الرحلة الأخيرة إلى الكأس” ( قطعة مسرحية ) / د. سعاد درير

                             سعاد درير – الإثنين 2/9/2024 م …




 

– الشخصيات: “وِصال الروح”. “سِراج”. “نائِلة”.

– المكان: (يَتِمّ تَقديره حسب خصوصية اللحظة المصيرية).

– الزمن: (بين تَفَتُّح وَرد الهوى وذبوله).

**********************************

الرشفة الأولى: (فوق سرير الواقع)

***

– سِراج: (مرتجفا يجتذب نائلة من يدها بلوعة المحروم تحت ضوء إنارة برتقالية وهو يُدَنْدِن على إيقاع عزف العود الشجيّ الذي ينبعث منه صوت الموسيقار محمد عبد الوهاب) إلى أين تَفِرِّين مني يا نائلة؟!

– نائلة: (بنفاد صبر) أوووووووف! أما تَكُفُّ عن هذا التصابي يا رَجُل!

– سِراج: ولكنكِ حَلالِي؟!

– نائلة: (بازدراء) دعني يا كهلُ، ألا تَرى أنني أتأخر عن أشغالي بسبب تصرفاتك البلهاء هذه؟!

– سِراج: (بلهفة المنتظِر) ألا تُراعين حاجتي إليكِ؟! ألا ترحمين إحساسي بالحرمان منكِ؟!

– نائلة: (مشمئزَّة) اِحْتَرِمْ شَيْبَكَ يا رَجُل.. ضِقتُ من حماقاتك.. (تنصرف مبتعدة) دَعْنِي لعملي الآن..

– سراج: (يحاول استعادتها) أَلْسْتُ أساعدكِ في كل شيء؟! بل ألا ترين أنني أَحلّ محلَّكِ في كل أعباء البيت؟! فلماذا تَصُدِّينَني؟ (يحاول أن يتحسس يدها بعد أن يُعيدها إليه بقوة)

– نائلة: (باستفزاز) ألا ترى أننا كبرنا عن هذه الوقاحة؟!

– سراج: أَتُسَمِّينَ حقي فيكِ وقاحة؟!

– نائلة: (بنظرة شزراء) أوَما أستوعبْتَ بعدُ أن لدينا أحفادا؟!

– سِراج: (مستاءً) أونَسيتِ أن في داخلي مارد الرغبة الذي لا تَهدأ ثورتُه؟!

– نائلة: (بنبرة صارمة) نَمْ، نَمْ يا رَجُل، وتَذَكَّرْ أننا هَرِمْنَا..

– سراج: (شاعرا بالنفور منها) كلما أردتُ أن أداعبكِ أراكِ تقتلين في أعماقي رجولتي..

– نائلة: لا أصدِّقُ أنك مازلتَ في حاجة إلى أن تُثْبِتَ لي رجولتك!

– سراج: (بانكسار) ستدركين يوما أنكِ تَقتلين الطفلَ الذي يتمدَّد في صدري ولا تأذنين له باختلاس شيء من الأنفاس.. (يتقلب في سريره بعد أن يوقِفَ الجهاز الذي تنبعث منه الموسيقى الخافتة).

 

 

الرشفة الثانية: (تحت سرير الحُلم)

***

– وِصال الروح: (بمرحِ وبراءةِ طفلةٍ عشرينية تَكتب في كُرَّاسَتِها على المقعد القريب من النافذة في مقصورة القطار) ما أَوْسَعَ صَدْرَ الليل، وما أَضْيَقَ شارعَ الأيام وأنا أبحث لحُلمي الهارب عن سماء تَكْفِيه (تنظر من النافذة التي يتسلل منها ضوء خافت للنجوم بين الفينة والأخرى)!

– سِراج: (يجرّ حقيبته) أتسمحين لي آنستي بأن أُفْسِدَ عليكِ خلوتكِ وأشارككِ المقصورة؟!

– وصال الروح: (تواصل التفكير وهي تَسرح بعينيها خارج النافذة لتَرُدّ دون أن تنظر إليه) وهل كنتُ مالكة المقصورة لأسمح أو لا أسمح؟! لستَ، كما ليس سِواكَ، في حاجة إلى إذن مني (تَعود إلى الكتابة)..

– سراج: (بشيء من الارتباك يَقِفُ قُبالَتَها) عُذرا آنستي، كأنني عَكَّرْتُ مُناخك النفسي وأفسدتُ الأجواء لاسيما وأنكِ تَبدين كما لو الْتَقَطْتِ فكرة هاربة منكِ! (يتأملها بعينين ثاقبتين، يَرمقها بخُبث رجُلٍ يَشتهيها).

– وصال الروح (تَرفع رأسَها شيئا فشيئا بانتباه) يُخَيَّلُ إلىَّ كأنني في حضرة كاتبٍ مُلْهَم، (تتفاجأ به) بل هو كذلك (سحابة خَجَل تَبْتَلِعُها) معذرة يا شاعرَنا الرقيق (تفرك عينيها) أحقا هذا أنتَ؟! لا أُصَدِّقُ!

– سراج: بل صَدِّقِي، صَدِّقِي صغيرتي، يُخَيَّلُ إلىَّ أنك لا تمانعين الآن إن جلستُ!

– وصال الروح: بِرَبِّك يا شاعرنا، أَوَأَقْوَى أنا على ذاك؟! تَفَضَّلْ بالجلوس لو سمحتَ، فهذا لي شرفٌ..

– سراج: (بلهفة) لطفٌ منكِ هذا صغيرتي..

– وصال الروح: (في ضوء إنارة زرقاء خافتة) أَخْجَلْتَنِي.. أهذا كُلُّه تواضُع منكَ يا شاعرنا (ابتسامة خفية)؟!

– سراج: (بعينين حالمتين) بل الشِّعْرُ يَنحني لأُنْثى مُلْهَمَة..

– وصال الروح: بين الأنوثة والإلهام لا حِجاب..

– سراج: لا حِجابَ إلا حجاب الهوى (نظرة ماكرة)..

– وصال الروح: وحِجاب الهوى أَصْدَقُ الحُجُب وأَشَفُّها وأَخَفُّها..

– سراج: ما السَّيِّدُ إلا من كان فارغا من سواه..

– وصال الروح: أَوَسَيِّداً يَكون مَنْ يَتْبَع هواه؟!

– سراج: في ميزان الهوى كُلُّ سَيِّدٍ تابِعٌ..

– وصال الروح: فَلْيَكُن التابع من لا سَيِّدَ على قلبه..

– سراج: والقلبُ مكان الشاعر..

– وصال الروح: أوشاعِرٌ أنتَ يا شاعرَنا بِرَبَّة الشِّعْرِ أو رَبَّةِ القلب؟!

– سراج: بَلْ قولي: أويَكون للشاعر قلب لا رَبَّةَ له؟!

– وصال الروح: بين القلب ورَبَّتِه ما بين الجسد والروح!

– سراج: فأيّهما بالتالي أَسْبَق: الجسد أم الروح؟!

– وصال الروح: لكل روح جسد تَسكن إليه..

– سراج: والروح ما كان غيرها لجسدِها ساكن..

– وصال الروح: إنما الجسد قصيدة موسيقاها الروحُ..

– سراج: إنما الروح ضوء محمول على هودَج الجسد..

– وصال الروح: إلى الجسد تُزَفُّ الروحُ بأنامل قلبٍ شاعرٍ بقَدَرِه..

– سراج: ما كل شاعرٍ بقلبِه شاعرٌ..

– وصال الروح: أوليس الشِّعرُ لغة القلب؟!

– سراج: أوليس القلب مِحْراب الشاعر؟!

– وصال الروح: مملوك من شَعَرَ بقلبه ينحني لقلبٍ شاعرٍ..

– سراج: وأراكِ أَشْعَرَ من همسة نسيمٍ تهادَت على موجِ شاعرٍ..

– وصال الروح: أَقُلْتَ إنكَ تراني؟!

– سراج: بل أراكِ موجةً تُهَدِّدُ الشاعرَ ومملكةَ الشاعر إن الموجةُ زالتْ..

– وصال الروح: (بحَياء) قُلْ له يا مَوْجَهُ..

– سراج: (في لحظة اعتراف) قولي لهُ يا مَلِكَة..

– وصال الروح: أُجَاريكَ أنا أَمْ أراكَ تُجارِيني؟!

– سراج: بل قولي: أُحِبُّكِ.. صغيرتي..

– وصال الروح: (فاغرة فاها) أنا؟! (بدهشةِ حيرةٍ)..

– سراج: (مستسلما) أُحِبُّكِ.. أحبُّكِ يا أُنْثى ما كانَتْ إلا لِتَشْعُرَ بقلبي شاعرا بها..

– وصال الروح: (بحمرة الخجل) واااااااه!..

– سراج: أُحِبُّكِ صغيرتي، أُحِبُّكِ صغيرتي الشاعرة بعَظَمَةِ شاعرٍ أَحَبَّ.. مجنون من لا يَركع عند قَدَمَيْكِ (صوت عُبور القطار بانفلات يَتَصاعَدُ)..

 

 

الرشفة الأخيرة: (على حبل هوىً هَوَى)

***

– وصال الروح: (تحتبس أنفاسها، تمسح بالمناديل الورقية تباعا والدموع تفرّ من عينيها موازاةً مع نغمٍ حزين ينبعث من الكمان، إنارة صفراء) أأنتَ؟! أأَنْتَ هذا الذي جاءني الآن يعتذر عن استحالة عقد القران؟!

– سراج: وأعشقكِ حتى النخاع، لكنه الحُبّ المعلَّق يا صغيرتي..

– وِصال الروح: مِن أينَ لك بهذه القسوة لتَكفُرَ بحبي لك؟! (يلتصق حوض جسدها بالمصطبة الوحيدة قُبالَةَ التّلّ)..

– سراج: صغيرتي، مَن قال إنني أكفرُ؟!

– وصال الروح: ما معنى ألا تعترف بحبي؟!

– سراج: بل أنا أعترف وأُقِرُّ..

– وصال الروح: أنسيتَ، أنَسِيتَ يا شاعِرَهُم يا كبيرُ أننا في مجتمع عربي محافظ لا يعترف بالحُبّ إلا تحت قُبَّةِ الزواج؟!

– سراج: أبعد كل هذه السنين وأنا في هذه المرحلة العمرية الحرجة أُقْبِلُ على الزواج مجددا؟! سأصبح أضحوكة المجتمع الساخر لو فعلْتُها..

– وصال الروح: أَكُنْتَ تتسلى بحُبِّي إذن؟! ذبحتَني، ذبحتَني حتى العظم!..

– سراج: أُقْسِمُ أنَّني هويتُكِ..

– وصال الروح: ولأنكَ هَوَيْتَنِي ها أنتَ تكافئني مكافأة نهاية الخدمة.. تَذْبَحني..

– سراج: وماذا أقول لنائلة؟! وبأيّ وجهٍ أعترف لها بحبي لكِ؟!

– وصال الروح: لا أصدق أنكَ تخشى نائلة والمجتمع، ومولاكَ لا (تسترسل في البكاء بندَم)..

– سراج: (مرتبكا يَمُدُّ إليها يَدَه) صغيرتي..

– وصال الروح: (تَشهق بكاءً وهي تتحاشى يَدَهُ) ما كنتُ إلا لأومِنَ بأن ما يولَد في الظلام يَموتُ في الظلام..

– سراج: أنتِ شمسي، صَدِّقِي..

– وصال الروح: لا شمسَ تُشرق عند مُنْتَصَف الليل..

– سراج: بل ضَوْؤُكِ تَسْتَحِي منه النجومُ صغيرتي..

– وصال الروح: (بحُرقة) والنجوم لا تضيء نهارا يا شاعِرَهُم..

– سراج: (يُبَلِّلُ شفَتَيْه الزرقاويْنِ) بل ترنو هي الى القمرَ الْمُضِيءَ بها..

– وصال الروح: (تمسح على عُنقها بأمَلٍ مَيِّت) أرأيتَ؟ إنكَ تقول القمر، فكيف للقمر والشمس أن يَجْتَمِعا تحت مظلَّةِ زمن واحد؟!

– سراج: أنتِ الشمس تُداوين وجعَ الغياب في أزمة العمر الضائع..

– وصال الروح: ليلُكَ البهيم لا يَعترف بلُغَة الشمس..

– سراج: صغيرتي، حاولتُ أن أجِدَ لكِ مكانا..

– وصال الروح: في قلبِكَ لا في دنياكَ.. (بنبرةِ نَدَمٍ) كم كُنْتَ جبانا!

– سراج: ليس في الحُبّ جُبْن..

– وصال الروح: بل في مدينة الحُبّ الكسيح يَكْثُر الجُبَناء..

– سراج: أتُسَمِّينَ حُبِّي جُبْناً؟!

– وصال الروح: وأُسَمِّي حُبَّكَ ليلة..

– سراج: كيف لِحُبِّي أن يَكون ليلة وأنا أهيم بك؟!

– وصال الروح: بل تهيم بأنانيتكَ أنتَ..

– سراج: أنتِ الشمس تَمُدِّينَني بالحرارة التي تَشفع لِتَدْفِئَةِ عروقي..

– وصال الروح: في مدينتك الميِّتة لا وُجُودَ لِمَنْ يَعترف بالشمس..

– سراج: أنا أعترفُ بالشمس..

– وصال الروح: كيف بربِّكَ والقمرُ نائلة..

– سراج: نائلة أصغر وأبعد من أنْ تُذْكَرَ في حُضوركِ..

– وصال الروح: إلى متى سأمضي في نُكران ذاتي في الوقت الذي تَعترف فيه أنتَ بنائلة التي لا تَعترفُ بكَ إلا كرَجُل مع وقف التنفيذ؟!

– سراج: لِنَتْرُكْ نائلة جانبا.. لِتَكُنْ نائلة للناس، ولْتَكُوني أنتِ لي؟

– وصال الروح: أَمَدِينَتُكَ تَعترف بحُبٍّ لا تَعترف به أنتَ؟!

– سراج: أحتاج إليكِ وكَفَى..

– وصال الروح: تَجْرُؤُ على أن تُرضي الناسَ ولا تخشى إلا على نفسك من الناس ومن نائلة فتَصْلُبني على عَمُودِ جُبْنِكَ..

– سِراج: كيف أَعترفُ بكِ أمام الناس في مدينةٍ تَكفرُ بالحُبّ؟!

– وصال الروح: أَوَكَانَ يُصَوِّرُ لكَ عقلُكَ أنني سأُسَلِّمُكَ مفاتيحَ أبوابي في جنح الظلام؟!

– سراج: لكنني أُحِبُّكِ أكثر مما قد تَتَصَوَّرِين صغيرتي.

– وصال الروح: تُحِبُّ نَفسَك، تقصدُ، أما حُبِّي بريء منكَ..

– سراج: أَوَكَيفَ أقوى أنا على أن أعيش بعيدا عن تغريدة عينيكِ؟! لا أقوى، لا أقوى..

– وصال الروح: لكنَّكَ تَقْوَى على أن تَسْتَغْفِلَنِي بحُبِّكَ لي خلف قضبان الظلام..

– سراج: لن تسمح لي نائلة بأن أُخْرِجَكِ إلى الضوء، ولا الناسُ..

– وصال الروح: فلماذا لم تَحْسَبْ حسابَ نائلة (والناس) عندما وَرَّطْتَنِي في حُبِّكَ؟!

– سراج: ضربةُ سهمِ الحُبّ كانت أَسْرَع من أن أَتَمَهَّلَ..

– وصال الروح: (مرهَقة العينين) لا مكانَ للجُبَناء في خيمةِ الحُبّ..

– سراج: تَقْصِدينَ أنكِ سَتَغْرُبِينَ؟! (يُناديها وهي تَتَأَهَّبُ للانصراف)

– وصال الروح: (تَنهض، تجرّ قدَمَيْها لتُغادر المكان): كَمْ كُنْتَ جَبانا!

– سراج: (باستجداء) شمسِي، صغيرتي، لا.. لا.. لا تَغْرُبي، أَتَوَسَّلُ إليكِ..

– وصال الروح: (تَسبقها الدموع) بل تَوَسَّلْ أن يُسامحكَ مولاكَ، ونائلة.. أما أنا، فلا، لن أسامحكَ، لن أسامحكَ، إن لم أُشْرِقْ في صُبح الرحلة الأخيرة إلى الكأس فما كنتُ لأَرْضَى بأن أُضِيءَ في منتَصَف ليلِ تجربة الآخَرين..

صَدِّقْ أن الكأسَ أَبْعَد من اشتهاءاتِكَ.. (تمضي باكية وهي تتجاهل نداءَه مُسْتَجِدِيا عطفَها إلى أن تَغيبَ، يَركع هو على الخشبة بحسرةٍ دافنا وجهَه بين يدَيْه، يرتفع صوتُ نَغَم الكمان الحزين، تَشْتَدُّ الإضاءةُ اصْفِرارا).

 

 

(النهاية).

 

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة عشر − اثنا عشر =