الرفيق سعود قبيلات الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني يقدم استقالته
وقال في نص استقالته:
“استقالة واجبة حان وقتُها.. (مقدَّمة إلى اللجنة المركزيَّة للحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ)
الرَّفيقات والرِّفاق الأعزَّاء أعضاء اللجنة المركزيَّة،
تحيَّة طيِّبة وبعد،
فيتصاعد التَّوتُّر في المنطقة والعالم إلى حدودٍ غيرِ مسبوقة؛ واحتمالاتُ وقوعِ حدثٍ دراماتيكيٍ، أصبحت تُحسَبُ بالسَّاعة وليس بالأيَّام والأسابيع..
ومن الواضحِ أنَّ هذه الحربَ الدَّائرةَ الآن.. هذه الحربَ الدَّمويَّةَ البشعةَ، الَّتي يشنُّها الكيانُ الاسرائيلي الهمجيُّ على السّكّان المدنيين في قطاعِ غزَّة وفي لبنان، إنَّما هي حربٌ مصيريَّةٌ سيترتَّبُ عليها الكثيرُ من التَّغييرات الكبرى، سلباً أو إيجاباً، في المنطقة وفي العالم..
وغيرُ خافٍ أنَّ هذه الحربَ، بغضِّ النَّظرِ عن الأهدافِ والغاياتِ المحلِّيَّةِ الَّتي يطرحُها المشاركون فيها، إنَّما هي، موضوعيَّاً، جزءٌ مِنْ حالةِ الصِّراعِ التَّناحريَّةِ على النِّظام الدَّوليِّ بمجملِه.. على بقاءِ النِّظامِ الدَّوليِّ رهينَ القطبيَّةِ الأحاديَّةِ الأميركيَّةِ أو أنْ يصبحَ تعدُّديَّاً..
وهنا، يجبُ أنْ نتذكَّرَ أنَّ الصَّراعَ على النِّظامِ الدَّوليِّ كان دائماً يُحسمُ في هذه المنطقة؛ وأنَّه فيها أيضاً يتظهَّرُ النِّظامُ الدَّوليُّ الجديدُ.
وثمَّة احتمالاتٌ، في هذا الصِّراعِ المحتدمِ الآن، لأن تُمحى خرائطٌ، وتُرسَم خرائطٌ، وتتغيَّرُ أحوالٌ كثيرةٌ على نحوٍ دراماتيكيٍّ..
وفي هذه الأثناء، تُواصلُ شلَّالاتُ الدَّمِ التَّدفّقَ في غزَّة وفي لبنان، بوساطة آلة القتلِ الاسرائيلية الهمجيَّةِ، المدعومةِ من الإمبرياليَّةِ الأميركيَّةِ والغربِ الأطلسيِّ.
يحدثُ هذا بينما يردِّدُ حُكَّامُ الولاياتِ المتَّحدةِ، وحُكَّامُ المراكزِ الرَّأسماليَّةِ الأطلسيَّةِ، كالببَّغاوات، كلامَهم الممجوجَ عمَّا يسمّونَه حقَّ «إسرائيل» في الدِّفاعِ عن نفسِها..
ويحدثُ هذا، أيضاً، وبلادُنا رهينةٌ للمخطَّطاتِ الإمبرياليَّةِ والاسرائيلية، ومهدَّدةٌ بأفدحِ أنواعِ المخاطرِ مِنْ جرَّاءِ وجودِ القواعدِ العسكريَّةِ الأميركيّةِ والأطلسيَّةِ على أرضِها..
وفوقَ هذا وذاك، فشعبُنا يعاني الأمرَّين مِنْ ضنكِ أحوالِه المعيشيَّةِ، ومِنْ مصادرةِ حقوقِه، وتقييدِ حُرِّيَّاتِه، ومنعِه مِنْ أنْ يكونَ سيِّداً في بلادِه، ومِنْ أنْ يكونَ هو مصدرُ السُّلطات، كما ينصُّ الدّستورُ، وكما تقتضي قيمُ العصرِ والحداثةِ وجميعُ لوائحِ حقوقِ الإنسانِ والمواطنِ..
فأين نحن كشيوعيين مِنْ هذا كُلِّه؟
وما لزومُنا.. إذا لم يكن لدينا ما نفعلُه إزاءَ هذا كُلِّه؟
الرَّفيقات والرِّفاق الأعزَّاء،
لقد جئتُ إلى موقعِ الأمين العامِّ للحزبِ الشُّيوعيِّ الأردنيِّ، قبلَ حوالي سنة ونصف، في مناخات وحدة الشُّيوعيين.. جئتُ بنَفْسٍ مفعمةٍ بأحلامٍ كبيرةٍ عن الأشياء الَّتي يمكن أنْ أنجزُها للحزب مع مجموع الرِّفاق والرَّفيقات، وبأملِ أنْ نتمكَّنَ، بوساطة الحزب، مِنْ عملِ شيءٍ لنصرةِ قضيَّةِ شعبِنا وبلدِنا.
لكن، منذ اليوم الأوَّل، تبيَّن لي – مع الأسف – أنَّ تحقيقَ أيٍّ مِنْ هذه الأحلامِ إنَّما هو على درجةٍ كبيرةٍ من الصُّعوبةِ والتَّعقيدِ ويعترضُه الكثيرُ من العقبات.
ثمّ وجدتُني، كأمين عامّ، معلَّقاً في الهواء، على رأسِ حزبٍ مشلولٍ ومعطَّلٍ.. حزبٍ بلا هيكلٍ تنظيميٍّ يربطُ بين أعضائه، ويفعِّلُهم، وينسِّقُ أفعالَهم، ويؤهِّلُهم للتَّصدِّي للمهامّ الكبيرةِ.. المهامِّ الوطنيَّةِ والاجتماعيَّةِ الاقتصاديَّةِ الملقاةِ على عواتِقِهم؛ ووجدتُ أنَّ عددَ الرَّفيقات والرِّفاق الفاعلين، الَّذين يمكن الرّكونُ إلى تكليفِهم بأداءِ مهامّ حزبيَّة، قليلٌ جدَّاً.
ومهما فعلتُ، لم أتمكَّن مِنْ حلِّ أيِّ معضلةٍ مِنْ هذه المعضلات.
وفي النِّهاية، دخلنا في طريقٍ مسدود: أنا كأمين عامّ، ونائب الأمين العامّ، وأعضاء في المكتب السِّياسيّ؛ وفشلتْ كُلّ المحاولاتِ لإيجادِ آليَّةِ عملٍ مناسبةٍ ومتَّفقٍ عليها بيننا، ولم تتوفَّر حتَّى أدنى إمكانيَّة لأيِّ نوعٍ من الحلولِ الوسط، وجرى الدَّفعُ باستمرار باتِّجاه التَّصعيد والحلول الفئويَّةِ الحاسمةِ.. الحلولِ الَّتي مِنْ شأنِ إنفاذِ أيٍّ منها أنْ يقودَ إلى تمزيق الحزبِ ودمارِه وليس إلى حلِّ مشاكِلِه العالقةِ.
ولا أريدُ أنْ أخوضَ هنا في التَّفاصيل، فقد سبق أنْ خضنا فيها كثيراً.. بلا فائدة؛ كما أنَّه ليس مهمّاً الآن الاستمرارُ في التَّلاومِ وتبادلِ الاتِّهاماتِ وتبرئةِ النَّفسِ وإلقاءِ المسؤوليَّةِ على الغيرِ؛ فهذا لن يحلَّ أيَّ مشكلةٍ من المشاكلِ ولن يغيِّرَ واقعَ الحال.
أمَّا الحكمُ على أفعالِنا، فسيكون لأبناءِ شعبِنا وللتَّاريخِ. وأنا على ثقةٍ بأنَّهم سيحاكموننا، وسيدينون منَّا مَنْ يدينون ويبرِّئون مَنْ يبرِّئون. وفي كُلِّ الأحوال، أنا قابلٌ بحكمهم، ومطمئنٌّ إليه.
الرَّفيقات والرِّفاق الأعزَّاء،
للخروجِ مِنْ هذا الوضعِ العقيمِ، سبق أنْ طرحتُ، قبل أشهر، وبالتَّحديد في آخرِ اجتماعٍ للِّجنةِ المركزيَّة، مبادرةً تدعو إلى استقالةِ الأمين العامّ، ونائبِ الأمين العام، وأعضاءِ المكتب السِّياسيّ، وطلبتُ أنْ يلتزمَ كُلٌّ منَّا بعدمِ ترشيح نفسِه لأيِّ موقعٍ في القيادةِ الجديدةِ، وأنْ تُنتَخَبَ قيادةٌ جديدةٌ كاملة؛ فنحن فشلنا؛ وإذا كان لدينا حدٌّ أدنى من الشُّعورِ بالمسؤوليَّةِ والقيمِ النَّبيلةِ، فأقلّ ما يجبُ أنْ نقومَ به هو الاستقالة، لنمهِّدَ الطَّريقَ أمام انتخابِ قيادةٍ جديدةٍ، لعلَّها تنجحُ في ما لم ننجح فيه.
لم تُقبلْ مبادرتي، تلك، مع الأسف؛ ثمّ أخذنا هدنةً قصيرةً في فترةِ الانتخاباتِ النِّيابيَّةِ، وقد تعاونتُ بإخلاص مع كُلِّ مَنْ عمل بإخلاص مِنْ أجل إنجاحِ قائمتِنا، وبذلتُ كُلَّ جهدٍ ممكن لتأمينِ فُرَصِ النَّجاحِ اللازمةِ لها؛ ورغم أنَّها لم تفزْ بأيِّ مقاعد نيابيَّة، إلَّا أنَّ النَّتائجَ الَّتي أحرزتها، برئاسةِ رفيقِنا الدّكتور حيدر الزَّبن، كانت مشرِّفةً وتمثِّلُ، بحدِّ ذاتها، نجاحاً كبيراً.. خصوصاً مع الظُّروفِ الصَّعبةِ الَّتي مرَّ بها تشكيلُ القائمة، والإمكاناتِ الماليَّةِ المحدودةِ جدَّاً الَّتي رُصِدَتْ للحملةِ الانتخابيَّة، والعددِ المحدودِ من الرَّفيقات والرِّفاق الَّذين نشطوا في الحملةِ الانتخابيَّة.
وآنذاك، تشكَّل لديَّ أملٌ، بأنَّ العملَ المشتركَ النَّاجحَ في الحملة الانتخابيَّة يمكنُ أنْ يكونَ درساً مفيداً لنا جميعاً، وأنَّه يمكنُ أنْ يُقرِّبَ بيننا، ويجعلَ بعضَنا يفهمُ بعضَنا الآخر، وينقلُنا إلى حالةٍ إيجابيَّةٍ تشجِّعُنا على إعادةِ النَّظرِ في وضعِنا السَّيّئِ السَّابق، وإزالةِ التَّوتّرِ مِنْ علاقاتِنا، وإيجادِ أساليب ووسائل عمليَّة مبتكرة لحلّ مشكلتنا التَّنظيميّة.. بما يؤدِّي إلى إنقاذ الحزب من الشَّللِ والتَّآكلِ اللذين هو فيهما.
لكن، مع الأسف، ما إن انتهت الانتخابات، حتَّى عاد جدولُ الأعمالِ القديم، جدولُ أعمالِ الأزمةِ والتَّأزيم، إلى واجهةِ الصَّدارة؛ ودارتْ ماكينةُ التَّعبئةِ، والتَّحريضِ، والشَّيطنةِ، وتزييفِ الوقائعِ والحقائقِ، مِنْ جديد، وبأشدِّ ممَّا كانت عليه في السَّابق وأوسع، والوضعُ عموماً لا يبشِّرُ بخير.
الحلولُ النَّاجعةُ، الحلولُ الَّتي تنسجمُ مع جوهر عمليَّةِ الوحدة، ممكنةٌ جدَّاً وبسيطةٌ، ويُفتَرَضُ أنْ لا يخسرُ بها أحد؛ لكنّ البعضَ يرفضُها رفضاً قاطعاً، لأنَّ مصالحَهُ الفئويَّةَ الضَّيِّقةَ أهمُّ لديه مِنْ مصلحةِ الحزب وقضيّته الوطنيَّة والقوميَّة والأمميَّة؛ ولذلك، فإنَّه يُفضِّلُ أنْ يتَّجهَ إلى الحسم، معتقداً أنَّ ذلك سيمكِّنه من الهيمنة المنفردة على الحزب.. حتَّى لو على حُطام!
الرَّفيقات والرِّفاق الأعزَّاء،
نحن نلفُّ وندورُ في دائرةٍ مغلقةٍ؛ وما دمنا مستسلمين لهذه الحالةِ العبثيَّةِ، فلا سبيلَ للوصولِ إلى أيِّ حلٍّ أو مخرج.
وبناء عليه، وانطلاقاً مِنْ شعوري بالمسؤوليَّةِ تجاه الحزب، وتجاه رفيقاتٍ ورفاقٍ أعزَّاء تكرَّموا عليَّ بمنحِ ثقتِهم الغاليةِ لي، وتجاه أصدقاء ومواطنين متعاطفين مع هذه التَّجربة الَّتي خضناها، ولأنَّني تحمَّلتُ المسؤوليَّةَ في ظروف وحدة الشُّيوعيين وساهمتُ بإنجازِها بفعاليَّة ولا أُريد أنْ أتحمَّل المسؤوليَّةَ عن توجُّهاتٍ وخططٍ خطيرةٍ تتصدَّرُ الآن.. توجُّهات وخطط أرى أنَّها ستضربُ هذه الوحدةَ في الصَّميم وستدمِّرُ الحزب وتخرجه مِنْ ساحة العمل السِّياسيّ، فإنَّني سأُبادر بالقيام بما يتوجَّب عليَّ القيام به إزاء هذا الوضع. وأقلّ ما يجب أنْ نفعله، في هذه الحالة، كقيادة، هو أنْ نقدِّمَ استقالاتِنا مِنْ مواقعِنا، وأنْ نخلي السَّاحةَ لانتخابِ قيادةٍ جديدة.
والحال هذا، فأنا، قبل أنْ أطلبَ مِنْ غيري، أبدأ بنفسي، فأُعلنُ استقالتي مِنْ موقعي كأمين عامّ للحزب، وأتقدَّمُ بها إلى اللجنة المركزيَّة، راجياً قبولها..
وللرِّفاق الآخرين: نائب الأمين العامّ، وأعضاء المكتب السِّياسيّ، أنْ يقرِّروا بأنفسِهم الموقفَ الَّذي يرونَه مناسباً في إطار قيمِهم وأخلاقِهم وشعورِهم بالمسؤوليَّةِ وتعبيرِهم عنها.
عندما تصلُ قيادةٌ ما إلى طريقٍ مسدودٍ، وتفشلُ في إيجادِ الحلولِ المناسبةِ، فإنَّه لا يمكنُ لأحدٍ فيها أنْ يتنصَّلَ من المسؤوليَّةِ عن هذا الفشل؛ ولذلك، فأقلُّ واجبٍ يقعُ على عاتقِ مثلِ هذه القيادةِ، في مثلِ هذه الحالةِ، هو أنْ تمتلكَ الشَّجاعةَ لتبادرَ بتقديم استقالتِها مِنْ مسؤوليَّاتِها القياديَّة؛ وهذا يقتضي أيضاً، أدبيَّاً وأخلاقيَّاً، أنْ يمتنعَ كُلُّ عضوٍ في القيادةِ المستقيلةِ، مِنْ تلقاءِ نفسِه، عن إعادةِ ترشيحِ نفسِه لأيِّ موقعٍ مِنْ مواقع القيادةِ الجديدةِ.. اللهمَّ إلَّا إذا كان يعتقدُ أنَّه فريدُ نوعِه، ولا يمكنُ استبدالُه!
وفي هذا السِّياق، وانطلاقاً مِنْ شعوري بالمسؤوليَّةِ والتزامي الأدبيّ والأخلاقيّ، فإنَّني أُعلنُ بأنَّني لن أُرشِّحَ نفسي لأيِّ موقعٍ في القيادةِ الجديدةِ.
وفي المقابل، فإنَّني أعِدُ بأنْ أكونَ حاضراً، دائماً، في جميعِ ميادينِ النِّضالِ الوطنيِّ والقوميِّ والأمميِّ.. كما كُنتُ دائماً، في كُلِّ الأحوالِ والمراحل..
أمَّا ما الَّذي قدَّمتُه وما الَّذي غيَّرتُه، خلالَ مُدَّةِ تبوُّئي القصيرةِ لموقعِ الأمينِ العامّ للحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ، وخصوصاً رغمَ الظُّروفِ الصَّعبةِ الَّتي وُضِعتُ فيها طوالَ الوقتِ، فلا أُريدُ أنْ أُفصِّلَ وقائعَه، أو أنْ أُدافعَ عن نفسي في هذا المجال؛ بل أتركُ الحكمَ على ذلك للنَّاس وللتَّاريخ..
في الختام..
أتقدَّمُ، سلفاً، بتمنِّياتي بالتَّوفيقِ للقيادةِ الجديدةِ.. هذا في حالِ قُيِّظَ للحزبِ أنْ يحظى بقيادةٍ جديدةٍ.. قيادةٍ جديدةٍ حقَّاً..
ها أنا قد أزحتُ نفسي بنفسي عن الطَّريق، فآمل أنْ تَصلُحَ أوضاعُ الحزبِ بهذا وتصبحَ أفضل..
«ولتنعموا بالسَّعادة»! كما قال ماياكوفسكي.. أشكركم على حُسْنِ استماعكم، وأطيب تمنِّياتي لكم”.