الجرافات / أ. د. بثينة شعبان
أ. د. بثينة شعبان ( سورية ) – الإثنين 2/9/2024 م …
ما الفرق بين حرب الإبادة الصهيونية الجارية منذ عام على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة وفي كل أنحاء فلسطين، وبين ما سبقها من قتل ومجازر وتنكيل بهذا الشعب الأبي المظلوم منذ أكثر من قرن وخاصة منذ نكبة عام 1948 وما سبقها من مجازر وإرهاب صهيوني وما تلاها؟
الفرق الأول، هو أن بعضاً من هذا الشعب الذي تمّ تهجيره من حيفا ويافا وعكا وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية ولم يتمكنوا من إرغامه على الهجرة خارج فلسطين، قد انتقل إلى أجزاء أخرى من فلسطين في الضفة وغزة وأقام مخيماته على أرضه رغم شظافة العيش واستمرار قوات الاحتلال بالتنكيل به وهدم قراه ومنازله عشرات المرات.
اليوم كل الشعب الفلسطيني الذي يقاوم ببسالة وصمود فريدين على ما يقرب العام ضد أعتى قوى عسكرية استعمارية في العالم، هم من سكان فلسطين أصلاً ولجؤوا إلى هذه المناطق وأقاموا مخيمات في سورية ولبنان والأردن وغيرها حاملين في رقابهم مفاتيح بيوتهم وسندات ملكيتها ومتحدثين كلما أتاحت لهم الفرصة عن حقهم التاريخي في العودة إلى أرضهم وديارهم.
ما يفعله كيان الأبارتيد الصهيوني اليوم بعد أن اعترف له الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن القدس عاصمة دولته، وبعد أن استهدف المتطرفون اليهود المسجد الأقصى والمقدسيين والبيوت الفلسطينية في القدس وبعد أن ارتكب الكابينيت الإسرائيلي جريمة إقرار يهودية الدولة، ما يفعله الكيان بعد كل هذا هو حرب إبادة ليس فقط للبشر وإنما للمؤسسات والذاكرة التاريخية لفلسطين وهوية فلسطين، إذ إن هذه هي أول مرة في التاريخ الحديث نرى الجرافات تتصدّر كل أدوات الحرب الإرهابية فتجرف الجوامع والكنائس والمستشفيات والمدارس والشوارع والمنظمات الأهلية والمؤسسات الإعلامية وكل البنى التحتية، حيث تحوّل المدن والقرى إلى ركام لا مكان فيه ولا أثر لبيوت أو أقفالها ومفاتيحها ولا لبساتين خضراء ولا حتى لماشية تدبّ على الأرض وتنقذ لحومها السكان من جوع يستخدم ضدهم كأداة من أدوات الإبادة، ولهذا يستهدفون المستشفيات في غزة والضفة لأنهم لا يريدون لجريح أو طفل أو امرأة أن يعيش بل يعملون على كتابة الفناء لأي شخص أو مرفق أو أثر للذاكرة الفلسطينية.
إذاً هي حرب إبادة للإنسان وللهوية وللذاكرة ومن ضمنها كل البنى والمقدسات، والسؤال هو لماذا؟ لأنهم يريدون أن يؤسسوا لذاكرة مختلفة وهوية مختلفة جداً للمكان والتاريخ وكل ما جاد به هذان الاثنان خلال القرون الماضية، ولمن يعتقد بأن هذا ينطوي على بعض التضخيم لما يحدث ليس عليه إلا أن يستذكر ماذا حصل للشعوب الأصلية في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا؟ وماذا نعلم نحن اليوم عن هذه الشعوب التي كانت شعوباً متنوعة ومتعددة وقبائل ذات لغات ولهجات وتاريخ وثقافة وحضارة وقد عقد معهم المستوطنون البيض أكثر من مئتي اتفاقية فقط لتنتهي كل الاتفاقيات بالإبادة؟ يقول الدكتور الباحث منير العكش: إن معظم الأبحاث حول السكان الأصليين للولايات المتحدة تشير إلى أنه كان هناك أكثر من 45 مليون إنسان تمّت إبادتهم، وأنهم كانوا أكثر من خمسين أمّة وشعب من البحر إلى البحر وأنّ المستوطنين البيض قد دمّروا ستين مدينة من مدنهم، وأنّ الذين سممّوا زعماءهم ونقضوا كلّ الاتفاقات معهم قد تحوّلوا إلى نجوم وأيقونات ودفنوا ودمّروا كلّ أثر لثقافتهم ومؤسساتهم وتاريخهم.
لقد ذهبت بنفسي إلى بيوت بعض السكان الأبورجينز في أستراليا، وحدّثوني كيف كان المستوطنون الجدد يسرقون أطفالهم ويضعونهم في مخيّمات ويمنعونهم من رؤية أهليهم أو الحديث بلغتهم، ويرغمونهم على هجر كلّ ما تربّوا عليه من عادات ولغة وأخلاق وثقافة، لقد وجدتهم أناساً مبدعين وخلّاقين بالفنون، ومحبّين للعائلة ومقدّسين للأرواح والخالق، ولكن يمكن القول: إن ثقافتهم اندثرت إلا النزر اليسير، لذلك ما يجب فعله اليوم، بالإضافة إلى صمود الأبطال المقاومين الأسطوري في فلسطين، هو أن يقرع جرس الإنذار للعالم برمّته بأن ما يجري في غزّة والضفة اليوم لا يهدف إلى القضاء على بضعة مقاومين محاصرين ومستهدَفين من جيش مدجّج بالسلاح ومموّل ومجهّز بأحدث القنابل والمدرّعات والدبّابات، وإنما هي حرب إبادة موصوفة بكلّ المقاييس على طريقة إبادة شعوب القارّتين الأميركية والأسترالية.
من هذا المنظور، فإن كلّ المفاوضات، التي سموها مفاوضات، ما هي إلا أحد الأساليب لإعطاء وقت أطول للصهاينة، وإلهاء العالم وإبعاد الأنظار عن حقيقة ما يجري في غزّة والضفّة من أنها حرب الإبادة الثانية التي يشهدها العالم بعد حرب الإبادة الأولى التي ارتكبها الغربيون البيض بحقّ الشعوب الأصلية في أميركا وأستراليا، ومن هذا المنظور أيضاً على القائمين على الشأن المقاوم تغيير سرديتهم أيضاً، أو على الأقل التوجّه بسرديّة مختلفة للعالم رغم أن النظام العالمي قد أثبت فشله، ولكن يجب أن تتمّ مخاطبة الضمائر الحرّة في العالم، أو ما بقي منها بسرديّة توضح حجم الاستهداف والهدف الخطير الذي يعمل العدوّ الصهيوني على تحقيقه تحت مسمّيات مختلفة، إذ لا فرق اليوم بين بن غفير وسموتريتش ونتنياهو وغالانت؛ فقرار الإبادة قد تمّ اتخاذه على مستوى العصابة بأكملها، وكلّ البكائيات التي اعتادوا التعبير عنها من ضربات المقاومين والمقاومة، ما هي بالنسبة لهم إلا أثمان مقبولة جداً، وربما غير مُكلفة لتحقيق الهدف التاريخي الذي يبتغونه وهو قيام استعمار استيطاني يبدأ من فلسطين ويمتدّ إلى بلدان الشرق الأوسط وصولاً لمنابع النفط في الخليج.
لقد قرأت في ثمانينيات القرن الماضي كتاباً يتحدّث عن الصراع الحتمي والتاريخي بين القومية الصهيونية والقومية العربية، وأنّ الصراع بينهما وجوديّ ولن تهدأ المنطقة إلا بعد أن تنتصر إحداهما على الأخرى، ثمّ اختفى الكتاب وربما اختفى كاتبه، ومن هذا المنظور تمّ شنّ هجوم على مدى سنوات على القومية العربية مع أنها هي التي تمثّل الخلاص الوحيد للعرب، في حين تمّ نشر وتمجيد «القومية اليهودية»، وإلى الذين يظنون أن العدوّ الصهيوني سيقف عند حدود فلسطين سنقول لهم إنكم مخطئون، كما أن سيناريو غزّة والجرائم المروّعة في غزّة يتمّ ارتكابها بوحشيتها وجرافاتها ومجازرها منذ أيام في الضفة، فإن سيناريو الإبادة واحتلال المنطقة والهيمنة عليها لن يتوقّف عند حدود فلسطين بل سيمتدّ ليضمّ كلّ دول المشرق العربي، ولن يُفيد أحد أن يدفن رأسه في الرمال لأن الاستهداف هو لكلّ الناطقين بالضاد والوارثين لهذه الأرض الطاهرة المقدّسة، والهدف هو إبادة ذاكرتهم وثقافتهم وهويتهم ونهب ثرواتهم، وإقامة ثقافة وهوية أخرى تستغلّ خيرات هذه المنطقة لمصلحتها وتكون في حينه قد حوّلت ما تبقّى من العرب إلى هنود حمر المنطقة.
لقد خطّطوا منذ مؤتمر بازل 1897 للسيطرة على المال والإعلام، وحرب الإبادة هذه هي الأحرف الأولى لخططهم لهذه الألفية، ونحن قادرون، إن استيقظنا اليوم، على استغلال هذه الفرصة وقلب المعادلة فوق رؤوسهم ولمصلحتنا، ولكنّ التاريخ والأحداث لا تنتظر المتآخرين!