دراسات في مناهج النقد الأدبي – المنهج النقدي الثقافي / د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 22/8/2024 م …




مفهوم الثقافة لغة:

     جاء في “لسان العرب”: ثُقف الرجل ثقافةً أي صار حاذقاً, وثقف الشيء قومه وأزال اعوجاجه –  ورجل ثَقِفٌ أي فطنٌ.

فالتثقيف يعني التقويم، والتهذيب، والتنقيح.

الثقافة اصطلاحاً:

     بالرغم من تعدد المفاهيم التي تناولت الثقافة ودلالاتها، حتى كادت أن تتجاوز المئة تعريفاً، بل تجاوزتها، يمكننا أن نعرفها  في سياقها العام بأنها: مجموع ما قام الإنسان بإنتاجه في الاتجاهين الماديّ والروحيّ عبر علاقته التاريخيّة مع الطبيعة والمجتمع، مضافاً إليها كل ما اكتسبه هذا الإنسان من مهارات وخبرات عضليّة بفعل نشاطه الفرديّ، أو ما تجذر عنده من قابليات واستعدادات فطريّة انطبعت في جيناته بفعل نشاطه التاريخيّ..(1).

أهميّة النقد الثقافي :

     يعد النقد الثقافي من أهم الظواهر الأدبيّة التي رافقت (ما بعد الحداثة) في مجال الأدب والنقد، وقد جاء بمثابة رد فعل على البنيويّة اللسانيّة، والسيميائيات، والنظريّة الجماليّة التي تعتني بالأدب باعتباره ظاهرة لسانيّة شكليّة من جهة، أو ظاهرة فنيّة وجماليّة (شعريّة) من جهة أخرى. هذا وقد استهدف “النقد الثقافي” تقويض البلاغة والنقد الأدبي معاً, بغية بناء بديل منهجي جديد، يتمثل في (المنهج الثقافي) الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافيّة المضمرة، ودراستها في سياقها الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والتاريخي، والمؤسساتي, إما فهماً أو تفسيراً.

     ويرى المفكر المصري “صلاح قنصوه” (1936-2019): (أن النقد الثقافي ليس منهجاً بين المناهج الأخرى, أو مذهباً أو نظريّةً, كما أنه ليس فرعاً أو مجالاً متخصصاً بين فروع المعرفة ومجالاتها, بل هو ممارسة أو فاعليّة تشتغل على دراسة كل ما تفرزه الثقافة من نصوص سواء  أكانت ماديّة أو فكريّة. ويعني النص هنا هو ما تحققه أو تولده كل ممارسة قولاً أو فعلاً أو معنى أو دلالة.).(2). ويمكن القول أيضاً: (إن النقد الثقافي هو نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعاً لبحثه وتفكيره، ويعبر عن مواقف إزاء تطوراتها وسماتها.). (3)

        بينما يرى نقاد آخرون أن النقد الثقافي هو (منهج) سبقنا إليه الغرب (أمريكا وفرنسا), له أدواته للكشف عن المضمر النسقي في العمل الأدبي. (4). و”النسق الثقافي” كما حدد دلالاته وسماته عبر وظيفته التي يؤديها في النص الناقد السعودي “عبد الله الغذامي” , بأنه وظيفة تتحقق ( حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر, ويكون المضمر ناقضاً وناسخاً للظاهر. ويكون ذلك في نصّ واحد, أو في ما هو في حكم النصّ الواحد. ويشترط في النصّ أن يكون جماليّاً,  وأن يكون جماهيريّاً.). (5).

     على العموم ليس المهم عندنا أن يكون النقد الثقافي, منهجاً أو نظريّة أو نشاطاً نقديّاً, بقدر ما يهمنا بأنه فرع من فروع النقد النصوصي العام. وهو أيضاً أحد علوم اللغة، المعني بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه. وهو نقد غير مؤسساتي وغير رسمي. إذاً هو معنيّاً ليس بكشف مضمرات النص الأدبي ومرجعياته التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية .. الخ فحسب، وإنما هَمُه الكشف أيضاً عن الأقنعة المخبوء جماليّاً وبلاغيّاً.(6). إضافة لذلك فهو ظاهرة من الظواهر التي تزامنت مع نقد ما بعد الحداثة في الأدب والنقد, وقد راح يستعين بجميع المناهج ليتمكن من كشف وتعرية الأنساق الثقافيّة المضمرة الموجودة في الخطابات الثقافيّة كما بينا أعلاه . 

تاريخ ظهور النقد الثقافي:

     لقد ظهر النقد الثقافي نتيجة لتوسع الثقافة في النصف الثاني من القرن العشرين، فالثقافة في عمليّة توسعها استطاعت أن تمنح الفرد القدرة على الإبداع والابتكار والخلق، وبالتالي منحت  في حالة توسعها الناقد الثقافي تلك القدرة على كشف العيوب النسقيّة الموجودة في الثقافة ذاتها، دون تفريق بطبيعة الحال بين ثقافة النخبة المختارة, والأخرى الجماهيريّة، ولا بين الآداب الرفيعة والآداب الشعبيّة. (7).

     بيد أن الظهور الفعلي والحقيقي للنقد الثقافي لم يتحقق إلا في ثمانينيات القرن العشرين المنصرم والتحديد في عام (1985) في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استفاد هذا النقد من البنيويّة اللسانيّة، والانثروبولوجيا، والتفكيكيّة، والحركة النِسويّة، ونقد الجنوسة، وأطاريح ما بعد مرحلة الاستعمار. أي نقد ما بعد الحداثة عموماً، ويعتبر الناقد الأمريكي “فنسنت .ب. ليتش” أول من تبلور على يده مصطلح النقد الثقافي منهجياً في  كتابه: ”النقد الثقافي – النظريّة الأدبيّة ما بعد البنيويّة”  الذي صدر في عام (1992), ونقله إلى العربيّة “هشام زغلول” الصادر عن المركز القومي للترجمة في مصر. فـ”ليتش” في طرحه هنا ينتمي إلى نقد (ما بعد الحداثة)، فهو يقوم بتشريح النص تفتيتاً وتفكيكاً، بغية استجلاء الأنظمة غير العقليّة, ولأنساق الثقافيّة الأيديولوجيّة, ضمن رؤية انتقاديّة وظيفيّة. وبتعبير آخر، يتعامل “ليتش” مع النص أو الخطاب، بالتركيز على الأنظمة العقليّة واللاعقليّة، وتفكيكها اختلافاً وتقويضاً وتضاداً على غرار التصور التفكيكي عند “جاك دريدا”. ويعمل أيضاً على نقد المؤسسات الأدبيّة التي توجه أذواق القراء بالطريقة التي ترتضيها هذه المؤسسات لما لها من تأثير سلبي على طريقة التلقي والاستجابة لدى القراء.(8). وهذا يدل على أن المنهج الثقافي قد تأثر بمنهجيّة “جاك دريدا” التفكيكيّة القائمة على التقويض، والتشتيت، والتشريح، ولكن ليس من أجل إبراز (التضاد والمتناقض، وتبيان المختلف إضاءة، وهدماً)، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافيّة عبر النصوص والخطابات، سواءً أكانت تلك الأنساق الثقافيّة مهيمنة أو مهمشة، وموضعتها في سياقها المرجعي الخارجي، وتبيان مدى تأثر هذه الأنساق بالدراسات الثقافيّة المتنوعة، كالماركسيّة الجديدة، والتاريخانيّة الجديدة، والماديّة الثقافيّة، والنقد الاستعماري (الكولونيالي)، والنقد النِسوي الذي يدافع ثقافيّاً عن كينونة التأنيث في مواجهة سلطة التذكير.  (9).

مبادئ المنهج النقدي الثقافي:

     1- يعتبر النقد الثقافي صورة جديدة من العودة إلى ربط النص بمحيطه الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتاريخي. وعليه، فالنقد الثقافي يقوم بدراسة الأدب الفني والجمالي باعتباره ظاهرة ثقافيّة مضمرة. أو بتعبير آخر، هو الذي يربط الأدب بسياقه الثقافي غير المعلن. ومن ثم، لا يتعامل النقد الثقافي مع النصوص والخطابات الجماليّة والفنيّة على أنها رموز جماليّة ومجازات شكليّة موحية، بل على أساس أنها أنساق ثقافيّة مضمرة ومتوارية بامتياز، تعكس مجموعة من السياقات الثقافيّة التاريخيّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والأخلاقيّة، والقيم الحضاريّة والإنسانيّة. ومن هنا، يتعامل النقد الثقافي مع الأدب الجمالي ليس باعتباره نصاً، بل بمثابته نسقاً ثقافيّاً يؤدي وظيفة نسقيّة ثقافيّة تضمر أكثر مما تعلن.(10).

     2- وما يميز المنهج النقدي الثقافي أنه ليس مدرسة محددة المعالم، وإنما هو قابل للتبدل بتبديل شخصيّة الناقد وثقافته وتوجهاته وطبيعة النص وقضاياه. أي إن النقد الثقافي مفتوح على التفسير والتأويل وعلى مناهج السيمائيات وتحليل الخطاب ومختلف العلوم الإنسانيّة المحيطة بالأدب، بل إنه مرتبط بحركات فكريّة وثوريّة كالحركة النِسويّة، وحركة ” الزنوجة ” وصراع الحضارات والثقافات وغير ذلك, مما يقع في باب الخطاب المضمر في النص، والنسق المضمر المحرك له .(11).

     3- هو يميز بين النقد الثقافي والنقد الأدبي، إذ يرى أن النقد الأدبي بقي على تقليديته في نقد النصوص الأدبيّة والفنيّة وتفسيرها وتأويلها, ثم إصدار الحكم النقدي المتعارف عليه ضمن مصطلحاته المعروفة, بيد أن النقد الثقافي لا يحل محل النقد الأدبي أو يلغيه, فالعلاقة بينهما علاقة تكامل لا علاقة تنافس أو الغاء لأن النقد الثقافي ينفتح ويستعين بكل المناهج ومنها النقد الأدبي (12).

     4- كما يسعى النقد الثقافي إلى إلغاء الطبقيّة الثقافيّة لكونه يركز على أنواع الخطابات عامة، ويدعو إلى المساواة بين الأثرياء والفقراء، ويمقت التمايز الطبقي والعنصري، ويعري الظلم الذي يسلط على المهمشين من خلال تركيزه على ضرب المركز ليتساوى المهمش معه، ويعري ثقافة المؤسسة لتتساوى معها الثقافة الشعبية المهمشة.(13).

     5- والنقد الثقافي لا يهمش الآخر سواء كان ذكراً أم انثى، ولا يفرق بين فقير أو غني، ويعلي من شأن الحريّة والمساواة والديمقراطيّة. وقد ساعده تبنيه للحريّة والديمقراطيّة على كشف الأنساق الظاهرة والمضمرة المختلفة التي أنتجت أو تحكمت بالنص سياسيّة كانت، أو اقتصادية، أو دينيّة أو اجتماعيّة، أو قومية أو عرقيّة أو أخلاقيّة من جهة. إضافة إلى أن هذه الأنساق بإمكانها التعبير عن ذواتها بحريّة من جهة ثانيّة, فضلاً على أنه بنقده الأنساق المضمرة والظاهرة في كل الخطابات وبكل أنواعها وصيغها, أخذ يمثل في سياقه العام نقداً إنسانيّاً يخدم الانسان دون النظر إلى مرجعيته الأيديولوجيّة أو القوميّة أو العرقيّة أو الدينيّة أو الطبقيّة .(14).  

     6- وبناءً على هذا الموقف الإنساني الذي بينا توجهاته أعلاه, فالنقد الثقافي يسعى في أهدافه إلى زحزحة المركزيّة الذكوريّة التي تقصي المرأة, ويعري ذكوريّة المجتمع التي أوجبت هذا التمايز بينهما. وبالتالي الدعوة أو العمل على مساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات.

     7- كما التزم النقد الثقافي بقضايا الشعوب ومشكلاتها المجتمعيّة، وبآمالها وطموحتها، وعلى هذا الالتزام راح يعري فهم المؤسسات الرسميّة التي تتبنى النص الجمالي كنص بعيداً عن محيطه أو مرجعياته التي أشرنا إليها سابقاً, سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة وغيرها, فهو ينفتح إلى ما هو أبعد من اهتمامات هذه المؤسسات وإلى ما هو أبعد من الجمالي, مركزاً على أنظمة الخطابات المتنوعة, يحفر في داخلها من أجل معرفة معانيها الغامضة.(15).أي إن النقد الثقافي هو تحليل التصورات الثقافيّة للعالم، كما أنه يدخل في نقد أعم هو النقد الحضاري. وفي اللغات الأجنبية يستعمل لفظ Cultural للنقدين معاً. فالنقد الحضاري هو النقد الثقافي من منظور أعم, كون الثقافة وعي تاريخي، وتراكم من الماضي إلى الحاضر. وهي – أي الثقافة – رؤية للعالم تعبر عن ثقافات الشعوب وخصائصها. وعلى هذا الأساس يشتمل النقد الثقافي أربع حلقات متداخلة من الأصغر إلى الأكبر، من (النقد الأدبي, إلى النقد الثقافي, إلى النقد الاجتماعي, إلى النقد الحضاري.), وتتشارك هذه الحلقات في مركز واحد هو النص, وتنتهي إلى دائرة واحدة هي الواقع. ويمكننا أن نعطي مثالاً على هذه التوجهات أو الحلقات الأربعة التي يمثلها النقد الأدبي، على سبيل المثال لا الحصر: ” النقد الأدبي عند عبد القاهر الجرجاني، والنقد الثقافي عند ابن رشد، والنقد الاجتماعي عند ابن خلدون، والنقد الحضاري عند إدوارد سعيد ” (16).

سمات وخصائص النقد الثقافي:

وهي برأيي سمات وخصائص لا تخرج في الحقيقة عن جوهر أو مضمون المبادئ التي أشرنا إليها أعلاه:

     1- ” إبعاد الانتقائيّة المتعاليّة التي تفصل بين النخبوي والإنتاج الشعبي، فيقوم النقد الثقافي بدراسة ما هو جمالي وغير جمالي.

     2- كشف جماليات أخرى في النص لم يُلتفت إليها من قبل.

     3- الدخول في عمق النص بدلاً من النظرة السطحيّة.

     4- كشف القيم النبيلة والحقيقيّة للنص.

     5- تذوق النص بوصفه قيمة ثقافيّة، لا مجرد قيمة جماليّة فحسب، وذلك من خلال الكشف عن حقائق تحيط بالنص وقائله.

     6- ربط العلوم الإنسانيّة بالأدب (علم الاجتماع، علم النفس، التاريخ…) مما يساهم في إثراء النص والساحة الثقافيّة.

     7- ربط النقد الثقافي بالعمل السياسي، فهو يربط عمل المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف، ويدرس العلاقة المترتبة على ذلك.

     8- كشف حقائق متعلقة بالنصوص المهمشة من خلال إلقاء الضوء عليها، حيث يهتم هذا النوع من النقد بنصوص المعارضة، والأدب الشعبي، والأدب النسوي، ونحو ذلك.

     9- يتناول النقد الثقافي النسق المضمر في الثقافات المحليّة، للارتقاء بها وتسويقها إلى العالميّة “.

     10- هو يميز بين “النقد الثقافي” و”نقد الثقافة”, أو “الدراسات الثقافيّة”. فالنقد الثقافي هو الذي يتعامل مع النصوص والخطابات الأدبيّة والجماليّة والفنيّة، فيحاول استكشاف أنساقها الثقافيّة المضمرة غير الواعية، وينتمي هذا النقد الثقافي إلى ما يسمى بنظرية الأدب على سبيل التدقيق. في حين، تنتمي الدراسات الثقافيّة أو نقد الثقافة إلى الانثروبولوجيا، والاثنولوجيا، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والإعلام، وغيرها من الحقول المعرفية الأخرى. وهذا يعني – بمعنى أدق – أن الدراسات الثقافيّة تركز على مختلف الخطابات الثقافيّة التي تنتجها المجموعات البشريّة المختلفة والمتنوعة، وعلى مستوى المثاقفة بين تلك الثقافات، وعلى أنواع من الثقافات الخاصة والعامة والهامشية، وبالخصوص الهيمنة الثقافيّة التي راحت تفرض نفسها عبر ما يسمى النظام العالمي الجديد والعولمة. (17).

     وفي هذا السياق، يقول “عبد الله الغذامي ”( ونميز هنا بين ” نقد الثقافة ” و” النقد الثقافي “، حيث تكثر المشاريع البحثيّة في ثقافتنا العربيّة، من تلك التي عرضت وتعرض قضايا الفكر والمجتمع والسياسة والثقافة بعامة، وهي مشاريع لها إسهاماتها المهمة والقويّة، وهذا كله يأتي تحت مسمى ” نقد الثقافة “، كما لابد من التمييز بين الدراسات الثقافيّة من جهة والنقد الثقافي من جهة ثانية، وهذا تمييز ضروري التبس على كثير من الناس حيث خلطوا بين ” نقد الثقافة ” وكتابات ” الدراسات الثقافية “، وما نحن بصدده من ” نقد ثقافي “، ونحن نسعى في مشروعنا إلى تخصيص مصطلح ” النقد الثقافي ” ليكون مصطلحاً قائماً على منهجيّة أدواتيّة وإجرائيّة تخصه، أولاً، ثم هي تأخذ على عاتقها أسئلة تتعلق بآليات استقبال النص الجمالي، من حيث إنه المضمر النسقي لا يتبدى على سطح اللغة، ولكنه نسق مضمر تمكن مع الزمن من الاختباء، وتمكن من اصطناع الحيل في التخفي، حتى ليخفى على كتاب النصوص من كبار المبدعين والتجديديين، وسيبدو الحداثي رجعيّاً، بسبب سلطة النسق المضمر عليه.). (18).

أهداف النقد الثقافي:

     وهكذا نجد أن النقد الثقافي في سياقه العام يعني التوسع في مجالات الاهتمام والتحليل للأنساق، حتى غدا جزءاً من كل الدراسات الثقافيّة، بما تعنيه الثقافة التي توجز أيضاً بأنها ” دائرة نشاط الإنسان المتحققة على الأرض فعلاً نشطاً، والراسخة, فيمن يدب فوقها من البشر أثراً باقياً “. وعلى هذا الأساس، يمكن لنا أن ندخل النقد الأدبي مع النقد الثقافي، الذي بدوره يضم كماً من المعارف الإنسانيّة والفلسفيّة، والأدبيّة. ومن هنا، فلا خوف على الأدب من هجر الخصوصيّة التي يمثلها في طريقة التعامل معه، وبذلك تتم دراسة النص بكونه أدباً، وبكونه خطاباً ثقافيّاً (19).

الناقد السعودي عبد الله الغذامي:

     “عبد الله بن محمد بن عبد الله الغذامي”, من مواليد عام (1946) في عنيزة. أكاديمي وناقد أدبي وثقافي سعودي، وأستاذ النقد والنظريّة في كلية الآداب، قسم اللغة العربيّة، بجامعة الملك سعود بالرياض. ومنح جائزةالشيخ زايد” للكتاب عام (2022)م  تقديراً لجهوده المتميزة في ميدان النقد الثقافي, ودراسات المرأة والشعر والفكر النقدي التي بدأت منذ منتصف الثمانينات وأحدثت نقلة نوعيّة في الخطاب النقدي العربي.

أبرز أعماله:

     تميزت أعمال “الغذامي” بالتنوع، فهو صاحب مشروع في النقد الثقافي, وآخر حول المرأة, وحول اللغة، وكان أول كتبه دراسة عن خصائص شعر “حمزة شحاتة” الألسنيّة، تحت اسم (الخطيئة والتكفير: من البنيويّة إلى التشريحيّة)..(20).

     لديه كتاب أثار جدلاً يؤرخ للحداثة الثقافيّة في السعودية تحت اسم (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعوديّة).

     ويعتبر الناقد السعودي “عبد الله الغذامي” أول باحث عربي تبنى (النقد الثقافي) بمفهومه العربي في كتابه “النقد الثقافي- قراءة في الأنساق العربيّة الثقافيّة” الصادر عام (2000)0. لقد كان “الغذامي” جريئاً في تحطيم ما يعتري الثقافة العربيّة من أنساق مضمرة, وهتك أسرارها بما لم يفكر فيها أحد من قبل, كما فعل في نقده للمتنبي ونزار قباني على سبيل المثال لا الحصر, فأبرز الأنا عند الأول ودونية المرأة عند الثاني، وهو أول باحث عربي تسجل له الريادة, فمشروعه مشروع حيوي مهد الطريق أمام الباحثين العرب لتعرية الأنساق الهدامة الموجودة في الخطابات السابقة للنقد الأدبي.(21). معلناً موتها.

نقد مشروع الغذامي:

    لقد كانت هناك محاولات عديدة سلطت الضوء على نقد مشروع النقد الثقافي للغذامي, وكان من أهم ما وجه له من نقد هو محاولته غير المعلنة بشكل مباشر, وهي رغبته في نظريّة جديدة دقيقة ومنهجيّة يسميها (النقد الثقافي), والتي يؤسس أغلب عناصرها ردا على النقد الأدبي. محاولاً تأسيس جل عناصر نظريته من خلال عناصر معروفة في النقد الأدبي: كالمجاز، والتورية… معتبرا أن النقد الثقافي أعم من النقد الأدبي، لذلك فالمؤلف عنده مؤلفان معهود ومضمر (هو الثقافة). وبالتالي يظل السؤال الجدير بالاهتمام هنا هو: لماذا ينبغي تجاوز النقد الأدبي إلى النقد الثقافي؟.

     إن النقد الثقافي لا يمكن أن يكون بديلا للنقد الأدبي، وهو ما يحيل عليه الغذامي نفسه ولو بشكل عرضي, لأن النقد الذي يوجهه للنقد الأدبي ليس نقدا فارغا بل هو محمول بنوع من الازدراء وهذا ما جعل المهتمين بالنقد الادبي يصبون جام غضبهم على الغذامي بعد قوله: (إننا نقول بمفهوم المجاز الكلي متصاحباً مع الوظيفة النسقيّة للغة، والاثنان معاً مفهومان أساسيان في مشروعنا في النقد الثقافي كبديل نظري وإجرائي عن النقد الأدبي).(22). كما يذكر مؤكداً على رغبته هذه التي جاءت في مقدمة كتابة (النقد الثقافي), وعاد ليكرر هذا القول ذاته ولكن بصيغة أخرى في ندوة عن الشعر عقدت في تونس  تاريخ 22 ستنبر (1997). وفي مقالة له كذلك في جريدة الحياة (أكتوبر 1998): (وبما أن النقد الأدبي غير مؤهل لكشف الخلل الثقافي فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي، وإحلال النقد الثقافي مكانه.).(23). وهنا نلاحظ الرغبة الخفيّة في مشروع الغذامي والمتمثلة في العمل على استبدال النقد الأدبي بالنقد الثقافي، كونه يراه أو يتصوره بديلاً. وهذا برأي ما يجعل المشتغل على مشروعه في النقد الثقافي يفقد القدرة على تحديد ملامحه بين كونه باحثاً أو ناقداً.

كاتب وباحث من سوريّة.

[email protected]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- (موقع صحيفة المثقف – د. عدنان عويّد – الثقافة والتثاقف.. الثقافة الْعَالِمَة أنموذجا.).

2(صلاح قنصوه: تمارين في النقد الثقافي، دار ميريت، القاهرة ، ط1، 2002، ص5.).

3- 4- ( ميجان الرويلي، سعد البازعي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2002، ص.305).

4- ).( موقع  قناص – مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل | د. حسام الدين فياض).

5- (جامعة البصرة – مركز دراسات البصرة والخليج العربي أخبار ابن قتيبة – دراسة في النسق الثقافي -م.د خالد صكبان حسن).

6- (عبد الله الغذامي: النقد الثقافي – قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2005، ص.83-84.). بتصرف.

7- ( قناص – مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل | د. حسام الدين فياض). بتصرف.

8- ( جميل حمداوي: النقد الثقافي بين المطرقة والسندان، دار الريف للطبع والنشر الإلكتروني، المغرب (تطوان)، ط1، 2015، ص13). بتصرف.

9- (المرجع نفسه – ص.5). بتصرف.

10- (مركز نقد وتنوير – مفهوم النقد الثقافي في مشروع المفكر العراقي ماجد الغرباوي.). بتصرف.

11- ( موقع نقد وتنوير – مفهوم النقد الثقافي في مشروع المفكر العراقي ماجد الغرباوي). بتصرف

12- (حمزة عبيس الجنابي: رؤية في النقد الثقافي، قسم الإعلام، جامعة المستقبل، العراق (بابل)، 05/03/ 2005. – عن مجلة قناص – مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل). بتصرف.

13- ( مجلة قناص – مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل).) بتصرف.

14- (جامعة د. موالي الطاهر سعيدة – كلية الآداب واللغات والفنون – قسم الأدب العربي – النقد الثقافي عند عبد هللا الغذامي – مذكرة مكملة لنيل شهادة الماسترLMD في اللغة العربية وآدابها –الطالبة – قداري الضاوية.) لتصرف.

15- (حمزة عبيس الجنابي: رؤية في النقد الثقافي، قسم الإعلام، جامعة المستقبل، العراق (بابل)، 05/03/ 2005.) بتصرف.

16- ).(محرر الصحيفة: من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، صحيفة الاتحاد، 19/ يوليو / 2019.). بتصرف.

17- ( للاستزادة في معرفة خصائص وسمات النقد الثقافي يراجع -جامعة تلمسان – الأستاذ الدكتور  بن اعمر – محاضرات خاصة بالسداسي السادس نقد و مناهج – في مقياس النقد الثقافي – قسم اللغة والأدب العربي ).

18- ( عبد الله الغذامي، عبد النبي اصطيف: نقد ثقافي أم نقد أدبي، دار الفكر، دمشق، ط1، 2004، ص.37-38.).

19- (  مجلة بحوث كلية الآداب – جامعة المتوفية – نظرية النقد الثقافي ما لها وما عليها – د. ملحة بنت معلث بن رشاد السحيمي – أستاذ مساعد في الأدب والنقد بقسم اللغة العربية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة طيبة بالمدينة المنور. ). بتصرف.

20- (الويكيبيديا – بتصرف).

21- ( قناص – مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل | د. حسام الدين فياض). بتصرف.

22- عبد الله الغذامي: “النق الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2000. ص. 79.

23- حول النقد الموجه لعبد الله الغذامي  – راجع موقع – http://rachidelalaoui.blogspot.com/ – النقد الثقافي عند الغذامي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

أربعة × اثنان =