تونس – عن الأوضاع بعد 2010  … الجزء الأول من ثلاثة أجزاء / الطاهر المعز


الطاهر المعز ( تونس ) – الإثنين 7/10/2024 م …




مقدّمة

جرت انتخابات رئاسية يوم السادس من تشرين الأول/اكتوبر 2024، بمشاركة ثلاثة متنافسين، أحدهم في السجن، وجرت الإنتخابات في ظل مناخ وصفه المُعارضون بالقَمْعِي بفعل تقلّص أو إلغاء المكتسبات الدّيمقراطية، من بينها تجريد المحكمة الإدارية من صلاحياتها في النزاعات الإنتخابية وحل المجلس الأعلى للقضاء، وإلغاء الضّوابط القانونية وأجهزة الرقابة المُؤسّسية، وفصل عشرات الموظفين، من بينهم قُضاة، واعتقال سياسيين مُعارضين وإعلاميين، باسم محاربة الفساد…   

عند مقارنة انتخابات 2024 بانتخابات السنوات التي أعقبت الإنتفاضة، حتى سنة 2019، نلاحظ انخفاض نسبة المُشاركة ( استفتاء على الدستور الجديد وجولة الإعادة لانتخاب البرلمان الجديد وانتخابات السادس من تشرين الأول/اكتوبر 2024 ) بفعل عدم وُضُوح الرّهان أو غيابه وغياب التنافس بين برامج أو مقترحات مختلفة لمستقبل البلاد، وبسبب انتشار الغضب والإستياء من الوضع الإقتصادي ( شُحّ السلع المدعومة وارتفاع أسعارها، وانقطاع الكهرباء والمياه…) واستمرار الفساد والرّشوة، وتدهور الوضع المالي للدّولة، رغم ارتفاع عائدات السياحة والمُغْتَرِبِين ورغم الدّعم المالي الأوروبي، مقابل حراسة الحدود ومَنْع تدفُّق فُقراء إفريقيا بحثًا عن عمل في أوروبا.

أما نتيجة الإنتخابات فهي غير مُهِمّة في حد ذاتها ولذلك فإن الفقرات الموالية لن تتطرّق إلى الإنتخابات، بل تُركّز على الوضع الإقتصادي وعلى مدى التّغيير الذي حصل منذ انتفاضة 2010/2011، أو ماذا تحقّقَ من مطالب مواطني المناطق المحرومة التي أطْلقت انتفاضة كانون الأول/ديسمبر 2010 والإنتفاضات التي سبقتها، من “انتفاضة الخُبْز” بنهاية 1983 وبداية 1984 إلى سيدي بوزيد 2010، مرورًا بانتفاضات الحوض المنجمي وبنقردان وغيرها…

سيادة منقوصة

كان استقلال تونس، مثل معظم بلدان إفريقيا، شكليا، واستمرت الهيمنة الفرنسية ثم الأمريكية على البلاد، ولذلك كان نظام الحُكْم مُنحازًا للإمبريالية، وساند الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ( 1903 – 2000) الذي حكم طويلا، من 1956 إلى 1987، التّدخّل العسكري الأمريكي في لبنان سنة 1958، وساند العدوان الأمريكي على شعب فيتنام وكان مُعاديًا لفكرة القومية العربية ووحدة شعوبها، ودعا مُبَكِّرًا إلى تقسيم فلسطين والإعتراف بالكيان الصّهيوني، ولم يتغيّر الأمر بعد بورقيبة، ولا بعد زين العابدين بن علي…

تغيَّر شكل الحكم بعد انتفاضة 2010/2011 فأصبح برلمانيا، بين 2012 و 2021 وسيطر ائتلاف يقوده الإخوان المسلمون على أجهزة السّلطة لفترة عشر سنوات كانت ثقيلةَ الوَطْاَة على الكادحين والأُجَراء والفُقراء وعلى اقتصاد وموارد البلاد التي نهبها الإخوان المُجْرِمون باسم المَظْلُومية وباسم تعويض ما فات، فلم يتغير الوضع الذي ثار ضدّه المواطنون، بل ارتفعت البطالة والفقر والأمّيّة، وارتفعت الدّيون الخارجية واستمرت الخصخصة وتدهور مستوى الخدمات…

تتناول هذه الورقة موضوعَيْن يُعتبران مقياسًا لأي تغيير سياسي واجتماعي فِعْلِي، أوّلهما الميزانية السّنوية للدّولة التي تُعْتَبَر معيارًا أَفْصَح من عشرات الخطابات حول “تحسين مستوى معيشة المواطنين” أو “السيادة الإقتصادية” وما إلى ذلك، وثانيهما العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة وتونس، وهي أفْصَحُ من عشرات الخُطب حول “دعم الشعب الفلسطيني” أو الإستقلال و”سيادة القرار الوطني” وما إلى ذلك.

الوضع الإقتصادي

يتحدّث الرئيس التونسي عن “استقلالية القرار” وعن “السّيادة” وعن “رَفْضِ إملاءات صندوق النّقد الدّولي” وشُرُوط قَرْض بقيمة 1,9 مليار دولار، لكن حكومته تُطبّق مُعظم الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدّولي والدّائنون بشكل استباقي، وتُطبّق نفس النمط الإقتصادي السّائد منذ سنة 1970…

خلقت ظروف العيش الرديئة والبطالة والفقر والتّخلّي عن القطاع العام الظروف الموضوعية لانتفاضة 2010 – 2011 (في تونس كما في مصر ) وأظْهَرت هذه الإنتفاضة قُدْرَة المناضلين من اليسار النقابي والسياسي على التنظيم والتّعبئة و”الإنصهار” في صفوف الفئات المحرومة من الشعب، وأظْهرت كذلك عَجْز قيادات هذا اليسار وقيادات المنظمات والأحزاب التقدمية عن طَرْح بديل يُؤَدِّي إلى القَطِيعَة مع خيارات النّظام الإقتصادية والإجتماعية التي سادت منذ 1956، وبَرَزَ ضُعْف القوى التقدمية والثورية التي لم تكن قادرة على تأطير الانتفاضة وطرح مشروع سياسي بديل، فتمكنت البرجوازية الكومبرادورية المحلية، بدعم من القوى الإمبريالية وحلفائها في المنطقة، من الالتفاف على الانتفاضة وتحويل وجهتها، ونجحت بذلك المؤسسات المالية الدولية والقوى الإمبريالية والتحالف الطبقي الحاكم من استمرار الإستغلال والإضطهاد والهيمنة والحفاظ على مصالح الإمبريالية باسم الدّيمقراطية، ولم يتم تطوير الإنتاج – كخطوة في طريق الإستقلالية والسيادة – بل ارتفع حجم الدّيون ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي لتتضاعف خلال عشر سنوات…

ارتفعت قيمة خدمة الدين الخارجي من 6865,6 مليون دينار خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2023، إلى  10144,7 مليون دينار بنهاية شهر آب/أغسطس 2024 ويُشكل الدّيْن الخارجي عبئا ثقيلا على المالية العامة، وبالتالي على المواطنين، فيما انخفض صافي الأصول بالعملة الأجنبية، رغم الإرتفاع الطّفيف لإيرادات السياحة وتحويلات العُمال التونسيين المُغْتَرِبِين، واضطرت الحكومة إلى تخفيض الواردات بالعملات الأجنبية، في ظل انخفاض قيمة الدّينار ( دولار واحد = ثلاث دينارات) مما يزيد من تكلفة السلع والخدمات المستوردة ومن العجز التجاري ومن الضغوط التضخمية ويزيد من تكلفة خدمة الدَّيْن الخارجي، وقد يُودّي تراكم هذه العوامل إلى تعميق الأزمة وإلى تباطؤ اقتصادي طويل الأمد… 

الإلتفاف على الإنتفاضة، محليا ودوليا

تم احتواء الإنتفاضة منذ خروج زين العابدين بن علي من تونس نحو السّعودية، فقد كان جيفري فيلتمان ( مساعد وزير الخارجية الأمريكي، تلميذ ومساعد “بول بريمر” في العراق، والسفير السابق في لبنان) متواجدًا في تونس يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011، وكان من المُقرر أن يبقى بضعة ساعات ولكنه بقي ثلاثة أيام، وشكّل أول حكومة وأشرف على النقاش “الدّستوري” حول تسليم الرئاسة المؤقتة لمحمد الغنوشي (آخر رئيس وزراء زين العابدين بن علي) وانتهى الأمر بتنصيب بعض رموز النظام ( فؤاد المبزع وابن خالته الباجي قائد السبسي ) ومعهم نجيب الشابي وبعض الإنتهازيين، وكانت تلك بداية تخلّي بعض المُعارضة بما فيها اليسارية عن النّفس الثوري الذي رافق الإنتفاضة، وتجلّى ذلك في حل اللجان القاعدية لحماية الثورة والمساهمة في إنهاء اعتصام القصبة، وتجسّد غباء أحزاب اليسار في “دخول الحرب بغير عُدّة” والدّعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي دون مشروع دستور جديد ولا قوة تُمكّنه من متابعة تنفيذ شِعاره…

في الخارج نَسّقت الدّول الإمبريالية مع حُكّام الخليج لتنظيم مؤتمر “دوفيل” (مدينة ساحلية شمال غربي فرنسا) للسيطرة على الوضع في تونس ومصر، واحتواء الإنتفاضات التي انطلقت في بلدان أخرى كاليمن والمغرب، وانعقد اللقاء الأول بعنوان “شراكة دوفيل” (أيار/مايو 2011) على هامش قمة الثمانية (قبل إقصاء روسيا، لتصبح “مجموعة السّبعة”) وجَمَعَ اللقاء المؤسسات المالية الدولية ودول مجموعة الثمانية ودُوَيْلات الخليج وتركيا وتعهد المُشاركون بتقديم “مساعدات” ( هي قُرُوض بشروط مجحفة) تصل إلى 40 مليار دولار إلى “البلدان العربية التي تمر بمرحلة انتقالية” وهي تونس والمغرب ومصر والأردن واليمن، وتتمثل الشروط في  “تقليص دور القطاع العام وتحسين مناخ الإستثمار وخَلْقِ بيئة مواتية للقطاع الخاص وللإستثمارات الأجنبية وتغيير قوانين العمل…”، وهي الشروط التي فَرَها صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي والدّائنون الآخرون منذ ثمانينيات القرن العشرين وأدّت إلى انتفاضات عديدة في المغرب وتونس ومصر والأردن والعديد من بلدان إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية…

مَثّلَ قُبُول الحكومة التّونسية المُؤقّتة هذه الشروط، منذ أيار/مايو 2011، ترسيخًا لسياسة “التّكَيُّف الهَيْكَلي” التي أدّت إلى الإنتفاضة، وتمهيدًا لسياسات حكومة “التّرويكا” التي انبثقت عن انتخابات 23 تشرين الأول/اكتوبر 2011، والتي قبلت شروط “شراكة دوفيل” وشروط صندوق النقد الدّولي مقابل الحصول على قرض بقيمة 1,75 مليار دولارا ( دامت المفاوضات من أيار/مايو 2012 إلى حزيران/يونيو 2013) بشرط خفض دعم السلع والخدمات الأساسية وخفض الضرائب على أرباح الشركات والمُضاربة و”تحرير الأسعار وسوق العمل” وفق ما ورد في وثيقة ميزانية 2013، واستمرت قروض صندوق النقد الدّولي والدول الأوروبية والبنك العالمي والإمارات وقَطَر وتركيا وغيرها، قبل وبعد انتخابات 2014 و 2019 وصاحب كل قرض شرط تنفيذ “إصلاحات” إضافية تتضمن تخفيض قيمة العُملة المحلية، فانخفضت قيمة الدينار التونسي مقابل الدّولار بنحو 52% بين سَنَتَيْ 2011 و2022 أي إن المواطنين يفقدون نفس النسبة من دَخْلِهم إذا لم ترتفع الأجور أو الحوافز والتعويضات بنفس النسبة على الأقل، وتتضَمَّنُ خفض أو إلغاء دعم الغذاء والطاقة، وتجميد الرواتب، أي انخفاض قيمتها الحقيقية بحكم ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الدّينار، وتجميد الإنتداب في القطاع العام (قبل تصفيته) وعدم تعويض المُتقاعدين، وزيادة الضرائب غير المباشرة كضريبة القيمة المُضافة والأداء على الخدمات الإدارية، وترافقت هذه “الإصلاحات” مع احتجاجات المواطنين التي فرضت خَفْضَ وتيرة تنفيذ الشّروط أو تأجيلها، ولئن توسّعت رُقعة الإحتجاجات لتشمل الفئات الهَشّة وصغار الفلاّحين فإنها لم تكن مُنَسَّقَة ولم تتضمّن رؤية سياسية أو رُؤية مُستقبلية تَضْمَن عدم تكرار إجهاض انتفاضة 2010/2011 كما تراجع دور القوى التّقدّمية بعد حل الجبهة الشعبية بسبب خلافات حول المقاعد بمناسبة انتخابات 2019، وسمحت هذه العوامل باستمرار سياسات التّقشّف والخصخصة وخفض قيمة الدّينار، بعد فرض الإجراءات الإستثنائية ( 25 تموز/يوليو 2021) واستيلاء جزء من السّلطة على أجهزة الحكومة والبرلمان والإدارة والقضاء والأمن والإعلام، دون تغيير السياسات الإقتصادية، وفقا لميزانيات السنوات من 2022 إلى 2024 التي تُنفّذ شروط الدّائنين من مؤسسات مالية دولية أو الإتحاد الأوروبي واستمرار العلاقات غير المتكافئة التي تُجسّدها علاقات الشراكة مع الإتحاد الأوروبي و “التبادل الحر الشامل والمُعَمّق”…        

تونس بنهاية سنة 2023

ارتفعت قيمة المديونية العمومية بأكثر من 400 % بين سنتَيْ 2010 حيث كانت تبلغ 25,5 مليار دينار أي ما يعادل 40 % من الناتج المحلي الإجمالي، وسنة 2022، حيث بلغت 132,5 مليار دينارا، أي ما يمثل 93 % من الناتج المحلي الإجمالي، وفق بيانات المصرف المركزي التونسي، ويُمثل الدَّيْن الدّاخلي نحو 27 % بينما يشكل الدين الخارجي نحو 73 % من مجموع الدين العمومي، وهي ديُون مُقوّمة باليورو والدّولار والين وغيرها من العملات الأجنبية، وترتفع بذلك قيمة هذه الدّيون كلما انخفضت قيمة الدّينار…

عَمّقت جائحة “كوفيد-19” الأزمة التي كانت قائمة قبل ذلك، ثم انهار الإنتاج الفلاحي بفعل الجفاف، فانكمش الاقتصاد بنسبة 8,8%، سنة 2020، وارتفع العجز التجاري ووصَلَ عجز الموازنة إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت نسبة الدَّيْن العُمومي 80% من الناتج المحلي، وتبحث الدّولة عن قروض جديدة كل سنة مالية لتسديد القروض القديمة وفوائدها المرتفعة، فكانت النتيجة انخفاض احتياطي العملات الأجنبية وعجز الدّولة عن توريد السّلع الأساسية التي كان يمكن إنتاج بعضها محلّيًّا لولا أوامر الدّائنين التي تمنع ذلك، فاختفت بعض السلع الغذائية كالسّكّر والطّحين والحليب والأرز وكذلك الأدْوِيَة، وانتعش القطاع المصرفي الذي حقق أرباحًا بنسبة 13% بفضل القروض التي طلبتها الدّولة بالدّينار

فاق عجز الميزان التجاري (الفرق بين قيمتي الصادرات والواردات) 25% بنهاية سنة 2023، وارتفعت نسبة التضخم من 8,3% بنهاية سنة 2022 إلى 11% بنهاية سنة 2023 ويَتَوَقَّعُ مشروع موازنة سنة 2024 نُمُوّ اقتصاد البلاد (الناتج المَحَلِّي الإجمالي) من نسبة 0,9% سنة 2023 إلى 2,1% سنة 2024 في حال عدم ارتفاع نفقات دعم الغذاء والوقود والكهرباء، وزيادة الضرائب على الفنادق والمطاعم والمشروبات والمصارف و بعض الشركات، وخفض فاتورة رواتب موظّفي القطاع العام ( تجميد التّوظيف وعدم زيادة الرواتب وعدم تعويض المُتقاعدين…) وتستهدف الحكومة خفض عجز الميزانية من 7,7% سنة 2023 إلى 6,6% سنة 2024 رغم زيادة حاجتها إلى القروض الخارجية من 10,5 مليار دينار (3,32 مليار دولار) سنة 2023 إلى 16,4 مليار دينار (5,20 مليار دولار) سنة 2024، وفق مشروع الميزانية، وتسعى الحكومة إلى اقتراض 3,2 مليار دولار، بعد حصولها على قروض بقيمة 1,2 مليار دولارا و حوالي 1,5 مليار دولارا من أربع اكتتابات

لا يَهُمُّ الفقيرَ أو المُعَطّل عن العمل أن يسمَعَ خطابًا جميلاً، بل يُرِيد عَملاً ودَخْلاً يُمكّنه من تلبية حاجياته وحاجيات ذَوِيه، أو – على أقل تقدير – أن لا يفقد الأمل في تجاوز مشاغله وأن تُقَدّم السّلطة مشاريع قابلة للتّمويل وللإنجاز بهدف سدّ الفجوة الطّبَقِية – أو على الأقل تضْيِيقها – وتوفير الوظائف والدّخل المُحترم لكي لا يُغامر الشباب بحياتهم بحثًا عن بعض السّراب في أوروبا، ولكي لا يُغادر ذَوُو الكفاءات بلادهم التي أنفقت الكثير على تأهيلهم 

الوضع خلال سنة 2024، قبل نهايتها

مَرّ شهر رمضان الذي أرهق ميزانية المواطنين بفعل شُحّ السلع الغذائية الأساسية وبفعل ارتفاع الأسعار وانخفاض القيمة الحقيقية للدّخل، وحافظ المواطنون على “تقاليد” صُنْع حلويات عيد الفطر مع بعض التّحويرات المُتمثّلة في تعويض بعض المُكونات مرتفعة الثّمن بأخرى منخفضة نِسْبِيًّا، وبعد أقل من شَهْرَيْن قَمَرِيّيْن ونصف يحل عيد الإضحى ( العاشر من شهر ذي الحجة 144( هجري – 16 حزيران/يونيو 2024) وتبدأ مشقة البحث عن “خروف العيد” قبل ذلك بعدّة أسابيع، في ظل ظروف مالية عسيرة…  

يُقدّر عدد الأضاحي في تونس بنحو مليون خروف سنويا، وتراوحت أسعار الخرفان، قُبيل عيد الإضحى سنة 2023 في أسواق تونس بين 700 و 1400 دينارًا ( بين 230 و 450 دولارا بمعدل الصرف خلال شهر أيار/مايو 2023)، بارتفاع نسبته 26% مقارنة بسنة 2022، بينما تراجع حجم المعروض في السوق من 1,6 مليون رأس غنم خلال السنوات الماضية إلى 1,2 مليون سنة 2024، نتيجة الجفاف المستمر منذ سبعة مواسم، وارتفاع أسعار العلف، والمضاربة والإحتكار، وأدّى ارتفاع الأسعار إلى انتشار دعوات الإحجام عن شراء الخرفان وعن أداء شعائر عيد الإضحى، وقدّر نقيب الجَزّارين ( القَصّابين) إن حوالي 65% من العائلات التونسية لم تتمكن من شراء الأضحية خلال سنة 2023 بسبب غلاء الأسعار التي أدّت شروط صندوق النقد الدّولي إلى “تَحْرِيرها”، ما جعل سعر الخروف متوسط الوزن يتجاوز  1500 دينار (حوالي 500 دولار)، وقد يصل سعر الخروف “المُمتاز” إلى الضِّعْف.

لم تتطور دعوات المقاطعة إلى إدراج الحج ضمنها، حيث يتجاوز إنفاق الحاج الواحد سبعة آلاف دولارا، بالعملة الأجنبية الشّحيحة التي تحتاجها البلاد لتوريد السلع الأساسية والضرورية، وتستفيد أسرة آل سعود الثرية جدًّا من أموال الحج، ثاني مورد للسعودية بعد النّفط، ولا يُسدّد معظم الحجاج ضرائب، فيما يُفْتَرَضُ إنهم أثرياء، تمكنوا من توفير سبعة آلاف دولار، زائدة عن حاجتهم، وما ينطبق على التونسيين ينطبق كذلك على الحجيج من مواطني البلدان العربية والإسلامية. أما التّبرير الدّيني لإلغاء الترخيص بغرض الحج فيتمثل في الآية: “ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا…” ( سورة آل عمران) 

تُمثل مثل هذه المناسبات (رمضان وعيدَيْ الفطر والإضحى وبداية السنة الدّراسية…) مَحطّات مُرْهقة ومُكلفة، ومقياسًا أو مُؤشّرًا لقياس دَخْل الأُسَر ومستوى العيش، لكن المنظمات والأحزاب التّقدّمية لم تهتمّ – عَمَلِيًّا – بالواقع الاجتماعي والاقتصادي، بل انجَرّت – لما سمح لها الوضع بالتّوجّه إلى المواطنين عبر وسائل الإعلام – إلى نقاش عقيم بشأن مسائل الهوية الزّائفة وطغيان القضايا الهامشية مثل “الحداثة” و”العلمانية” و”المُحافظة” وما إلى ذلك من مواضيع تُنَفِّرُ الأغلبية السّاحقة من المواطنين من السياسة، ولم نُقدّم قيادة ائتلاف الجبهة الشّعبية برنامجًا يُعالج قضايا البطالة والفقر والدّيون الخارجية والسيادة الغذائية وغيرها، ويُقدّم مشاريع حلول لمثل هذه القضايا، وغيرها…   

تميّز الوضع قُبَيْل الإنتخابات بما يلي:

يُقدّر الناتج المحلي الإجمالي بنحو أربعين مليار دولارا، في بلاد يبلغ عدد سكانها حوالي 12 مليون نسمة، من بينهم ما بين 1,5 و 2 مليون مواطن يعيشون خارج البلاد، ويُقدّر سعر صرف الدّولار بثلاث دينارات تونسية يوم السبت 05 تشرين الأول/اكتوبر 2024، فيما بلغ معدّل البطالة الرّسمي 16,2% من القادرين على العمل، بنهاية الربع الأول من سنة 2024 وبلغ معدّل التضخم الرّسمي 7% بنهاية شهر تموز/يوليو 2024، وبلغ عجز الميزان التجاري 9,63 مليار دينارً بنهاية شهر تموز/يوليو 2024، وتباهت بيانات الحكومة والمصرف المركزي بارتفاع طفيف في إيرادات السياحة إلى 5,4 مليار دينار (وهو مبلغ ضئيل مقارنة بعدد السائحين وبالكوارث البيئية التي يسبّبها نمط السياحة في تونس) وتحويلات المُغتربين إلى 5,8 مليار دينار إلى غاية 20 أيلول/سبتمبر 2024، مع الإشارة إن إيرادات السياحة تشوبها الضبابية، لأن الحجوزات والدّفع تتم في أوروبا بواسطة شركات سياحية أوروبية تضغط على المحلات السياحية التونسية لخفض الأسعار، مما يضر بالعاملين بهذا القطاع والمُنتجين المحليين الذي يُزودون المنتجعات والفنادق والمطاعم ومتاجر الصناعات التقليدية، وتشير بيانات المصرف المركزي التونسي إن احتياطيات النقد الأجنبي بلغت 25.320.8 مليون دينار يوم الثاني من تشرين الأول/اكتوبر 2024، أو ما يغطي 114 يوما من الواردات، بانخفاض خمسة أيام مُقارنة بيوم الثاني من تشرين الأول/اكتوبر 2023…

أما بخصوص الدّيون فقد سدّدت الحكومة التونسية خلال سنة 2023 ديونا خارجية بقيمة 8,7 مليارات دينار (2,7 مليار دولار) وتمكّنت الحكومة من سداد الديون الداخلية عبر الاقتراض من المصارف المحلية، وسداد الديون الخارجية عبر الاقتراض بالعملة الأجنبية، وتنص ميزانية سنة 2024 على اقتراض 10,3 مليارات دينار (3,2 مليارات دولار) لتمويل توريد حاجات البلاد من المواد الأساسية وسداد الديون، ويؤدّي ذلك إلى خفض واردات السلع الأساسية (بفعل شح العُملات الأجنبية) التي غاب بعضها من الأسواق، وقدّر تقرير المصرف الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية ( EBRD ) بعنوان “الآفاق الغقتصادية الإقليمية”، الصادر الخميس 3 تشرين الأول/اكتوبر 2024، نمو الاقتصاد التونسي بنسبة 1,2% سنة 2024 ( خلافًا لتوقعات قانون المالية لسنة 2024 الذي حدد هدفًا بنسبة 2,1% ) وبنسبة  1,8% سنة 2025 وهي نِسَب ضعيفة في اقتصاد يعتمد على الفلاحة وتصدير المواد الأولية غير المُصنّعة، خلافًا للدّول التي تعتمد على الصناعات والتكنولوجيا ذات القيمة الزائدة المرتفعة، ووجب على الإقتصاد التونسي تحقيق نسبة نمو تزيد عن 6% لاستيعاب الوافدين الجدد على “سوق الشُّغل”، وهو هدف صعب التحقيق في ظل السياسة الإقتصادية الحالية وفي ظل ضُعف الإستثمار، فضلا عن انكماش قطاع التّعدين، وعن الجفاف الذي أدّى إلى انكماش قطاع الزراعة، وفي ظل ارتفاع الدّيُون الخارجية، ولا تبدو سنة 2024 أحسن من سابقاتها، حيث لم تتجاوز نسبة النمو 0,6% خلال النصف الأول من سنة 2024 وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء في تونس ( منتصف آب/أغسطس 2024) التي أشارت إلى تراجع العجز التجاري خلال النصف الأول من العام 2024 إلى 8 مليارات دينار، مقابل 8,6 مليار دينار خلال نفس الفترة من العام 2023، ولا يزال الاقتصاد التونسي يواجه الضغوط التضخمية المستمرة ( تُترجم بالنسبة للمواطنين إلى زيادة أسعار السلع والخدمات الضرورية)، وانخفاض قيمة الدينار، وتقلص السيولة المصرفية، وتزايد أعباء خدمة الدين، وما إلى ذلك من العوامل ذات التّأثير السّلبي على حياة المواطنين. 

معطيات حول التداين

لم يكن للإنتفاضة قيادة أو برنامج أو أهداف متوسّطة وبعيدة المدى، ولذلك تمكّن الحاكمون الجدد من مواصلة السياسات الإقتصادية السابقة، وتكريس التّبعية والإستعمار الجديد من خلال الإقتراض الخارجي وما يُصاحبه من شُرُوط تُؤَدِّي حتمًا إلى تخريب القطاع العام والقطاعات المُنتجة كالفلاحة والصناعات التحويلية وإلى خفض الرسوم على أرباح رأسمال المُضارب والشركات وتوريد السّلع التي يُمكن إنتاجها محلِّيًّا ما يُعمّق عجز الميزان التجاري ويُرسّخ علاقات التّبادل غير المُتكافئ بين أوروبا وتونس، وأدّى اللجوء إلى التّداين الخارجي إلى ارتفاع خدمة الدَّيْن، خلال فترة حُكم الإئتلاف الذي يقوده الإخوان المسلمون ( 2011 – 2022)  قرابة 91,7 مليار دينارا ويعني ذلك تخصيص نحو 27% من نفقات الدولة لتسديد الديون، في ظل تراجع إيراداتها (بفعل خَفْض الرسوم على أرباح الشركات وخَفْض أو إلغاء الرّسوم الجمركية على العديد من البضائع المُسْتَوْرَدَة)، ورفع الضرائب على الأجْر، لترتفع مساهمة الأجراء والموظفين في حجم الضريبة المُباشرة ( على الدّخل) من 34 % سنة 2010 إلى 48 % سنة 2022، كما ارتفعت الضرائب غير المباشرة، وهي غير عادلة لأنها تُساوي بين الفقير والغني…   

تَضاعف حجم الدّيُون الخارجية للبلاد خلال الفترة 2012 – 2021، وهي عشْرِية حُكْم الإئتلافات التي قادها الإخوان المسلمون، وتُشكّل الدّيون عبئًا ثقيلاً على اقتصاد البلاد والمواطنين من الجيل الحالي والجيل اللاّحق، وعلى سبيل المثال، خصّصت الدّولة، سنة 2019، نحو 93 % من الديون الجديدة لتسديد خدمة الديون القديمة، مما يُذكّر بتداين البلاد خلال القرن التاسع عشر والذي أدّى إلى احتلال سنة 1881، ولذا فإن احتمال التخلف عن سداد الديون الخارجية يبقى قائمًا سنتَيْ 2024 و 2025، وأدّى ارتفاع الدّيُون وتوجيه الإقتصاد نحو قطاعات غير إنتاجية إلى تحويل البلاد إلى مُتَسَوِّل يستجدي الدُّيُون بشروط مجحفة، وأعلن الإتحاد الأوروبي يوم 20 كانون الأول/ديسمبر 2023، قرر الاتحاد الأوروبي الإفراج عن مبلغ 150 مليون يورو، في إطار “التعاون المشترك بشأن إدارة الحدود وإجراءات مكافحة التهريب لتخفيض الهجرة غير المنظمة إلى أوروبا” على إثر الزيارات المُتعدّدة لمسؤولي الإتحاد الأوروبي إلى تونس خلال سنة 2023 (رئيسة حكومة إيطاليا جورجيا ميلوني ورئيسة المُفوّضيّة الأوروبية أوروسلا فون دير لين ورئيس الوزراء الهولندي مارك روت…) وتندرج “مكافحة الهجرة غير النظامية” ضمن بنود “الشراكة الإستراتيجية والشاملة” بين تونس والاتحاد الأوروبي الموقعة بتونس بتاريخ 16 تموز/يوليو 2023، وتحتاج تونس إلى السيولة بالعملات الأجنبية لشراء الحليب والطّحين (الدّقيق) والسُّكّر والأرز وغيرها من السلع الأساسية الضّرورية، مع تخصيص جزء كبير من إيرادات الدّولة لسداد الديون التي فاقت نسبتها 80% من الناتج المحلي الإجمالي، ولما عجزت الحكومة التونسية عن الحصول على قُرُوض خارجية، طرحت اكتتابا رابعا خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر لتكملة ميزانية العام 2023 بمبلغ 700 مليون دينار ( 225,33 مليون دولارا ) إضافة إلى 800 مليون دينارأ جمعتها من ثلاث اكتتابات سابقة، خلال سنة 2023، في ظل توقعات بارتفاع نسبة العجز من 5,2% كانت مُتوقّعَة سابقًا إلى 7,7% من الناتج المحلي الإجمالي، وأعلنت الحكومة التونسية إنها تمكنت، بنهاية شهر تشرين الأول/اكتوبر 2023، من سدد 81% من ديونها الخارجية البالغة 20,8 مليار دينار للعام 2023، ونجحت في تسديد أقساط القروض الخارجية، التي حلّ أجلها سنة 2023 رغم تعطّل الإتفاق مع صندوق النّقد الدّولي – وفق بيانات وزارة المالية على هامش مناقشة مشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2023، إمن قِبَل مجلس النّوّاب – وأفضى هذا التعطيل إلى صعوبة الإقتراض الخارجي وإلى زيادة الإقتراض الدّاخلي من المصارف المحلية (وبعضها فُرُوع لمصارف أجنبية) التي بلغت نسبة أرباحها 13% بفعل ارتفاع نسبة الفائدة، ما جعل المصارف من أكثر القطاعات رِبْحيّةً في البلاد بفضل دُيُون الدّولة، وهو ما حصل في لبنان وما أدّى إلى انهيار اقتصادها، ورغم ارتفاع إيرادات تحويلات العمال التونسيين بالخارج والسياحة (التي لا يعرف أحد، بما في ذلك محافظ المصرف المركزي، حجم إيراداتها الحقيقية) توقعت الحكومة، قبل أشهر، أن تصل حاجيات التمويل لسد عجز ميزانية 2023 نحو 23,5 مليار دينار أو ما يُعادل 7,5 مليار دولار، ما يُحتم على الدّولة اقتراض مبلغ يفوق 4 مليارات دولارا من الخارج، فضلا عن ثلاثة مليارات دولارا من السوق المالية الدّاخلية، لتحقيق التوازن المالي سنة 2023، ويتعين على الدّولة أن تُسدّد سنة 2024، ديونا خارجية بقيمة 3,9 مليارات دولارأ، بزيادة حوالي 40% عن سنة 2023، ما يزيد حاجة الدّولة إلى القروض الخارجية، من 3,32 مليار دولارا سنة 2023 إلى حوالي 5,2 مليار دولارا سنة 2024، منها قرض جزائري بقيمة 300 مليون دولار وقرض سعودي بقيمة 500 مليون دولار وقرض من المصرف الإفريقي للتوريد والتّصدير بقيمة 400 مليون دولار، ما قد يرفع حجم الدّين العمومي من 40,8 مليار دولارا سنة 2023 إلى نحو 45 مليار دولار سنة 2024، أو ما يُعادل 80% الناتج المحلي الإجمالي إذا ما ارتفع نمو الإقتصاد (الناتج المحلِّي الإجمالي) من 0,9% سنة 2023 إلى 2,1% سنة 2024 وهي نسبة ضعيفة جدًّا في اقتصاد يعتمد على تصدير المواد الخام، ولا يُحقق قيمة زائدة مرتفعة (مثل تحويل المواد الخام إلى مواد مُصنَّعَة والصناعات عالية الدّقّة والتقنية… ) ولا تُمَكِّنُ من استيعاب الدّاخلين الجُدُد إلى “سوق العمل”، ناهيك عن آلاف المُعَطّلين السّابقين، في ظل تراجع إنتاج القطاع الفلاحي – بسبب الظُّرُوف المناخية والجفاف – من 11% من الناتج المحلي الإجمالي، خلال النصف الأول من سنة 2022 إلى 8,7% خلال النصف الأول من سنة 2023، وتراجع احتياطي النقد الأجنبي من 26,7 مليار دينارا إلى 25 مليار دينارًا بعد سداد الدّيون بنهاية الرّبع الثالث من سنة 2023..

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

19 + عشرة =