صناديق الإستثمار المفترسة / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 14/11/2024 م …
مُقدّمة
نَشَر الخبير الإقتصادي الأمريكي جون بيركينز سنة 2004 كتابًا بعنوان “الإغتيال الإقتصادي للأُمَم: اعترافات قاتل إقتصادي”، تُرْجِم إلى ثلاثين لُغَةً، وتضمّن الكتاب وصْفًا دقيقًا للإحتيال الأمريكي، بواسطة البنك العالمي أو صندوق النّقد الدّولي، للسيطرة على مقدرات وثروات الدول من خلال الشروط المُجْحِفة للدّيون، ويروي جون بيركنز – في شكل مُذكّرات شخصية – مسيرته المهنية في شركة تشاس مين تي الاستشارية الأمريكية (Chas. T. Main ) ويصف وظيفته ب”القاتل الإقتصادي” (Economic Hit Man ) الذي يُوَفِّرُ كل الظروف الضرورية للولايات المتحدة الأمريكية لكي تُسيطر على الدّول المُقتَرِضة، و يُعرِّف جون بيركينز القتلة الاقتصاديين بأنهم: «رجال محترفون يتقاضون أجراً عالياً لخداع دول العالم بابتزاز ترليونات الدولارات وتحويلها من البنك العالمي والوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية (USAID ) ومن مجموعة من المنظمات الأخرى الأمريكية والأوروبية، لتنتهي في الحسابات المصرفية للشركات العابرة للقارات وبعض الأُسَر التي تتحكم بالمناجم وآبار النفط ومجموعة من المَوارد الطبيعية، ويُفْتَرَضُ أن تؤول هذه الأموال إلى البلدان الفقيرة التي طلبت قُرُوضًا أو مُساعدات… أما طريقة تحويل وجهة هذه الأموال فتتم عبر تقارير مالية مُزيّفة ورشاوى وعمليات ابتزاز وتنظيم انتخابات مُزوّرة لإزاحة أي حاكم “مُعتَرِض أو مُشاغب”، وتصل الإزاحة إلى ارتكاب جرائم القَتْل، ويشرح جون بيكينز بدقّة دَوْرَه ( وزملاءه) في استخدام المنظمات المالية الدولية لإخضاع الدّول المُسماة “نامية” لهيمنة الإمبريالية الأمريكية وشركاتها ومصارفها، حيث يتكفل الخُبراء الإقتصاديون بإعداد الدّراسات التي تُمكّن تلك الدّول “النامية” من الحصول على قُروض من المنظمات المالية على تقديم قروض لتطوير البنية الأساسية وبناء محطات توليد الكهرباء والطرقات والموانئ والمطارات والمدن الصناعية، بشرط قيام المكاتب الهندسية وشركات المقاولات الأمريكية بتنفيذ هذه المشروعات، وبهذه الطريقة لا تغادر الأموال الولايات المتحدة، بل تنتقل من حساب مصرفي أمريكي إلى آخر أمريكي أيضًا، بينما تُسدّد الدّول المُقترضة خدمة الدُّيُون (الأصل + الفائدة )، وتتمثّل مُهمّة الخُبراء الإقتصاديين كذلك في دَفْع الدّول المُقترضة إلى التعثر بعد بضع سنوات، ليتمكّن الدّائنون من السيطرة على موارد البلد المُتَعثِّر ومن إقامة قواعد عسكرية ومن إجبار تلك الدّول على التصويت إلى جانب الإمبريالية الأمريكية في الأمم المتحدة والهيئات الدّولية، وتبقى تُسدّد الأموال وفق شروط أشَدّ من سابقاتها، ويُسمّى هذا الأسلوب “الإستعمار الجديد” وهو استعمار لا يحتاج بالضّرورة إلى الوسائل العسكرية، ومع ذلك فإن عائداته مُرتفعة للولايات المتحدة والدّول الإمبريالية الأخرى…
تُمارس الصناديق “الجَشِعَة” أو “الإنتهازية” أساليب مُشابهة من المخاتلة لابتزاز البلدان المُقترِضة والتي تلاقي صعوبات في تسديد الدّيون وفوائدها المُرتفعة، وتتمثل مهمة الصناديق الاستثمارية “الإنتهازية” في تدمير الدول التي تراكمت دُيُونها.
الصّناديق “الجَشِعَة”
يمكن تعريفها بأنها شركات استثمارية تبحث عن الدُّيُون المتعثرة – ديون البلدان أو الشركات التي تعاني من صعوبات مالية تُعَرقل تنفيذ التزاماتها بسداد أقساط أصل الدُّيون وفوائدها في أونها- لشرائها من الدّائنين بسعر منخفض جدًّا، بسبب احتمال إفلاس المُقترِضِين أو تخَلُّفِهِم عن سداد الدّيُون، وتُفَضِّلُ هذه الصّناديق الإستثمار في الديون السيادية للدّول، وديون الشركات، والأصول المتعثرة ( المناجم والموارد الطبيعية والبُنية التحتية والموانئ والعقارات…)، وتستغل الصناديق “الجَشِعَة” ( أو “الإنتهازية” أو “المُفْتَرِسَة”) الصعوبات المالية للدّول المُقْتَرِضَة لإخضاعها ولتحويل هذه الصعوبات إلى أرباح ضخمة، من خلال انتهاج أساليب عدوانية مدروسة يدعمها طاقم من المُحامين والمُحاسِبين والمصارف، فضلا عن الجهاز القضائي الأمريكي ( الذي يسنده جهاز عسكري ضخم ومنظومة مالية قوامها الدّولار)، ولهذه الصناديق حسابات مصرفية في الملاذات الضريبية، فضلا عن استخدام الآليات والثّغَرات القانونية – بمساعدة طاقمها من المحامين والمُستشارين – للتّنصّل (القانوني) من تسديد الرّسُوم والضّرائب، لزيادة أرباح مالكيها.
اكتسبت هذه المؤسسات المالية المُضارِبَة صفاتها ( مُفترسة أو جشعة أو انتهازية) من أساليبها المُستمدّة من نشاط “الصّيْد الجائر” (Poaching ) أما فريستها فهي الدّول الفقيرة أو متوسطة الدّخل التي تلاقي صعوبات وتعجز عن تسديد بعض أقْساط الدّيون، فتشتري هذه الصناديق تلك الدّيون (من المصارف والشركات الدّائنة) بأقل من سعرها بكثير، كما تشتري “التعويضات” (لا عن التّأميم مَثَلاً) التي قضت بها محاكم أمريكية ورفضت الدّول الفقيرة أو عجزت عن تسديدها، وتُجنّد الصناديق الكَواسر ( أو الصناديق المُفْتَرِسَة) مجموعات من المُستشارين والمُحامين المتخصصين في النزاعات التجارية العابرة للحدود، ويوجد مَقَرّ معظم شركات المحاماة الإنتهازية في نيويورك، حيث توجد محكمة النزاعات المُتخصّصة في جرائم “الياقات البيضاء” وخدمة الشركات العابرة للقارات، وهي “محكمة تَحْكيم” أمريكية، ساعدتها حكومة الولايات المتحدة لتُصبح قراراتها أكثر فاعليةً من محكمة الجنايات أو محكمة العَدْل الدّوليّتَيْن، وعادة ما تتجاوز “التعويضات” التي تُقِرُّها عدة مليارات من الدولارات، وتستخدم الصناديق الإنتهازية أدوات ضغط عديدة تُسمى “حَملات الإعدام” ( بدعم أمريكي مُباشر) من بينها مُصادرة الطائرات والسُّفن في موانئ ومرافئ بالدّول الموالية للولايات المتحدة، والإستيلاء على الأُصول وتجميد الحسابات المصرفية، وترهيب الشُّركاء التجاريين ضمن عملية ترهيب وإذلال الدّول، لخَنْقها وإجبارها على تنفيذ الأحكام، أي تسديد المبالغ الضخمة…
رفع المُستثمرون الأجانب، خلال العِقْدَيْن الأوَّلَيْن من القرن الحادي والعشرين، دعاوى قضائية (دعاوى تحكيم ) ضد أكثر من نصف دول العالم بهدف الحصول على تعويضات ناتجة عن “الأضرار” التي لحقت مصالح هذه الشركات بفعل إجراءات حكومة البلد الذي استثمروا به، وذلك بسبب “اللوائح التنظيمية” وقوانين البيئة وإجراءات “الصحة العامة” التي أضَرّت بالإستثمارات، بحسب ادّعاءاتهم، وأَحْصَتْ بعض المنظمات غير الحكومية، خلال شهر تموز/يوليو 2024، نحو 1332 قضية استئناف ضد الدّول، رفعتها الشركات العابرة للقارات ضدّ هذه الإجراءات، ناهيك عن القضايا المُتعلّقة بالديون غير المسددة…
تَتَبَّعُ الصناديق المُفْتَرِسَة – التي يُهيمن عليها عدد صغير من صناديق المضاربة وصناديق التحوط – أُصُول الدولة المَدِينة المتداولة حول العالم، بواسطة محققين ومخبرين ومتخصصين في العلاقات العامة تتمثل مهمتهم في تشويه سمعة هذه الدّول وتلميع صورة مُشغّليهم من الشركات والمصارف والصناديق الإنتهازية، ويُعتَبَرُ عمل هؤلاء المُحققين والمخبرين والمحامين جزءًا من عملية تحويل النزاعات إلى أدوات استثمارية متداولة في سوق الأعمال، حيث يتم الإستثمار في النزاعات وشراء الديون “الشاغرة”، وشبّهت رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر “الصناديق الجشعة” بـ “الإرهابيين الماليين”، وكانت قد رفضت تسديد مبالغ أقَرّتها محكمة نيويورك، واعتبرتها ابتزازًا، ولذلك شنت الولايات المتحدة حملة ضد الرئيسة الأرجنتينية، وتمت محاكمتها من قِبَل الحكومة اليمينية التي ترأسها الملياردير ماوريسيو ماكري، واكتسبت هذه الصناديق شُهرة (سَلْبِيّة) جعلت التقدميين يعتبرون إنها ازدهرت على جثث الفُقراء والجائعين من بلدان أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا، التي تعثّرت في سداد الدُّيُون وفوائدها المُجحفة.
طالبت العديد من دُول “الجنوب العالمي”، منذ ستينيات القرن العشرين، بقانون دولي لضَبْط أحكام النظام المالي والنقدي العالمي، لأنه حاليا نظام هَرَمِي، تحت هيمنة الدّول الغنية (الإمبريالية) والشركات العابرة للقارات، ويخضع لأحكام القضاء الأمريكي (منطقة نيويورك الجنوبية غير بعيد من سوق المال ” وول ستريت “)، وليس لقضاء دولي – على هِناتِهِ – إذْ توجد مُعاهدات واتفاقيات وآلية تسوية النزاعات مثل (ISDS ) وهي لصالح الدّول الغنية والشركات، ولكنها أقل شراسة من الأساليب التي تتوخاها الصّناديق الإنتهازية، وبشكل عام تُحاول المؤسسات الدّولية ( مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي…) والشركات العابرة للقارات مَنْعَ دُول “الأطْراف” من استخدام مؤسساتها لإصدار القوانين التّحْكِيمية، والتحقيق في المخالفات التي ترتكبها الشركات العابرة للقارات، وحجب التراخيص عنها أو إلغائها، وما إلى ذلك.
تتميز الصناديق المُفترسة بعدم شفافية الحسابات المالية والإجراءات وتستخدم تقنيات المضاربة على نطاق واسع في تطورات الأسواق المالية وسوق السّندات، واستفادت من انعدام التنظيم، أو ما يُسمّى “التّحرير” ( deregulation ) لتصبح مؤسسات مالية كبيرة وتَجْنِي فوائد هامّة من عمليات ابتزاز الدّول الفقيرة، وهناك قضايا شهيرة دامت سنوات عديدة منها: قضية كونوكو فيليبس ضد فنزويلا، وقضية الشركة النفطية الأمريكية شيفرون ج. ضد الإكوادور، وقضية إليوت ضد كوريا التي لا تزال مستمرة، وخاضت الأرجنتين معارك طويلة ضد الصناديق الإنتهازية، كما خاض السكان من الشعوب الأصلية في منطقة غابات آمازون بإكوادور ( بدعم من الحكومة) معركة مماثلة ضد شركة شيفرون التي لوثت المحيط وأَضَرّت بصحة السّكّان والأرض والمياه، واستخدمت “شيفرون” أساليب الصناديق المُفْتَرِسَة لإطالة أمَد الإجراءات…
للأسف لم تتمكّن الدّول “النّامية” ( الواقعة تحت هيمنة الإمبريالية وشركاتها ومصارفها) من التّكتّل للدّفاع عن مصالحها ومواجهة غطرسة الدّول الإمبريالية وأدواتها، فهي غير متجانسة الأنظمة السياسية، وتحكمها أنظمة مختلفة التّوجّهات، مما جعل الإمبريالية وشركاتها تستفرد بكل دولة على حِدَة مثلما حصل ويحصل في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن، فضلا عن فلسطين، ولا تختلف أساليب الصناديق المُفْتَرِسة عن أساليب الإمبريالية، لأنها جزء منها ويدعم كل منهما الآخر…