3 مقلالات حول رحيل الرجل اللبناني العربي المحترم سليم الحصّ

كتب واصف عواضة …

قلما حظيت شخصية سياسية في تاريخ لبنان بالإحترام الذي حظي به الرئيس الراحل سليم الحص .فسواء اتفقت معه في السياسة أم اختلفت ،فإنك ملزم باحترام هذا الرجل الذي عاش محترَما ورحل محترَما.

هو الرجل الوقور، المبدئي، العنيد في الحق،الحائد عن الباطل،الزاهد في الدنيا ومباهجها ،نظيف الكف ،عفيف اللسان،المقاوم الجسور بالقلب واللسان.

من رياض الصلح حتى نجيب ميقاتي ،كان سليم الحص ربما رئيس الحكومة الوحيد الذي لم تنل منه ألسن العقلاء ولا السفهاء في شخصه ،فاستحق أن يكون ضمير الوطن.

نعم ،كان الرئيس الحص مزعجا في حياته العملية وخلال توليه السلطة..ولكن للفاسدين والمفسدين والناهبين والمزورين والمرائين والكاذبين والسافلين وتجار السياسة والدين والطوائف. لكن الرئيس الحص الذي كلّ لسانه وجسده وضميره الحي من النصيحة والموعظة الحسنة لتفادي ما وصلنا اليه من انهيار ،أمضى خريف العمر بحسرة ،عازفا حتى عن الكلام ،بعدما فات ميعاد الإنقاذ من لدن طبقة سياسية ونظام أفلس في تحقيق القيامة لهذا الوطن الجريح .

هذا الرجل النزيه الآدمي النظيف الكف والعقل ،أقضّ مضجعه،أنه لم يستطع ان يلجم الموغلين في نحر البلد وأهله ،فشهد في عزلته أسوأ ما يمكن أن يشهده صاحب ضمير حي،ولربما كان هذا الضمير يفضل ألف مرة لو كانت خاتمته الدنيوية، قبل أن يعيش هذا الإنهيار المريع لوطن أحبه وعمل المستحيل من أجل قيامته.

وليس من باب الصدفة أن يكون مثواه الأخير إلى جانب أحد الأئمة الكبار عبد الرحمن الأوزاعي على مدخل بيروت الجنوبي،وهو إمام العيش المُشترك في لُبنان.

قد يقال الكثير في سليم الحص الذي عرفته وعايشت مسيرته على مدى نصف قرن من الزمان بحكم عملي الصحافي،لكن خير الكلام ما قلّ ودلّ.

بالتأكيد ،كل نفس ذائقة الموت ،وسبحان من لا يفوته فوت ،لكن ضمير الرئيس الحص سيبقى في ذاكرة الأجيال ،معلما يهتدي بوحيه كل وجدان حي.

رحم الله الرئيس الحص وأسكنه فسيح جنانه.

 سيرة ذاتية

سليم أحمد الحص(20 كانون الأول 1929) رحل عن 95 عاما بعدما شغل منصب رئاسة الوزراء خمس مرات، وانتخب عضواً في مجلس النواب لدورتين متتاليتين.

ولد  في منطقة حوض الولاية (بيروت). تعلم بدايةً في مدارس المقاصد، ثم أكمل دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت ليحوز شهادة في الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ليحوز من جامعة أنديانا شهادة الدكتوراه في الاختصاص نفسه .

تولى رئاسة الحكومة اللبنانية خمس مرات:

 

شارك في الحكومات :

انتخب عام 1992 نائباً عن بيروت، وأعيد انتخابه عام 1996 عن نفس المقعد وذلك حتى عام 2000 عندما خسر بالانتخابات بوجه القائمة التي شكّلها الرئيس رفيق الحريري.

شغل مناصب عدة منها:

  • عضو عمدة دار الأيتام الإسلامية
  • عضو مجلس امناء صندوق العون القانوني للفلسطينيين 2003
  • أمين عام منبر الوحدة الوطنية 2005
  • رئيس مجلس أمناء المنظمة العربية لمكافحة الفساد 2005
  • عضو مجلس أمناء المؤسسة العربية للديمقراطية 2007
  • عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى
  • عضو مجلس أمناء جامعة المنار في طرابلس (مؤسسة رشيد كرامي للتعليم العالي)

تزوج من ليلى فرعون (توفيت عام 1990 ) ولهما ابنه وحيدة: وداد سليم الحص.

****************************************************

وهكذا يرحل المسافر اليتيم..سليم الحص الآدمي النظيف

كتب د. أحمد عياش

يتيما في السلطة كان ويتيما في المصداقية،لم يسرق،لم يكذب،لم يقتل،لم يفسد في الدولة،لم يمتلك طائرة خاصة،لم يوقع على إفلاس دولة،لم يوافق تاجرا في الادارة،لم يتوسط لأحد من أجل وظيفة.
لم يجمع مالا من شح او حرام.
اتهموه ان لا علم له في الاقتصاد المعاصر كأن يفتح أبواب الدولة لديون بالعملة الاجنبية وان يراكم ديونا داخلية لمصلحة سماسرة المصارف.
وقف بالمرصاد قدر الإمكان الا ان تجار المال والدم والسلاح والفتن الطائفية والصفقات الإدارية وصناعة رموز سياسية كرتونية سافلة كانوا أقوى من انا الأعلى للوطن.
حتى بيروت الأكثر تمدّنا في البلاد خذلته،أسقطته لانّه لم ينضم لثقافة قطيع بيع البلاد والناس .
حذّر اللبنانيين مما يقومون به حكام اشرار الميليشيات وافلاس الدولة ،وارتُكبت ابشع إبادة جماعية مالية بحق الجمهور.
من الناس مَن سقط بجلطة مالية في مصرف ،ومن الناس من مات بنزيف دماغي من القهر في بيته او أمام دار زعيم نذل.
غداً سيوارى الثرى فهل سيشيعه الشرفاء من الناس بمأتم يفوق جنائز الآخرين الذين يفوقهم مناقبية وحبّا واخلاصا للبلاد وللامة .
كان علماً اخلاقيا لم يشعر معه أحد من الناس بطائفية او شعبوية .
رحل المسافر اليتيم دون أن يرفع يده ملوّحا لاحد.
مات حزينا على ما فعله أبناء البلد ببلادهم.
شوارع بلا إضاءة ومركبات تنقل الماء والعتمة تعمّ المدن والريف والناس تبحث عن دواء وعن قلم وعن كرامة.
رحل المسافر اليتيم وغزة تموت ببطء شديد وسط امّة ما عاد يليق بها تسمية أمّة…
رحل المسافر اليتيم بنبله ولم يترك ثروة لاحد كعادة القادة الاحرار الشرفاء.
من هنا ومن وسط منطقة عائشة بكار المحررة، وواقفا عند مفترق طرق محتارا بطريقي، اتلو سورة الفاتحة لرئيس عاش وحكم واعتزل ولم يتهمه أحد بسوء أو بأذية.

**********************************************

سليم الحص.. صفة لا موصوف

كتب نجيب نصر الله

تعددت صفات الرئيس سليم الحص وتنوعت، من الضمير إلى النزيه إلى العفيف إلى الزاهد إلى النبيل إلى… آخر ما قُدّر لقاموس الثناء أن يحوي من مفردات إشادة وعبارات احترام. لكن سليم الحص ظل هو نفسه سليم الحص. بل صار الصفة التي تسبق الموصوف وتليه.

تنوعت «مناصب» الرئيس سليم الحص الرسمية والشعبية، لكن سليم الحص بقي هو نفسه، سليم الحص، الذي انفرد بكونه واحداً من قلّة ترفع من شأن المنصب لا العكس ولا غيره.

مع «الطائف» وما تلاه، جيء إلى السلطة بمن جيء من أمراء حرب وسماسرة مال وتجّار حروب، فانقلبت الأحوال وتغيّرت «التحالفات» وسيطرت الغرائز وعمّ الطمع وساد الجشع وسقطت الأقنعة وشاعت «القطيعية»، لكن سليم الحص بقي هو نفسه سليم الحص صاحب المبادئ، ورجل القناعات، العابر للانتماءات والعصبيات: الوطني الذي لا يساوم، والعروبي الذي لا يهادن، والمقاوم الذي يأبى التخلّي عن الحقّ، وفي مقدّمه الحقّ الفلسطيني والعربي باستعادة فلسطين من البحر إلى النهر.

إنها استثنائية الحص ويندر أن تتكرر. بل أن تكرارها يحتاج إلى ما يشبه المعجزة. وكيف لا يكون الأمر كذلك ونحن في خضم زمن لبناني وعربي تلمع فيه الخناجر وتتراجع فيه السيوف وتسيطر فيه الضغائن وتتناسل فيه العصبيات وتشتعل فيه الفتن… ومع ذلك فإن الإجماع الذي شهدناه على استثنائية الراحل هو، في الواقع، تأكيد على المؤكد الوطني والقومي والإنساني والقيمي والأخلاقي الخاص بالرجل، وهو مؤكد مسجّل ومعروف وموثّق.

بل أن ما يزيد في استثنائية هذه الشخصية أنها نتاج سويته الأولى ليس إلا. وهي سوية بلورتها الأيام وصقلتها كأفضل ما تكون البلورة ويكون الصقل. استثنائية لم تتلوث لا برثّ الكلام السياسي ولا بسقط الأفعال الناجمة عنه. والحق أنه لولا هذه السوية الصميمية، البعيدة عن التكلّف، لما تيسر له التربع على عرش التقدير والاحترام الملازم له. إنها، في واحدة من الخلاصات، السوية التي ساهمت في فضح حقيقة ما يسود اجتماعنا الهشّ من ضحالة وضآلة تجعل من العادي خارقاً، ومن الطبيعي استثناء.

نعم، ليست السوية التي ميزت الحص بالأمر الخارق ولا بالمستحيل. لكن في منطقة مثل منطقتنا التي نعيش فيها يصبح الأمر كذلك فعلاً. إنها الحقيقة المرّة، لكنها في الوقت نفسه، الحقيقة التي لا تنتقص البتة من مكانة الرجل وفرادته. إنه الرجل الذي يُسجّل له إضافة الحضور وإضافة الفعل وإضافة التأثير وإضافة الإلهام وإضافة المعنى وإضافة الديمومة. كما أنها الحقيقة التي تدل على مدى الخواء الذي آلت إليه أحوالنا، ومبلغ الانحطاط الذي صرنا إليه لبنانياً وعربياً وحتى عالمياً. ومن شأن نظرة محايدة على المشهد العربي العام أن تدلنا على مبلغ القعر الذي صارت إليه أحوال هذا الاجتماع المرصود للتفاهة ومعها البلاهة المستوردة من صحراء العفن والأسن الوهابي المقيت. إذ لا يمكن أن يكون هناك قعر أعمق من قعر الصمت المدوي، «العربي» الشعبي قبل الرسمي، على فصول الإبادة الجارية، على مقربة كل واحد منا، في فلسطين.

استثنائية الحص لم تتأت من خوارق الأعمال بل من سوية إنسانية وأخلاقية «كريستالية». إنها استثنائية الصادق في القول والعمل، إنها استثنائية المترفع عن المكاسب، إنها استثنائية الباحث عن العدل والعدالة والساعي إليهما، إنها استثنائية المسؤول الذي لا يريد شيئاً لنفسه، إنها استثنائية صاحب المبادئ وصانع القيم وحافظها. إنها استثنائية السياسي اللبناني والعربي الذي واجه عواصف الطائفية وأعاصير المذهبية وزوابع الخيانة والارتداد والتخلي. ومع ذلك، فإنها، في الحقيقة ليست بأكثر من سوية الإنسان السوي وبداهة فطرته السليمة.

يمضي سليم الحص تاركاً للمهتمين الفعليين وهم، ومن دون أدنى شك، قلة قليلة ما زالت تحلم وتقاوم. يمضي سليم الحص واثقاً مطمئناً إلى أن الأفكار التي سكنت عقله قبل فؤاده في أيد دافئة وأمينة. وكيف لا يفعل وهي الأيادي نفسها التي خبرها يوم حررت الأرض وصانت إنسانها، فكان على رأس من احتفلوا بها ومعها. كيف لا يفعل وهو من رآها رأي العين وهي تقبض في اليوم التالي لـ «الطوفان» المجيد على البندقية دعماً لفلسطين وإسناداً لها.

طبعاً، وكما هي العادة مع مناسبات الفقد الكبير سنقرأ وسنسمع وسنشاهد الكثير من الإنشاء الركيك عن فرادة الرجل ومدى استثنائيته وجلل الخسارة التي خلفها، ولكن الواقع أن لا أحد من هؤلاء سيكلف نفسه عناء التمثل ولو بواحدة من خصال الرجل أو مزاياه الكثيرة، وهي الخصال والمزايا التي صنعها بقدر من صنعته وألهمها بقدر ما ألهمته، وكل ذلك بدأب المناضلين وجسارة الثوار وحمية الشجعان ونبل الأحرار واستقامتهم.

لا لم يكن الحص في أي يوم من الأيام ضعيفاً، ولا حتى خلال مرضه. لكنه، والحق يقال، كان وحيداً. ومع ذلك، وبرغم ثقل المسؤوليات التي تجند لها فإنه لم يهادن، ولم يساوم ولم ينزلق إلى القعر الأخلاقي والقيمي الذي مثلته تلك الحفنة من شذاذ الآفاق والطامعين الذين جيء بهم مطلع تسعينيات القرن الماضي فجعلوا يروجون لقيم البلاهة والتفاهة والاستهلاك… ولأنه كان كذلك ما كان قادراً على مجابهة الهجمات، ولا ردها. فكان أن اكتفى، مرغماً، بالدفاع وحماية ما يمكن حمايته من خلال ما كان متاحاً من أشكال عمل وحدوي ووطني وقومي، قبل أن يلوذ بصمت لم يكن يقطعه إلا تصريحات الانتصار للمقاومة ومواقف الدفاع عن فلسطين.

سليم الحص رجل سكنه الحق وسكنته الحقيقة.

سليم الحص مقاوم لبناني وعربي سكن فلسطين وسكنته قضيتها.

ولعل أكثر من سيفتقده، اليوم، بالإضافة إلى ابنته وداد وحفيده سليم وما تبقى من أصدقاء يعدون على أصابع اليد الواحدة، هم المقاومون في لبنان وفلسطين وسوريا واليمن وباقي البقاع العربية القابضة على جمر الانتصار لفلسطين، والمصرون بالرغم من كل المعوقات، على استعادة الحق السليب، وتصويب بوصلة التاريخ التي انحرفت بأكثر من اللازم، لكنها، مع ذلك، تبقى من نوع الانحراف «الخلدوني» القابل للتصحيح إن لم يكن اليوم فغداً أو بعده، وهو وعد المقاومين وسيدهم القائد الظاهرة، حسن نصرالله، لراحلهم الكبير سليم أحمد الحص ابن بيروت التي عصت على الاحتلال وعصمت شرف الوطن يوم احتضنت ولادة المقاومة ولاحقت من تسلل منهم إلى شوارعها وأحيائها.

سليم الحص، وداعاً.

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

أربعة × 5 =