اللقاء السوري – التركي.. مدخل لنظام إقليمي جديد؟ / احمد الدرزي

احمد الدرزي – الأربعاء 4/9/2024 م …

لا شكَّ في أن اللقاء السوري – التركي المقبل وتحوله إلى مدخل نحو بناء نظام إقليمي جديد يحتاج إلى الكثير من الوقت، وقد يستغرق سنوات، بغض النظر عن نتائجه المرتقبة.




نشهد هذه الأيام الذروة الثالثة من الموجات الدافعة إلى إعادة العلاقات السورية التركية، التي تأجلت بين الانتخابات التركية رئاسياً وبرلمانياً، والآن هي الذروة الأخيرة التي تحمل في ثناياها أفقاً جديداً لعودة العلاقات التي من المفترض أن تؤدي بمسارها المتسارع نسبياً إلى إعادة وحدة الأراضي السورية وتحقق السيادة عليها، الأمر الذي يطرح أهم سؤالين: ماذا بعد اللقاء؟ وكيف نصل إلى حالة النجاح واستمرارها؟

بدأ الاستعصاء في مسار عودة العلاقات بالتقلص نحو التلاشي منذ أن خرج الرئيس السوري بشار الأسد إلى الإعلام من منصة مجلس الشعب السوري بعد الانتخابات الأخيرة، وتدويره زاوية عودة العلاقات السورية التركية إلى ما قبل 2011، وتجاوزه مسألة الانسحاب كشرط مسبق، والذهاب نحو وضوح الأهداف وكيفية تحقيقها. هذا الطرح الجديد أتاح للقيادات التركية تلقّف ما يعتبرونه طرحاً إيجابياً لينطلقوا لتفعيل العمل على اللقاء من دون الحديث عن تصعيد الشروط المسبقة المتبادلة بين الطرفين.

المهم في الأمر ليس حصول اللقاء بحد ذاته بين بلدين محكومين للجغرافيا والتاريخ منذ أكثر من 3200 عام، بغض النظر عن الأقوام والإثنيات والإمبراطوريات التي تعاقبت على منطقة غرب آسيا، إنما هو السياق الإقليمي والدولي الذي يشكل الغطاء والدافع الأساسي له، فهو يأتي في ظل تحولات دولية كبرى في إطار الصراع على بنية النظام الدولي، وفي إطار إقليم غرب آسيا الذي يشهد تحولات عميقة منذ أن خرجت كل قوى المقاومة لمواجهة النظام الغربي بواجهته الصهيونية “إسرائيل” بعد ملحمة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، ونجاحها بشكل مُبهر في إظهار عجز النظام الغربي بقيادة الولايات المتحدة عن تحقيق أي من الأهداف التي وضعها لنفسه في حرب الإبادة التي يخوضها في غزة، والآن في الضفة الغربية.

هذا الإنجاز المتراكم يومياً لقوى المقاومة أظهر أن منطقة غرب آسيا مقبلة على تحولات عميقة مخالفة للمسارات التي يعمل عليها النظام الغربي الضامن بأمان للنجاح، كما كان يتصور.

هذا الأمر ترك آثاره في تركيا التي بدأت بالانزياح عن الغرب تدريجياً منذ فشل محاولة انقلاب 2016. وقد أدت المواجهة المحتدمة في غزة وبقية الساحات دوراً في خسارة حزب “العدالة والتنمية” الانتخابات البلدية الأخيرة، ما ساهم في تعزيز الانزياح عن الغرب من دون الطلاق أكثر من السابق.

ولا بد من حجز مكان لدور تركي وازن في مقابل دور محور المقاومة المتصاعد الذي تقوده إيران، فظهر الأمر واضحاً بالتهديد على لسان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان والتهديد “بالذهاب إلى غزة كما ذهبنا إلى ليبيا وكاراباخ”، والذي ترافق مع برود العلاقات مع أذربيجان التي ما زالت خياراتها كاملة مع الكيان الصهيوني.

هناك إشارتان مهمتان في هذا السياق الإقليمي والدولي؛ الأولى ما تحدث عنه المسؤول الروسي الذي في عهدته الملف السوري، ميخائيل بوغدانوف، بتأكيده مساهمة كل من إيران والعراق الإيجابية في الدفع نحو تحقيق اللقاء السوري التركي، والثانية ما تحدث عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن قرب اجتماع رباعي لكل من روسيا وتركيا وإيران وسوريا في إطار أستانة.

كلا الإشارتين تؤكد أننا أمام تحولات زلزالية الطابع باجتماع 4 قوى إقليمية (سوريا والعراق وتركيا وإيران) كنواة لتغيير خرائط الجغرافيا السياسية وتوزع القوى والأدوار في كامل إقليم غرب آسيا كمقدمة لمزيد من الانكفاء الأميركي الغربي استعداداً للإخراج النهائي من الإقليم. ولهذه النواة مظلة دولية واضحة ممثلة بروسيا، ومظلة مخفية عن الحدث المباشر، وليست بعيدة عنه، بل داعمة لهذه النواة، وهي الصين.

يشكّل اللقاء السوري-التركي المدخل الأساسي لنواة نظام إقليمي جديد يدفع بقية الدول الإقليمية الأُخرى التي ما زالت رهاناتها عالية على استمرار سطوة النظام الغربي في العقود القادمة إلى إعادة التفكير في حجم خسائر استمرار الرهان على الولايات المتحدة، وضرورة الاستفادة من الهامش المتوسع بين القوى الآسيوية الناهضة ومجمل النظام الغربي لتوسعة مروحة خيارات الانزياح نحو علاقات متوازنة بالحد الأدنى بين الشرق والغرب، وإسقاط الرهان على الردعية الإسرائيلية التي تحطمت على أيدي غزة ومحورها المقاوم.

ولا شك في أن هذا اللقاء القادم وتحوله إلى مدخل نحو بناء نظام إقليمي جديد يحتاج إلى الكثير من الوقت، وقد يستغرق سنوات، بغض النظر عن النتائج المرتقبة للقاء، بفعل تباينات البنى السياسية الداخلية لدول النواة الأربعة، إضافة إلى تباين المشكلات الداخلية لكل بلد.

لكن هناك مشكلة داخلية مشتركة بين الجميع تتعلق بتوزع الكرد على جغرافيا الدول الأربعة كنتيجة لتحطيم النظام الغربي للنسيج السياسي والاجتماعي والإثني لكامل منطقة غرب آسيا، والذي تطلبت مصالحه الاستراتيجية بعيدة المدى منع الكيانية السياسية عن الكرد كي يبقوا عنصراً مفجراً للمنطقة بعنوان الحقوق القومية، وهذا حق طبيعي لهم كنتيجة للسياسات الغربية الخبيثة تجاه المنطقة، ولكنه حق غير طبيعي في السياق الجغرافي التاريخيّ لكامل الإقليم غير القابل لرسم الحدود الفاصلة بين إثنياته وهوياته الدينية والثقافية.

قد يكون طرح عبد الله أوجلان فكرة الأمة الديمقراطية أحد المداخل المهمة لإيجاد حل لمشكلة القضية الكردية، والإبقاء على الحدود الدولية القائمة حالياً، ولكن في واقع الحال لا ينسجم الكثير من القوى السياسية الكردية مع المسار العام للقوى الاجتماعية الدافعة نحو تشكيل نظام إقليمي جديد ليس للغرب عليه سيطرة كبيرة، بل وضعت هذه القوى خيارات تحقيق حل مشكلة قضيتها بالرهان على النظام الغربي بشكل عام، وعلى الولايات المتحدة بشكل خاص، الذي حرم الكرد بالأساس من دولة لهم ومزّقهم كما مزق العرب عامةً.

انعكس ذلك على موقف الكرد من قضية فلسطين التي أثبتت بشكل متجدد أنها قضية مركزية ذات بعد عالمي يلف الكرة الأرضية كلها، وهو موقف خجول جداً ومرتبك لا يريد إغضاب الولايات المتحدة ولا مدخل القبول المتمثل بحصرية العبور من البوابة الإسرائيلية.

نجاح نواة النظام الإقليمي الجديد لا يمكن تحققه باستمرار “إسرائيل” كدولة ردعية ذات ذراع طولى، وهذا أمر بدأت بافتقاده باتجاه الزوال، وأيضاً لا يمكن نجاحه بعيداً عن الكرد الذين يشكلون نسبة سكانية عالية، وفي الوقت نفسه هم أيضاً يتحملون المسؤولية بأمرين أساسيين مرتبطين ببعضهما بعضاً؛ الأول هو الذهاب نحو القومية كهوية طبيعية وتخليصها من لوثة الأيديولوجيا التي أصابت كل إثنيات المنطقة بشكل متفاوت، والآخر هو إسقاط كل خيارات الرهان على الغرب لتحقيق الدولة القومية، فالإقليم يحتاج إلى الجمع بوجودهم، وليس المزيد من التمزيق.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

تسعة عشر − 13 =