التكنولوجيا والإيديولوجيا / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأحد 27/10/2024 م …
ارتفع عدد محطات الإذاعة وقنوات البث التلفزيوني في العالم، منذ حوالي ثلاثة عُقُود، بالتوازي مع الهيمنة الأمريكية شبه المُطْلَقَة، ولم تقترن هذه الزيادة بتطوّر نَوْعِي، كزيادة البرامج التاريخية والثقافية وتوعية المواطنين بقضايا الإقتصاد والبيئة والإنفتاح على حضارة وواقع الشّعوب الأخرى الخ، وأصبحت اللغة فقيرة جدًّا وانتشرت عندنا – في البلدان العربية – الكتابة باللهجات المَحلّية، مما يُضَيّق مجال الإتصال، وغابت الإشارة إلى الوطن العربي ووحدة المصير، بل سادت اللامُبالاة أمام الإبادة والقتل الجماعي للشعوب العربية، واستَبْدَلَ المواطنون العرب عبارة “الوطن العربي” بعبارة “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” و”الشرق الأوسط” من ابتكارات الإستعمار البريطاني، مما يعني إن أوروبا هي مركز العالم وتتحدّد الإتجاهات انطلاقًا من أراضيها…
ضعفت الأحزاب السياسية وكثرت انقساماتها الدّاخلية، وضعفت النقابات العُمّالية، مقابل انتشار المنظمات غير الحكومية، وخصوصًا في البلدان الفقيرة والتي تعاني من الحروب العدوانية الإمبريالية أو من الحروب بالوكالة، بذريعة “مكافحة الإرهاب” أو لِنَشْر الدّيمقراطية وما إلى ذلك من تِعِلّات، وغابت المقالات الرّصينة التي تشرح أسباب وخلفيات هذه الحروب، منذ تفتيت يوغسلافيا وتدمير العراق، خلال العقد الأخير من القرن العشرين…
تتضمّن الفقرات التالية جانبًا من هذا “التّوحيد القَسْرِي” لِلُغة الإعلام، وخلفيته الإيديولوجية، ومُطاردة أي صوت “نشاز”، مُخالف لصوت القطيع الذي تم تدْجينه وتَعْلِيبُه في الثّكنات الإعلامية (والإستخباراتية) الأمريكية، وأظْهَر القمع العنيف لاحتجاجات أوروبا وأمريكا الشمالية ضد الهمجية الصهيونية ( التي تدعمها الإمبريالية الأمريكية والأوروبية) العلاقة بين الإعلام الرّسمي الذي يدّعي إن الكيان الصهيوني في “حالة دفاع عن النّفس” ومن يُعارض عُدْوانه يُعتَبَرُ “مُعاديا للسامية” ( أي عُنصري مثل ألمانيا النازية) وقسم من المواطنين الذين يعتبرون القصف والتّدمير والإبادة “جرائم ضدّ الإنسانية”، ولما لم تنفع الدّعاية – بواسطة الإعلام السّائد – لجأت دول مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا إلى القمع السّافر وإلغاء الحريات الأساسية مثل حرية الرأي والتعبير والتّظاهر الخ…
باسم الدّيمقراطية: الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية أداة رقابة وتضليل إعلامي
صمّمت الولايات المتحدة – باعتبارها زعيمة الرأسمالية – خطّة للحفاظ على الأيديولوجية المهيمنة التي يُعْتَبَرُ الإعلام السائد أهم مُرَوِّجِيها، وتمثلت إحدى فقرات هذه الخطّة الأمريكية في ابتكار شعار “مكافحة المعلومات المُضَلِّلَة”، وكانت مواقع مثل “ويكيليكس” ومؤسسها “جوليان أسانج” من أَشْهَر ضحايا هذه الخطة، حيث قضى 14 سنة في السّجون لمجرّد نَشْر ملايين الوثائق الأصلية – وثائق حقيقية غير مُزَيّفة – المُسَرّبة، كما لاحظ مُستخدموا وسائل الإتصال زيادة الرّقابة وحذف أي محتوى يرتبط بفلسطين أو المقاومة، على سبيل المثال، وإغلاق العديد من الحسابات لفترة مُحدّدة أو نهائيًّا، كما لاحظ الجميع حدّة القمع التي تعرّض لها أي مُعارض للمواقف الرسمية الأمريكية والأطلسية والصهيونية بمناسبة العدوان الذي لا يزال مستمرًّا (يوم 25 تشرين الأول/اكتوبر 2024) ضد الشعوب العربية والإيرانية، وتَعْرض الفقرات الموالية نموذجًا للبرامج الأمريكية الرّسمية التي تم تصميمها وتطبيقها بهدف إخماد أي صوت مُعارض للإمبريالية الأمريكية وشركاتها العابرة للقارات، بذريعة “مكافحة الأخبار الزائفة والمعلومات المُضَلِّلَة”.
للوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية – USAID – ( مؤسسة حكومية) تاريخ طويل من التّعْتيم الإعلامي والتّضْليل الإيديولوجي والترويج للمعلومات المضللة لدعم مصالح الولايات المتحدة، ولم تنته عملية التّضليل بانهيار الإتحاد السُّوفييتي، ونهاية الحرب الباردة ( التي لم تنته في الواقع وإنما تغيرت وسائلها وتوسّعت رُقعة أهْدافها) بل استمرت هذه الجبهة الإعلامية والإيديولوجية من الحروب العدوانية الأمريكية والأطْلَسِيّة، وأنشأت الحكومة الأمريكية ( بواسطة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية )، سنة 2013، برنامجًا سرّيًّا تحت إسم (Zuzuneo ) في شكل تطبيق لوسائل التواصل “الإجتماعي” في كوبا بهدف استغلال الصعوبات الناجمة عن الحصار الأمريكي وإطلاق “ثورة مُلَوّنة”، مُؤيّدة للإمبريالية الأمريكية، ودعمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بقوة، سنة 2021، محاولة من هذا النّوع ( ثورة ملونة مؤيدة لأمريكا) في كوبا، ودعمت بعض “المُنْشَقِّين” لتنظيمهم كقوة مناهضة للحكومة، وفشلت هذه المحاولات رغم الرسائل الدّعائية التي بثّتها الوكالة لدى عشرات الآلاف من مستخدمي وسائل التواصل “الإجتماعي” بعدما سرقت الوكالة بياناتهم والمعلومات الخاصة بهم، وتهدف العملية (وهي ليست الأولى من نوعها) تغيير النظام، من خلال توجيه المواطنين نحو التظاهر ضد ظروف العيش، وفشلت تلك المحاولة، غير إن الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية تمكّنت من خلق صعوبات للنظام في فنزويلا، وتمكّنت من تنظيم انقلاب سنة 2002، والإطاحة المؤقتة بالرئيس المنتخب ديمقراطياً هوغو شافيز، واستبداله بديكتاتور موالي لأميركا، غير إن الإنقلاب فَشل بعد حوالي 48 ساعة، ولكن الولايات المتحدة ووكالاتها المُتَعَدّدة لم تَكُفَّ عن المحاولات، ومن بينها الحصار المستمر وتمويل وتنصيب دُمْيَة أمريكية (خوان غوايدو) رئيسًا غير منتخب، وفشلت المحاولة، ثم حاولت شخصيات مدعومة من الولايات المتحدة تهريب شاحنات محملة بـ “مساعدات” الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى البلاد، سنة 2019، وإشعال النار في الشحنة وإلقاء اللوم على الحكومة التي “تُجَوّع الشّعب وترفض المساعدات الأمريكية” (المَزْعُومة) وشاركت حكومات رجعية عديدة في عملية الحصار وفي محاولات الإنقلاب، مثل كولومبيا والبرازيل، لما كانت حكوماتها موالية للإمبريالية الأمريكية…
أصدرت الوكالة الأمريكية للتنمية تقريرا بعنوان “دليل المعلومات الخاطئة” ( 97 صفحة) ويتمثل محتواه في تشجيع الحكومات ومنصات التكنولوجيا ووسائل الإعلام المُهيْمنة والمُعْلِنِين، على فَرْضِ رقابة مُشَدّدة على أي إعلام بديل أو مُخالف للإيديولوجيا السائدة، في كافة وسائل الإعلام بما فيها الشّبكة الإلكترونية ووسائل الإتصال المُسمّى “اجتماعي”، وَوَصْم هذا الإعلام البديل أو المُختلف بنشر الأخبار الزائفة والمُضَلٍّلَة ( Fake News)، وبذلك يتم القضاء على أي رأي مختلف مع الإعلام السائد والمُوَجّه، وعرقلة محاولات البحث على معلومات عبر الإنترنت تختلف عن الروايات الرسمية، لأن اكتشاف زَيْف المعلومات الرّسْمية قد يؤدي إلى مزيد من التشكيك في النظام الرأسمالي ككل، وهو الذي يَدّعي الدّيمقراطية والتّعدّدية وحرية الرأي والتّعبير…
تدعو هذه الوثيقة الأمريكية بعنوان ” دليل المعلومات الخاطئة” إلى تكثيف تنظيم ألعاب الفيديو وغرف الدردشة عبر الإنترنت، وتوجيه مواطني العالم – وخاصة الشباب – نحو مواقع أكثر ملاءمة للنخبة، كما تدعو الحكومات إلى العمل مع المُعْلِنِين لشل المنظمات التي ترفض الامتثال ماليا للخطوط الرسمية، وبذلك يتم توجيه الناس بعيدا عن وسائل الإعلام البديلة، وحثّ التقرير الحكومات والشركات على التعاون المُكثّف مع “مجموعات التحقق من الأخبار” وهي مجموعات تدعمها الحكومة الأمريكية مثل Bellingcat وGraphika وAtlantic Council للإشراف على “حرب المعلومات والمعارك ضد المعلومات المضللة”، ولهذه المجموعات علاقات وثيقة مع الأجهزة الأمنية والإستخبارات الأمريكية التي تُرَوّج المعلومات المُضَلِّلَة والأخبار الزائفة من أجل تغيير الأنْظمة السياسية للدّول التي تعتبرها الولايات المتحدة منافسًا أو خَصْمًا أو عَدُوًّا.
يُؤَدِّي تطبيق دليل المعلومات الخاطئة” الذي أَصْدَرَتْهُ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى تقييد أي تقرير أو حجة أو معلومات وآراء بديلة منشورة على الأنترنت، بغض النظر عن صِحتها ودقتها والحُجج المُصاحبة لها، إذا اعْتُبِرَتْ غير ضرورية أو محرجة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وللولايات المتحدة وحلفائها ومصالحها، ويعتبر التقرير إن شبكات المواقع البديلة على الإنترنت، تعمل على تطوير وجهات نظر بديلة وعلى تَحَدِّي العقائد الرسمية للحكومة الأمريكية، ولذلك عملت الحكومة الأمريكية ومؤسساتها، طيلة العقد الماضي، مع شركات التكنولوجيا بوادي السيليكون لدعم وسائل الإعلام السائد، وللحد من وصول وسائل الإعلام البديلة تحت شعار “محاربة الأخبار الكاذبة”، ومنذ الإنتخابات الأمريكية (تشرين الثاني/نوفمبر 2016) تم اتهام روسيا بالتّدخّل في سير الإنتخابات، فكانت مناسبة لمُطاردة وسائل الإعلام البديل، ويُشير تقرير الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية إلى “فشل أنظمة المعلومات التقليدية، مما أدّى إلى التشكيك في منظومة الإعلام السائد”، وتَضَمَّنَ التّقرير توصيات لتشويه وتخريب وقَمع وخَنْق وسائل الإعلام المستقلة بواسطة ما تسميه “التوعية الإعلانية”، وتتمثل في تهديد الإعلام المُستقل من قِبَلِ المُعْلِنين بقطع الروابط، أي عدم نشر إعلانات على هذه المواقع أو الصحف، “لتعطيل التمويل والحوافز المالية للمعلومات المضللة” وفق تقرير الوكالة التي تُعبّر عن وجهة نظر الحكومة الأمريكية، وتًعلّل ذلك: “إن تقليل هذا الدعم المالي في مجال تكنولوجيا الإعلان، سيكون بمثابة مَنْع أصحاب المعلومات المضللة من نشر الرسائل عبر الإنترنت”، وكذلك لتقليل “المخاطر التي تتعرض لها الشركات أو العلامات التجارية التي يكون إسمها – من خلال الإعلانات – بجوار محتوى إعلامي مشبوه ” وتدّعي الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية “إن إعادة توجيه الأموال إلى وسائل إعلام موثوقة وذات جودة أعلى، وتحسين البيئات التنظيمية والتجارية، ودعم النماذج المبتكرة والمستدامة، تُشكّل أَنْجَعَ وسيلة لزيادة الإيرادات التجارية للشركات”، ولا تكتفي الوكالة بهذه الوسائل بل تتضمّن توصياتها “تشويه سمعة ومصداقية وسمعة أولئك الذين يُرَوِّجون معلومات كاذبة”، وشَنِّ هجمات ضد أي شخص تعتبره الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مُرَوِّجًا للمعلومات الكاذبة أي تلك التي تتعارض مع السياسات والبرامج والمخططات الأمريكية.
اعتمَدَ هذا التّقرير على الوسائل التي جرّبتها أجهزة الإستعلامات والإستخبارات الداخلية والخارجية الأمريكية، منذ سنة 2008، لما استهدف فريق باراك أوباما الناخبين على موقع فيسبوك وغيره من المواقع، مما ساعده على الفوز بفترتين متتاليتين في البيت الأبيض (2008 و 2012 )كما استهدف فريقي دونالد ترامب الناخبين عبر “تويتر” بعد تمكّنه من السيطرة على الحزب الجمهوري، واستنتجت الإستخبارات إن وسائل الإعلام البديلة والشبكة الإلكترونية وشبكات التواصل “الإجتماعي” لم تعد مساحة إعلامية هامشية، بل محركًا مهمًا للنقاش ولتشكيل الرّأي العام، واتّفقت الحكومة الأمريكية مع منصات مثل غوغل، وفيسبوك، ويوتيوب على تغيير خوارزمياتها لخفض محتوى الإعلام البديل وتعزيز “المصادر الموثوقة”، فزادت حِدّة الرّقابة وتم استخدام هذه الخوارزميات لخفض حركة “المرور” وبذلك تراجع عدد الزيارات للمواقع الإخبارية البديلة عالية الجودة بين عشية وضحاها، مقابل تزايد الإقبال على وسائل الإعلام السَّائدة مثل CNN وNBC News، التي فشلت على الإنترنت، وارتفع عدد ضحايا “التطبيقات المتطورة” التي استخدمتها غوغل وفيسبوك وغيرها من المنصات، بهدف “تطهير الشّبكة من المواقع الإلكترونية المشبوهىة”، وتَمّنت القائمة “ويكيليكس” والمنصات التحررية المناهضة للحروب العدوانية مثل Antiwar ومعهد رون بول، وعدد من المنافذ اليسارية مثل Truthout وThe Black Agenda Report، وشكلت هذه المِنصّات “قائمة سوداء” تضم عشرات المواقع المهمة، بدعم وتزكية من قِبَلِ وسائل الإعلام الرئيسية التي ابتهج المشرفون عليها لخضوع المنافسين للرقابة، واعترف الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك، مارك زوكربيرغ، في إحدى المقابلات بأن منصته تَعَمَّدَتْ تقييد حركة المرور إلى بعض منافذ الإعلام الليبرالي ناهيك عن مواقع اليسار، وبَرّر مايكل فايس، زعيم المجلس الأطلسي، وهو مركز أبحاث تابع لحلف شمال الأطلسي هذا القمع الإعلامي ب”مكافحة الأخبار الزائفة ومحاربة تدخّل الحكومات الأجنبية في انتخابات الدّول الدّيمقراطية”، وأدّت هذه الحملات “التّطْهيرية” التي انطلقت من الولايات المتحدة إلى توحيد خطاب الإعلام السائد الذي أصبح مجرّد صدى لمؤسسات الأمن القومي الأمريكي، خصوصًا بعد أن أصبح المئات من عملاء وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الخارجية السابقين (فضلا عن المسؤولين الصهاينة) يشغلون مناصب رئيسية في منصّات ( Facebook وGoogle وTikTok و Twitte ) كما أصبح بعض مسؤولي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مُشرفين على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل مايك برادو الذي ترك منصبه كنائب مدير السياسات في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سنة 2020 ليصبح رئيسًا لسياسة التضليل في شركة ميتا، الشركة الأم لفيسبوك وإنستغرام وواتساب…
إن التكنولوجيا ليست وسيلة “مُحايدة” بل هي أداة في خدمة الإيديولوجيا، وتُظْهر بعض الأمثلة التي تم ذكرها زَيْف الدّيمقراطية والليبرالية وحرية التعبير وما إلى ذلك من الدّعايات الزائفة للرأسمالية والإمبريالية…