روايات التهجير الفلسطيني: وين نروح؟ /  فيحاء عبد الهادي




 فيحاء عبد الهادي ( فلسطين ) – الأربعاء 11/9/2024 م …

“وين نروح”؟
صرخة مدوِّية يطلقها الشعب الفلسطيني منذ عام 1948،
تهجير إثر تهجير،
ومذبحة إثر مذبحة،
وتطهير عرقي إثر تطهير عرقي،
واعتقال وترهيب وقتل وحصار واقتلاع وبطش وحرق وهدم،
وقصف، وإطلاق رصاص، واقتحام، وتدمير البنية التحتية للمدن والقرى والمخيمات؛ شبكات المياه، والكهرباء، والمرافق الحيوية؛ مما لا يحتمله الحجر قبل البشر.
“وين نروح”؟
*****
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وتزامنًا مع الإبادة الجماعية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة من شمالها حتى جنوبها؛ يقوم بتكثيف عدوانه على مخيمات الضفة الغربية؛ وفي القلب منها مخيمات جنين، وطولكرم ونابلس؛ هادفًا إلى كسر شوكة المقاومة، وتفتيت حاضنتها الشعبية، فهل نجح؟
“أموت فدا الشباب”، “اجتياح المخيم وحَّدنا وثبَّتنا أكثر من أول”، “كلهم اولادنا”، “مخيم جنين مخيم الصمود والكبرياء”.
عبارات وردت على لسان خضره، وأروى، ومها، ونجاح، من مخيم جنين، بعد العدوان على المخيم في تموز 2023؛ اختصرت آراء العديد من النساء؛ ممن فتحن بيوتهن لتقديم الطعام والشراب والقهوة والتمر والدعم النفسي للشباب، وعائلاتهم/ن، وقمن بإيصال الرسائل، وحرصن على وضع المياه والطعام على الشبابيك لأي محتاج، وتوفير المأوى، وأقمن مراكز إسعاف ميداني، وأدخلن بعض الشهداء لبيوتهن، حتى لا يأخذهم الجيش، وحين أتاحت الظروف نقلن عددًا من الجرحى لسيارات الإسعاف، ولمراكز الإسعاف، وحين اقتلعن من بيوتهن، تركن أبواب بيوتهن مفتوحة، ومراكز الإسعاف مفتوحة.
*****
حين روت الحاجة “خضرة أبو سرية” حكاية تهجيرها المرّة من قريتها زرعين حتى وصولها إلى مخيم جنين؛ حكت وفي مخيلتها تلوح آثار صور حية لزرعين؛ سهلها (سهل مرج ابن عامر)، وحبوبها، وخضرواتها، وفاكهتها، وآبارها، وينابيعها، وآثارها الرومانية والإسلامية، ومساجدها، وأسواقها، ومدارسها.
كما كانت تلوح آثار صورة حيّة لشعبها البطل؛ تصديه للعصابات الصهيونية، خلال الانتداب البريطاني، وللعدوان إثر العدوان، الذي يشنه عليها جيش الاحتلال، منذ عام 1947.
تحدّثت عن بطولة شقيقها الشهيد “حسن أبو سرية”، الذي التحق بجيش الإنقاذ، واشتبك مع الإنجليز، في محاولة لم تنجح لصدّ العدوان على القرية، وردَّدت إيمانها الراسخ، الذي لم يتبدّل عبر السنين: “مجموعة النجوم كانت تحمي المقاومين”، وما تزال.
*****
اقتلعت الحاجة “خضرة أبو سرية”، ولما تبلغ العاشرة من عمرها من مسقط رأسها “زرعين” – التي طُهِّرت عرقيًا يوم 28 أيار عام 1948، وأقيمت مستعمرة “يزراعيل” غربها – وهجِّرت إلى سيلة الظهر، إلى مدينة جنين، إلى مخيم جنين، وهجِّرت من مخيم جنين إلى صير عام 1967، وإلى بيت الجيران – بعد أن هدم جيش الاحتلال بيتها، حين اجتياح المخيم – عام 2002، ومن المخيم إلى خروبة عام 2023، لتعود بعد ثلاثة أيام إلى المخيم، وفي الاجتياح الأخير، عام 2024؛ نزحت إلى بيت ابنة شقيقها في الجبل (فوق حارة الدمج – على حدود المخيم)، وعادت بعد أحد عشر يومًا.
روت الحاجة تفاصيل رحلة تهجيرها المرّة، منذ وصلت إلى “سيلة الظهر”، حيث استأجرت العائلة بيتًا عدة أشهر، ومن ثم توجَّهت نحو جنين، وسكنت في برّاكية كانت مقرا للجيش العراقي، وبعدها توجّهت إلى المخيم.
عانت كثيرًا مع شقيقتها ووالدتها؛ عملن في الفلاحة، ولم يكن لديهن أي مورد، حتى أنهن كنّ يذهبن للحقل حافيات، أما شقيقها الأكبر الشهيد محمود – الذي بقي جثمانه في مقابر الأرقام حتى اليوم – فكان يعمل في تهريب البضائع لمدينة الناصرة.
وتحدَّثت عن تهجيرها إلى صير عام 1967، مشيًا على الأقدام، وعن استشهاد شقيقها المناضل الشيخ “حسن أبو سرية” في وادي عز الدين القسام، في دلالة على مقاومة شعب زرعين المتواصلة لكل عدوان واحتلال.
*****
وحين تحدثت الحاجة عن الاجتياحات التي لم تتوقف لمخيم جنين؛ اعتبرت أن الاجتياح الأصعب كان عام 2002؛ حين حاصر وطوَّق جيش الاحتلال الإسرائيلي المخيم، عبر المروحيّات العسكرية، والدبابات، والجرّافات، وقطع عنه الماء والكهرباء عشرة أيام متواصلة، وفرض منع تجول، ومنع وصول سيارات الصليب الأحمر، وأي مساعدة طبية أو إنسانية، ودمَّر البنية التحتية للمخيم، وهدم المنازل؛ الأمر الذي تسبَّب في تهجير المئات من المخيم.
روت خضرة عن هدم بيتها ضمن البيوت التي هدمها الجيش، بعد قصف المخيم، حتى أنها اضطَّرّت لاستئجار بيت هي وامرأة أخرى، مدة سنتين، لحين إعادة بناء بيتها.
وتحدَّثت عن عملها مع نساء المخيم لتدبير الطعام لعائلتها ولعائلات أهل المخيم، وقالت: “أموت فدا الشباب” في عبارة دالة على موقفها من الشباب، الذين يصدّون العدوان، وينتصرون لكرامتهم الشخصية والجماعية.
*****
وعن اجتياح المخيم في تموز 2023، حكت الحاجة عن نزوحها من بيتها إلى بيت ابن أخيها، بعد أن قصف الجيش البيت المجاور، وبعد أن دمَّر منزلها؛ حيث دخل من النوافذ، وقام بتكسير الأثاث، وقصف الحوائط.
ولم يسلم بيت ابن أخيها من الدمار، كما لم يسلم هو وعائلته من الاعتداء المباشر؛ إذ هجم كلب مكمَّم كان يرافق الجيش على أطفاله، ومن بينهم طفل رضيع، وحين حاولت منعه؛ هجم عليها وعضَّها بيدها، ما استدعى ذهابها إلى المستشفى للعلاج.
*****
“شعب واحد ومصير واحد”.
كان لافتًا ومؤثّرًا وملهمًا انطلاق شاحنات المساعدات، والمواد الغذائية، من قرى وبلدات جنين، والمدن والقرى المجاورة، لإغاثة مدينة جنين ومخيمها، وانطلاق الجرّارات الزراعية، والشاحنات، والجرّافات (فزعة الجرّافات)، بمبادرات فردية، لترميم ما يمكن ترميمه من الشوارع، والبنية التحتية المدمَّرة، بالتعاون مع طواقم البلدية، والمحافظة، والدفاع المدني، والقطاع الخاص، وعدد كبير من المتطوّعين.
وإذا كان الشعب الفلسطيني، قادرًا على ترميم الشوارع، وبناء البيوت، والمؤسّسات والمرافق الحيوية، وإعادة بناء البنية التحتية لمدن ومخيمات فلسطين، كلما دمِّرت؛ أفلا يمكن لهذا الشعب الجبار النهوض لإعادة ترميم الوضع الذاتي الفلسطيني لأبنائه وقواه الحيّة؛ حيث رصّ الصفوف، لإعادة بناء الكيان الجامع للشعب الفلسطيني؛ منظمة التحرير الفلسطينية؟ حتى يمكنه التصدّي بقوة وثقة للتحديات الكبرى التي تعترض طريقه ضمن استراتيجية وطنية تحررية؟

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

11 + ثلاثة عشر =