فائض التوحش / محمد العامري
القسوة.. الشر.. كيف يتعاظمان في النفس البشرية، وكيف يتطوران ثم يكبران ليتجسدا في مذابح تفيض عن المخيلة البشرية، نفسه الكائن الإنساني الذي يرتكبها ضد ابن جنسه، كصورة من صور الاقصاء البشري لأنفس من حقها أن تعيش، فالإنسان ضد نفسه في سياق الاطماع غير القانونية، هذا ما يطرحه كتاب” «القسوة.. شرور الإنسان والعقل البشرى” للكاتبة كاثلين تايلور، حيث نشهد اليوم مذابح وابادة للجنس البشري من قبل الكيان الصهيوني الذي وضع جميع قوانين وقرارات العالم خلف ظهره، غير آبه بنداءات الأصوات الحرة في العالم، فقد افتعل حربا مبنية على مخيلته الطامعة في التوسع بطونه المحتل المشفوع بدعم غير محدود من دول العالم الأول التي تدعي الحرية والانتصار لحقوق الإنسان، فنحن امام عالم سوريالي لا يمكن تصديقه، فإن تقييم الدوافع والنوائب والأسباب يذهب عبر المنفعة والضرر للناس الذين يقع عليهم الاضطهاد والبؤس شبه الأبدي، فقد انتفت الاخلاق الإنسانية مقابل تشييد عمائر ضارة من الطماع وترحيل النوائب إلى شعوب ليس لها ملاذ تحت نيران آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا من خدمة لعذابات الآخرين.
والعالم الحر الآن يواجه تبريرات يقدمها القاتل لارتكاب الجرائم ضد البشر، بل تصبغ عليها صبغة أخلاقية، فيذهب القاتل إلى إثارة التعاطف الوجداني ويقدمون أنفسهم باعتبارهم بشر عقلانيين من باب أن يتحاشوا اتهامهم بالقسوة، والتشويش والتعتيم والكذب على حقيقة الجريمة، حيث يعملون بشكل دؤوب على ضرب الذاكرة ومحوها بأدوات عديدة، فما دمنا نتقبل الرأي القائل بأن العدو، لا يلتزم بالعقلانية، نقع في فخ إعطاء العدو الفرصة الذهبية للمضي في جرائمه وحقده البائن، ومهما كان الدافع للشر فأن القوة مطلوبة للقضاء على شروره.
والحال أن الصهيونية تنفرد بأنها تكرس الأثر المفسد للقسوة. فإذا كان الجينوسايد الصهيوني هائلاً من حيث المقدار، وفريداً من خلال صناعة إبادة منظمة وواسعة البنية التحتية، فقد سوغ نزع ملكية الشعب الفلسطيني لوطنه، ولا يزال يقلل من الإحساس بمعاناة الفلسطينيين، ويترك المجال للمؤسسات الصهيونية إيذاء الفلسطينيين كحق للقاتل، ليوجه الشعب الفلسطيني مظلومية هي أسوأ مدارس العدالة لأنها تسهل لمن يتعرض لها أن يعتقد أنه عادل لمجرد أنه مظلوم، فالعدالة هي شيء نفعله وليس شيئاً حدث لنا، فإذا كان للعدوان الصهيوني المستمر على الشعب الفلسطيني في غزة من “إيجابيات”، فإن أهمها على الإطلاق، هي النتيجة تلك المشرقة التي بدا عليها الشارع العربي وهو يفصح عن حقيقته في رفض هذا الكيان الدخيل على الديمغرافية العربية، فهو الرد الفصيح على العديد من المتشائمين الذين اعتقدوا أن الشارع العربي في سبات عميق وطويل، إلا أن التكذيب جاء على لسان الجماهير المتدفقة في شوارع مدن وقرى العالم العربي كله. على عكس ما ذهبت إليه الأحكام الجاهزة حول “موت الشارع العربي “، فقد أصيبت المنظومة العربية بالحيرة والذعر بكونها غير منسجمة مع الجماهير، ولا مع منطق الانتماء القومي الذي يصب في مصالح الأمة الإستراتيجية.
فبعد السابع من أكتوبر من العام الفارط وفي اليوم التاسع منه، شنت إسرائيل الحرب المسعورة التدميرية التي ارتكزت على مفاهيم المحو والإبادة الجماعية، من خلال التدمير الممنهج لكل قطاع غزة وتهجير المواطنين من منازلهم، حيث قال وزير الدفاع الصهيوني «يوآف غالانت»: “إسرائيل تحارب حيوانات بشرية وتتصرف وفقاً لذلك”، وكرر «غالانت» العبارات نفسها، وزاد عليها أنه سيحاربهم جوا وأرضا وبحرا! وهذه النظرة الفوقية الاستعلائية، وهي حقيقة العقلية الصهيونية التي استباحت الأرض العربية الفلسطينية، منذ عام 1948، فالنـزوع للعنف والإرهاب والدم والقتل والمذابح، حالة متأصلة في الأيديولوجيا الصهيونية، فهي من جهة أيديولوجيا عنصرية قامت على أساس الانعزال والتميز والتفوق على – الأغيار – الغوييم – عامة، ومن جهة ثانية اتبعت نهجا انتقائيا في استرجاع الموروث الديني والاتكاء عليه، باعتماد الجانب المحرض على العنف والقتل والتدمير في التعامل مع “الأغيار”.
نحن نواجه الآن وبلا مواربة حملة مسعورة لمحو الذاكرة العربية عبر التدمير والتهجير لتشكيل عالم جديد ضمن رؤية الآخر ولا دور لنا فيه، فلأجيال القادمة ستكون امام منتج مغلف بالدم والقتل وذاكرة موجعة لفقدان العائلة وسياقاتها الاجتماعية التي بدت تعاني من التفكيك الأسري والعبث في المنظومة التربوية العربية يؤمل عليها أن تنتج جيلا قابلا للكسر.
لكن السؤال البعيد هل من الممكن نسيان تلك المشاهد التي فاضت في شاشات الميديا؟