انقطاع حبل الكذب الإسرائيلي / د. حسن أحمد حسن*

د. حسن أحمد حسن* – الأربعاء 4/9//2024 م …

لم تعد مقولة “حبل الكذب قصير” كافية لتوصيف الواقع العاصف الذي تعيشه المنطقة جراء العدوانية الإسرائيلية والتوحش الصهيو أميركي الذي تجاوز كل السقوف، ولم يكتفِ المهووسون بالتفوق العرقي بذلك، بل دفعتهم نزعة القتل وسفك الدماء إلى الإيغال أكثر فأكثر، وتمّ الانتقال من إزالة السقوف إلى تهديم الجدران التي يمكن الاستناد إليها عندما يرغم أصحاب الرؤوس الحامية على التخفيف من سرعة تحليق النفاق والأباطيل التي يتم تسويقها عبر الإمبراطوريات الإعلامية المنتشرة في شتى أصقاع الكون، وكل ذلك لن يقدّم لمجرمي العصر إلا السراب وافتضاح عدائهم لإنسانية الإنسان، فلا نكران الصفعات المؤلمة التي يتلقونها يُخفي آثارها الواضحة للعيان، ولا التهديد والوعيد بإحراق الأخضر واليابس يؤثر على معنويات من تجذّروا بأرضهم، وحوّلوا باطنها إلى قلاع لا تصلها ألسنة اللهب، وفوق هذا وذاك فإن الشعب الفلسطيني قد خلَّف وراء ظهره كل ما له علاقة بالتهديد والتخويف والوعيد والرعود والعواصف بعد أن واجه تنفيذ التهديد بشكل عمليّ، فالإجرام الإسرائيلي المستمر على مدار 332 يوماً يؤكد أن حكومة نتنياهو العنصريّة نفذت تهديداتها مرات ومرات على أرض الواقع، وأحرقت الأخضر واليابس والحجر والشجر، ولم تفلح في كسر إرادة أبناء الحياة الجديرين بالحياة، وكل ما حققه جيش الاحتلال بمشاركة أميركيّة وأطلسيّة لا يتجاوز القتل والبطش والتدمير ودك البنى التحية وتعطيل مظاهر الحياة في غزة، لكن غزة بقيت تتنفس كرامة وعزة وتفقأ الحصرم في عين القاتل وداعميه، وتكسر ردع آلة القتل والإبادة، وتنقل النار إلى داخل الاستيطان الإسرائيلي لينتفض في وجه نتنياهو وحكومته التي تجرّ الكيان إلى الانتحار، ومن حق أولئك المستوطنين أن يقيلوا حكومة ثبت عجزها عن تحقيق أيّ وعد قطعته، وثبت تسويفها وكذبها وأضاليلها التي قد يمكنها تمريرها على العالم، لكن يستحيل تمريرها على المستوطنين الذين يرون ويعيشون تآكل الكيان من الداخل والخارج، والمتظاهرون اليوم والمضربون عن العمل على يقين تامّ بأن ما كان ممكناً بالأمس لم يعُد كذلك اليوم، وما يمكن اليوم تحصينه بفرملة النتنياهو وعصابته المتحكمة بالقرار الداخلي والخارجي قد لا يكون متاحاً غداً، فحبل الكذب لم يستطع الحفاظ على تواصل خيطانه بسبب قصره، بل انقطع وتناثر، وليس بالإمكان إعادة وصل القطع الصغيرة التي تلاشى بعضها تحت أقدام المقاومين في غزة، ويتلاشى ما تبقى منها أمام إرادة المقاومين في جميع مدن الضفة الغربية وبلداتها وقراها ومزارعها، ولن تفيد المستوطنات المشيدة في الضفة الغربية قطعان المتوحّشين في تغيير معالم اللوحة التي ارتسمت واكتملت معالمها وألوانها ومكوّناتها المتكاملة، بل من الواضح أن تلك المستوطنات نقاط ضعف قاتلة، فالإرادة الفلسطينية التي انطلقت في السابع من تشرين الأول 2023م. وتوغّلت بعمق امتدّ لعشرات الكيلومترات هي اليوم أقدر على الدخول إلى المستوطنات المزروعة بين البلدات الفلسطينيّة بأقل تكلفة وجهد وأكثر مردودية من تلك التي شاهدها العالم في الموجات الأولى لطوفان الأقصى المبارك.
الداخل الإسرائيلي اليوم يغلي بما ينذر بالأسوأ، وتجاهل حكومة نتنياهو ــ سموتريتش ــ بن غفير أصوات ذاك الداخل وتكرار خروج المظاهرات يؤكد أن تل أبيب غير مهتمة حتى بشؤون رعاياها وحياة أسراها، فكيف لها أن تهتمّ بأي عنوان له علاقة بالإنسانية والقيم والحضارة البشرية؟ وهنا يقف نتنياهو ووزراؤه وجهاً لوجه لتبادل الاتهامات وتحميل المسؤولية عن التقصير والعجز عن تحقيق الوعود الكاذبة التي تمّ إطلاقها، وكل هذا لا يحوّل كذبات الأمس إلى صدق، ولا يمنح جيش الاحتلال قيمة مضافة لإثبات قدرات هوليوودية خارقة في الضفة الغربية، بعد أن عجز عن حماية نفسه وثكناته وجنوده في الضفة وغلافها، وقد يكون ما ينتظر قوات الاحتلال في الضفة أكثر كارثية مما واجهته قوات النخبة في جميع محاور القتال على جبهة غزة، فواقع الضفة مختلف، والاشتباك من المسافة صفر ممكن في كل حي وشارع وركن وزاوية، والقرائن الدالة على هذه الحقيقة ظهرت للعيان منذ الأيام الأولى التي أراد عبرها نتنياهو نقل آلة القتل والبطش والإبادة وتوجيه سبطانات المدافع ومنصات الصواريخ باتجاه الضفة الغربية متجاهلاً أن ضباطه وجنوده في غزة يغرقون أكثر فأكثر، فما الذي يمكن أن يحققه جنود يحملون في أرواحهم فيروس الهزيمة والخوف من الموت المتربّص بهم على مدار الساعة.
عندما تتصدّع أعمدة البناء يسارع مالكوه لتدعيمها ما أمكن لتلافي السقوط… وحدهم الحمقى الذين يستمرون بالكذب على أنفسهم لاستمرار الاقتناع أن الأسس والقواعد متينة وراسخة، وهندسة البناء مصمّمة لمقاومة الزلازل ولكن، ماذا إذا كانت الطبقة التي أرسيت عليها تلك القاعدة الخرسانية قلقة وغير مستقرة؟ أي أنها قائمة على كذبة كبرى وأضاليل، وما الذي يمكن فعله بعد اهتزاز أركان البناء الداخلية والخارجية؟ وهل يتوقعنّ عاقل أن نكران الواقع المتبلور أمام العين المجردة يعني انتفاء هذا الواقع؟ أو أن تدوير الكذب وإعادة ضخه يجعل منه مادة صالحة للتداول والاستثمار بها؟ وقبل هذا وذاك ماذا تعني تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن التي أكد فيها أن بنيامين نتنياهو لا يقومُ بما يكفي للتوصلِ الى اتفاقٍ لإطلاق الأسرى؟ وهل يمكن فصل مثل هذه التصريحات عن الظرف المرافق، حيث تم العثور على جثامين ستة أسرى بعد حماقة جديدة ارتكبها الجيش الإسرائيلي، فأودى بحياة الستة وأحدهم أميركي الجنسية، وهو يتوهم أنه يحقق إنجازاً؟
كل المعطيات تشير إلى أن إنزال نتنياهو سالماً عن الشجرة العالية التي تسلقها أمر متعذر وخارج إمكانية الجميع، فهل يكون البديل المتاح البدء بنزول الأميركي نفسه عن الشجرة التي دفع نتنياهو لتسلقها، وأن استمرار الأوضاع على ما هي عليه قد تخرج الاشتباك مضبوط الإيقاع عن السيطرة، وبالتالي لا بدّ من النزول لتجنّب اشتعال حرب شاملة في المنطقة، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى أمرين لهما علاقة بهذه الفكرة، حيث تناقلت وسائل الإعلام ووكالات الأنباء خبراً نشرته وكالة رويترز عن تصريح لكبير مستشاري الأمن القومي في مركز الاستراتيجية البحرية صامويل بايرز بخصوص استخدام البحرية الأميركية خلال حملة البحر الأحمر صواريخ توماهوك هجومية برية أكثر مما اشتراه الجيش الأميركي في عام 2023، وأشار بايرز في تصريحه إلى أنه لم يعد في البحر الأحمر إلا قوة أصغر من السفن الحربية الأوروبية، مضيفاً إن تخلي البحرية الأميركية القوة البحرية الأبرز في العالم عن حملتها في البحر الأحمر أمرٌ لم يكن ممكناً تصوره في السابق، وأنه على الدول الأوروبية حماية خلفيتها وتحملها مسؤولية أمن الملاحة في البحر الأحمر، فقد تركز الولايات المتحدة الاميركية نشاطها في المحيط الهادي.
الأمر الآخر الذي يستحق التوقف عنده يتعلق بتصريحات المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز التي حذرت من امتداد عنف الإبادة الجماعية الذي يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي في غزة إلى الضفة الغربية المحتلة، وأن تكثيف “إسرائيل” لهجومها العسكريّ على شمال الضفة الغربية يمثل تصعيداً خطيراً للعنف الجسيم وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطينيّ منذ السابع من تشرين الأول 2023م. وإذا أضفنا إلى ذلك تصريح الجنرال إسحاق بريك القائل: (سنُسقط أنفسنا وليس حماس إذا واصلنا القتال في غزة). فالصورة المتشكلة من هذا المزيج تؤكد أن حبل الكذب الإسرائيلي قد انقطع، وأن واشنطن قادرة على فرض ما تريده على حكومة نتنياهو إذا كانت بالفعل حريصة على تجنّب اشتعال المنطقة بحرب شاملة تنعكس سلباً بالضرورة على المصالح القومية الأميركية العليا.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ستة − واحد =