معالجة الفساد في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية / مازن قمصيّة

مازن قمصيّة* ( فلسطين ) – الإثنين 4/11/2024 م …

* مفكر ، أكاديمي وناشط سياسي وثقافي وإجتماعي فلسطيني …




ألقي محاضرات ومقابلات عن فلسطين يوميًا. كما أسافر حول العالم لإلقاء المحاضرات. في إحدى رحلاتي الأخيرة إلى أستراليا ونيوزيلندا ألقيت 212 محاضرة في 17 مدينة (بمعدل أربع محاضرات يوميًا). السؤال الأكثر إحراجًا الذي يُطرح عليّ كثيرًا هو على غرار “مع القضية الأكثر عدالة في العالم والمستعمرين الأكثر قسوة، لماذا لديكم أيها الفلسطينيون مثل هؤلاء القادة الفاسدين غير الأكفاء؟”. كتب صديقي الراحل إدوارد سعيد عن السلطة الفلسطينية على نطاق واسع وكتب مقالاً لاذعًا عن اتفاقيات أوسلو في أكتوبر 1993. https://www.rommanmag.com/view/posts/postDetails?id=6256 بالتالي تم حظر كتبه وكتاباته في المناطق الفلسطينية لفترة من الوقت من قبل الراحل ياسر عرفات. لم أكن ناقدًا قويًا مثله. ولكن بعد عودتي إلى فلسطين في عام 2008، تعلمت الكثير عن الذين وقعوا على “وثيقة الاستسلام” هذه بحسب سعيد، والذين وضعتهم إسرائيل والولايات المتحدة لإدارة الشؤون المدنية لشعبنا تحت الاحتلال، لذلك أصبحت أكثر نقدا ولكن قليا ما كتبت بهذه المواضيع لأنني ركزت على مدى السنوات الأربعين الماضية نشاطاتي ضد الصهيونية المدمرة لشعبنا وبيئتنا. كتبت مئات الأبحاث والمقالات الأخرى، وأكثر من 30 فصلاً في كتب، وعدة كتب. ناقشت في هذه الكتابات وبعض المقابلات بشكل مقتضب أوجه القصور بما في ذلك الفساد والتواطؤ مع المحتلين من خلال التنسيق الأمني ​​وعدم الكفاءة وإزالة أو تهميش أفراد فتح الشرفاء (مثل عفيف صافية، إيهاب بسيسو، مروان البرغوثي، نبيل شعث). بدأت في تجميع البيانات. صادقت منتقدين آخرين مثل نزار بنات (الذي قتلته السلطة) وباسل الأعرج (سجنته السلطة وأساءت معاملته وقتلته إسرائيل). البيانات والمواد التي جمعتها عن الفساد كثيرة وربما أنتهي إلى وضعها في كتاب في وقت لاحق. ظل 98% من وقتي مركزاً على محاربة الصهاينة العنصريين الاستعماريين. ولكنني تعرضت أيضاً لمضايقات من الحكومات (بما في ذلك إسرائيل والأردن والولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية). وكلما تقدمت في السن، كلما أدركت أنني بحاجة إلى التحدث بأكثر قوة عن الفساد المدمر لقضيتنا.

في كتابي عن المقاومة الشعبية في فلسطين شرحت مدى الضرر الذي ألحقته السلطة وما زالت تلحقه بكل أشكال المقاومة بما في ذلك المقاومة الشعبية (غير المسلحة). ولكنني تعلمت أيضاً بشكل متزايد أن خطيئة ارتكبها عرفات وثم أبو مازن هي الأنانية واستفراد القرار، وتبعها عدم استعدادهما للاعتراف بأخطائهما (سواء كان ذلك في الأردن أو لبنان أو أكبر خطأ على الإطلاق: اتفاقيات أوسلو). أوسلو كما وصفها إدوارد سعيد كانت نكبتنا الثانية. إذا نجح الصهاينة في تقويض القضية الفلسطينية، فيمكنك أن تلقي باللوم بشكل كبير على توقيع أوسلو وتداعياته. الخطأ الثاني هو عدم مغادرة أوسلو بعد انتهاء “فترة الانتقال” المؤقتة التي استمرت خمس سنوات في عام 1999. ولكن الخطأ (الخطيئة) الأكثر أهمية هي عدم استغلال فرصة الحكم لتطوير نظام حكم قائم على القانون يحترم جميع شرائح مجتمعنا بدلاً من تشجيع أولئك الذين يتملقون الزعيم بغض النظر عن فسادهم أو عدم كفاءتهم.

وهكذا، سنة بعد سنة، تفاقم الفساد وعدم الكفاءة وخاصة في المجالات الأكثر أهمية لقضيتنا الفلسطينية. على سبيل المثال، التعيينات في الخدمة الخارجية: “السفراء” الذين يتم تعيينهم لأغراض سياسية والذين يضرون بالقضية بدلاً من مساعدتها. هذا تعميم ينطبق على 99٪ من ممثلينا. استثناءات مثل الصديق الرائع  حسام زملط ممثلنا في المملكة المتحدة تثبت في الواقع فشل وعدم كفاءة الآخرين. لكن مناطق أخرى شهدت الفساد والمحسوبية وهي منهجية وخبيثة حتى في مجالات مثل حماية البيئة حيث تم عزل الأشخاص الطيبين وترقية الأفراد الخاضعين بغض النظر عن الكفاءة. في مجالات كثيرة يتم توزيع العقود الحكومية ليس على أساس الجدارة ولكن على أساس المحسوبية.

إنني، مثل إدوارد سعيد وملايين الفلسطينيين، كنت أختلف بشدة مع الخيارات التي اتخذتها مجموعة أوسلو لبناء الإدارة الفلسطينية التي أراحت إسرائيل من أعباء إدارتها لنا ومن العزلة الدولية. لم تستند حتى إلى وعود بالحرية أو إعادة الحقوق. ولكنني لا أستطيع أيضاً إلا أن أشعر بالأسف على أولئك الذين سلكوا هذا الطريق. فلا بد وأن يكون من المؤلم للغاية بالنسبة للإنسان أن ينزل إلى نفق لا توجد فيه أي إمكانية لظهور ضوء في نهايته، وخلال هذه الرحلة إلى أعماق الظلام يشعر بالعلقات تزحف على ظهره وتمتص دمه، والأصوات من خلفه تدعوه إلى العودة (بعضهم من أعدائه السياسيين، وبعضهم من رفاقه السابقين). المفاوضين الفلسطينيين يخشون العودة لأنهم يعتقدون أن ذلك قد يمنح المعارضين السياسيين أداة اعلامية. إنهم يخشون فقدان ماء الوجه. ولكن ماذا يكسب الإنسان اذا خسر نفسه؟  أنا ممتن دائماً لجدي المربي الفاضل عيسى عطالله الذي أقنعني قبل أربعين عاماً بالتخلي عن هذا الخوف من الاعتراف بالأخطاء. إن الشعب الفلسطيني غاضب للغاية، رغم أن العديد منهم يخشون التعبير عن آرائهم خوفاً من خسارة مصادر دخلهم، أو خوفاً من أن يكون البديل لفتح أكثر سوءا ولكن لماذا لا تصلح فتح نفسها وإلا تندثر كما اندثرت كل الفصائل الفلسطينية التي كانت فاعلة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.  أو خوفاً من إسرائيل، أو خوفاً من الولايات المتحدة، أو خوفاً من قوتهم. ولكن الخوف في نهاية المطاف هو افتقار إلى الثقة بالنفس لاتخاذ مسار آخر. وينبغي أن يتوازن خوفهم مع حقيقة مفادها أن هنالك ابادة جماعية والكل مٌستهدف. لقد أتيحت للقادة العديد من الفرص للاعتراف بالأخطاء وإعادة ضبط المسار: 1) اغتيال إسحاق رابين وانتخابات حكومة نتنياهو اليمينية في التسعينيات؛ 2) اغتيال ياسر عرفات في عام 2004؛ 3) الانتخابات الفلسطينية عام 2006؛ 4) الفرصة التي خلقها طوفان الأقصى والإبادة الجماعية المستمرة. والأمر الأخير مهم بشكل خاص لأنه قد يكون الفرصة الأخيرة لإعادة ضبط المسار والكيان لا يرحم أحدا وترون كيف يدمر الأخضر واليابس بما فيه الضراب المسروقة بالمليارات. كيف يمكننا إعادة ضبط المسار: التخلص من الفساد، وإصلاح القضاء ليكون مستقلاً حقًا، وإنهاء القرارات الأحادية الجانب، وجلب الجماهير الفلسطينية ذات القدرات الفكرية لتحل محل الفاسدين — الاستفادة من أصولنا الذهبية الوحيدة: شعبنا. نعم، لن يكون هذا سهلاً، ولكن يمكن البدء. لا يتعين على الفلسطينيين الاصطفاف مع الحكومات. يتعين علينا 1) قراءة الواقع بدقة (مثلا أمريكا وعملائها في انهيار) والتحدث بالحقيقة للسلطة الحاكمة، 2) بناء شيء إيجابي على الرغم من الصعوبات المذهلة، 3) محاولة العثور على الخير وتشجيعه في جميع البشر. باختصار يجب أن نتحدى الفساد والجشع والهبل المتفشي. نرى الجشع والفساد على نطاق واسع: ترامب، وبايدن/هاريس، وملوك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والجنرال السيسي في مصر، و”قادتنا” الفاسدين. كيف نتأكد من أن الأشخاص الذين نعرفهم لا يستمرون في هذا المسار الإدماني والمدمر؟ يمكن لفتح والفصائل الأخرى أن تنقذ نفسها إذا جندت قيادة فكرية قوية والتزمت بمشروع التغيير الثوري. وأقول أيضا مهم أن يسمعوا النقد ويغيروا (ما فائدت أن تغلقوا دماغكم كما أتوقع أن يفعل البعض بإهمال هذا المقال ومهاجمتني ككاتب ؟).  يمكن لك (نعم أنت) أن تحدث فرقًا!!! فلسطين، بالشجاعة والإصرار، قادرة على النهوض مثل طائر الفينيق من الرماد. إننا مدينون بهذا لأكثر من ربع مليون شهيد، ومليون جريح، ومدينون لملايين اللاجئين والأسرى ومدينون لأبنائنا وأحفادنا والأجيال القادمة. ومدينون لجثث الأطفال الفلسطينيين المقطعة الأوصال. ومدينون للفدائيين الذين دفعوا الثمن الأغلى للمقاومة. ومدينون لمئات الملايين في مختلف أنحاء العالم الذين أعلنوا في شوارع كل مدينة في العالم: “بآلاف، وبالملايين، نحن جميعاً فلسطينيين”. مدينون لفلسطين وللعالم بأن نعمل. يللا نبدأالحوار للتغيير !!

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ستة عشر − 2 =