2529 دولارا سنة 2023 وانخفض معدّل الفقر من 44% سنة 1991 إلى 18,7% سنة 2022، وفق البيانات الرسمية فيما بلغ معدّل البطالة 5,1% سنة 2023

تضرّر اقتصاد بنغلادش سنة 2020، بفعل توقف صناعة الملابس خلال جائحة كوفيد-19، وانخفاض الطلب على إنتاج هذا القطاع الذي يُشكّل أساس اقتصاد وصادرات البلاد، وتعزّزت صفوف المُعطّلين عن العمل بنحو مليون عاطل جديد، معظمهم من النساء، من أصل أربعة ملايين عامل بقطاع المنسوجات والملابس الجاهزة، ثم تسببت حرب أوكرانيا (شباط/فبراير 2022) في ارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية، وخفضت الحكومة دعم الوقود بنحو 50% وأدّت هذه العوامل إلى ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء والغذاء والنقل والبقالة والمواد الغذائية الأساسية، في حين انخفضت إيرادات الدّولة والتحويلات المالية للعاملين بالخارج، لينخفض احتياطي البلاد من العملات الأجنبية وليزداد عجز الميزانية العامة والميزان التجاري، ولجأت الحكومة إلى اقتراض 4,5 مليارات دولارا من صندوق النقد الدّولي، لتسديد الفواتير، بشروط صندوق النقد التي زادت الطِّينَ بَلَّةً… 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

سبعة عشر − إحدى عشر =