ككل عام، عاد … / د. سمير أيوب

د. سمير محمد ايوب ( الاردن ) – الأحد 15/9/2024 م …




 
بعد اسبوع من غياب رجراج في احدى قرى غورالاردن، جاءتني للمكتب
يتقدمها عبق فواح وشوق شقي، بادرتني وأصابعها بدلال تعبث بشعرها: ما بك ساهما يا أخا العرب؟ من هي التي تشغلك الان عني؟! أهي اكثر مني جمالا وشبابا؟!
تبخر قلقي وسقطت بعض حواجزه الصلبة، وسمعتني اهمس وانا اعانقها: لا تذهبي بعيدا، منذ استوعبتُ وجودَنا معا، بِتِّ كل جمال وحب، مقيم بين الصدر والراس. وباتت ايدي كل من حولي من نساء مشلولة.
مدت ذراعها الى كتفي وربتت، وخلتها تربت بيدها على قلبي، تَمْتمتْ وهي تحدق في عيني: بحسابات السنين وتداعياتها، التي تطوف معي ليل نهار ولا يخطؤها بصر، وفرت الكثير علي من التبرير، أعرف أن بعضي قد
تورط في مأزق الكبر حد الافراط أكثرمن غيره، مثلك يا شيخي المتصابي الذي احبه على طريقتي، دون مبالغة في الاطمئنان أو في التمردعلى نفسي التي باتت تعرف جيدا الطريق الى بيوت التجميل.
في ابتسامة تخالطها بقايا تنهيدة تابعت تقول: ليلة البارحة عند المنتصف، وأنا أدخل فراشي، داهمتني نوبة شوق لك، فأخذتك معي وحاولت النوم، أبقاني الحنين عائمة في نوم يقظ يشبه اليقظة النائمة، لم يكن حولي فيها سواك والشوق، وهو كما تعلم قديم وبكل الأبجديات.
منذ تعارفنا قبل سنوات، تعاقدنا على الفور.لا أذكر عدد السنين بالتحديد،وأنا لا أعلم كيف دخلت قلبي من كل حدب ومن كل صوب، وجعلتني اتعلق بك، كل ما اعرفه أقوله لك بلا كبرياء، لو كان لي الآن، الف قلب ساحبك بها وحدك، الف مرة.
قلت وانا احتضن كفيها معا واحدق في عينيها: سبق وأن أخبرتك، أن الحب
امراة وفية يا سيدتي. واخبرتك في حينها ان من كان بالامس البعيد، وسط كل المخاطر يسعدني، كان بالمرض اللعين قد غاب، غيابا فاز فيه الوجع. غياب أخذوا فيه قليلها، الى هناك، أخذوا ما تبقى من جسد نهشه بلؤم ذاك
المرض اللعين. اخذوا عينيها وشعرها ومبسمها، واخذوا قامتها، وبقي منها
الكثير معي. إنكفأ بعضي على ما تبقى من بعضها يدثرني ويزاحم اوجاعي
، كنت مع كل شهقة هواء اتنفسها ، فهوائي كان مشبعا بها.
طال غيابها، والفقد ما قل، ولا خفتت قسوته. وبقيت عاجزا عن منع نفسي
منها وصد قلبي عنها. اعتكفت مع الحد الادنى من التشويش صرت روحا لا تميل لشيء، قدر ميلها للابتعاد عن كل شيء، تائها بين حلم لم يكتمل،
واقع لم يعد يحتمل.
كنت في قلب النسيان أظن ان لا تلاقيا. ولكن ذات ليل بارد بدا غريبا علي، أغمضت عيني كي استولدها من قسوة الفقد، على غير موعد باغتني طيفك كالحلم، وتهادى وجهك كالخرافة، باهتا دون صوت وبلا ملامح كثيرة. دارت عيناي في محجريهما اكثر من دورة، وأنا أتابع طيفك في كل مكان بنظرات عاتبة متسائلا: متى تتجسدين، متى أراك تُنهين ضياعي؟!
والشباب قبل عقدين كُثرٌ حولَك، غمزتِ لي، ابتسمتِ ووصلني همسك راجفا. أعطيتُ ظهري لعتبي على أقداري، واتخذتُ طريقا إليك. تقدمتُ في اتجاهك واقتربت. وبلا شفاعة من شيء، إنهمر من كل النوافذ صوت لبق، ظل وسيما وبلا أطر يجيء. ومع انتهاء إحدى موجاته، سمعت طرقا على أبوابي، فلم أعد أُطيق. وقبل أن يرتد إلي سمعي، تسلَّلْتِ ليَّ من أصدافي. ورغم كل الحواجز، قررتُ أن لا أبالي، وأنا أتحرر من ذاكرتي. وما أن هتفتِ لي، أفقت مطمئنا وتغلبت على المنفى، تقدمت وصافحت طيفك بلا سابق معرفة، وإن كنت من زمن، منتظرا تلك اللحظة.
ما بين طرفة عين وانتباهتها، هتفتِ من البعيد. وحين اقتربت تكاملت ملامحك. واتسع مداك. وحين لامستك عيناي لأول مرة، انبهرَت بما تكشف لها من نضج. ولا أخفيك أنني اجتهدت في مقاومة يأسي، وأنا أتسلل وراء جاذبيتك، وبعد فترة صمت تماسكتُ ملهوفا، استعدت نفسي، ودون أن أبذل جهدا استثنائيا سألتك: أين كنتِ، لقد انتظرتك كثيرا؟!
منذ اهتدينا في ذلك اليوم، التصقنا ولهونا معا. مرت سنوات دون أن نتباعد إلا نادرا. كنا في سباق إلى كل ثنيَّةٍ من ثنايا اهتماماتنا، استرقنا السمع الى كل مشترك، نوسع فيه مساحات مكاشفاتنا، نشذبها ونهذبها قدر ما نحتاج.
قلت وأنا أمد ذراعاي على اتساعهما في عناق حيي، كنت طيلة اسبوع مضى قد اضعت الكثير مثله: أسقِطي بذكاء حرَجَك، والتردد الذي يحاصرك، وككل امرأة تحب هيا انفردي بنفسك، فأجمل ما في المشاعر دبيبها، الذي بعد دهر كسر صمتا مدللا استطال أكثر مما يجب.
نهضتُ واقفا مُتكئا على عصاي، قلت ونحن نتبادل نظرات الفرح، ونربط
أحزمة الأمان في سيارتها، لا تتجاوزي السرعات المحددة، ولا الاشارات
الحمر، فنحن الآن في الطريق للإحتفاء وحدنا بعيد ميلادك .
ضجت السيارة بعيون ضاحكة بصدق، أكثر من شفاهٍ تُرتل طقوسا
خاصة من الحب، قبل ان نسارع بالوقوف، عند اول اشارة ضوئية حمراء في طريقنا الطويل إلى عمان.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

واحد × واحد =