عن الرصاص الذي يسبق الغارة: شكراً للمُسلحين! / ريما ابراهيم
ريما ابراهيم ( لبنان ) – الأربعاء 20/11/2024 م …
لم أتخيّل يوماً لا أكون فيه غاضبة من الرصاص الطائش الذي يُطلق في الهواء ابتهاجاً أو حداداً. غضبت حين أُطلق احتفاءً بإطلالة مسؤول أو زعيم، ورأيت فيه خطراً يتربّص بالمارة الأبرياء الغافلين. لكني اليوم ممتنّة لأنه نبّه وينبّه كثيرين إلى خطر غارات الطيران الإسرائيليّ.
غفوت طيلة ليل البارحة، لكنني في الليلة التي سبقتها لم أغفُ، ولم تكن المرة الأولى التي أعجز فيها عن النوم حتى بزوغ الفجر خلال الخمسين يوماً الماضية، أي منذ بدأت الغارات الليلية تستهدف ضاحية بيروت الجنوبية التي أقيم على تخومها.
في الأيام الأولى، كنت أمضي الوقت أتنقل بين الشرفة وشاشتي الهاتف والتلفزيون للتحقق من المواقع التي استهدفتها الغارات. كنت أتوقف لأرى الصور ذاتها تُعرض على محطات وصفحات عدة، كنت أسمع الأخبار ذاتها تكرر وتعاد في تغطيات ونشرات عدة. كنت أحيي الليل متيقظة متنبهة حتى تسكت أصوات الانفجارات ويطلع الضوء معلناً نهاية يوم وبداية آخر.
لم يكن ممكناً لهذا النمط الاستنزافي المنهك أن يستمر، لذا استفدت مما أكسبتني إياه مشاهدة الغارات والإنصات الى انفجاراتها ومراقبة آثارها المدمرة، من قدرة على التعامل مع القلق المتولّد عنها. وجدتني بعد فترة أتمكّن من النوم على الرغم من علمي بأن استهدافاً لموقع قريب مني يوشك أن يقع.
كنت أنام وكلّي أمل بأن يصدق تحليلي الذي أوصلني الى الاطمئنان الى أن منطقة سكني لا تزال مُحيدة، حتى إشعار آخر، عن الاستهداف المباشر وإن ما قد يطاولها، في الوقت الراهن، هو أصوات الانفجارات وانبعاثات أبخرتها. هذا الأمل جعلني أنجح في العودة الى النوم، سريعاً، بعد أن يوقظني الانفجار، وذلك لأنني تمكنت من الإقلاع عن عادة استطلاع أخبار الغارات فور وقوعها، وتأجيل ذلك الى صباح اليوم التالي بما أنّ لا خطراً محدقاً يتربّص بي.
هذا الأمر تغير في الأيام الماضية مع تغيّر توقيت الغارات، إذ غاب نهاراً الطيران الحربي الإسرائيلي لفترة عن سماء الضاحية، تاركاً المجال لمسيّرات الاستطلاع التي تنخر أسماعنا وهي تطنّ كالذباب من دون توقف، ليعود ويستلم الزمام ليلاً وينفث لهيب نيرانه في أبنية يدعي أنها تحوي مستودعات أسلحة وذخائر أو مصالح لحزب الله.
لكن عاد الطيران الحربي ليحرم الناس من الاسترخاء نهاراً، ومنع سكّان الضاحية من العودة إليها لتفقّد منازلهم، لجلب بعض الحاجيات التي تعينهم في أماكن نزوحهم، أو ربما لتلبية نداء الحنين والشوق الى أماكن ذكرياتهم، فوجّه الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي إنذارات صباحية بوجوب إخلاء مواقع عدة من الضاحية الجنوبية. ذلك لم يكن مألوفاً، فقد عمد بعض الشبان الى إطلاق رشقات كثيفة من الرصاص باتجاه تلك المواقع لتحذير الموجودين فيها أو بالقرب منها.
سمعت تلك الرشقات مرات عدة قبل أن أفهم وظيفتها، وما ساعد في فهمي هو أني استفدت منها منذ يومين حين كنت أهم بالعودة الى منزلي عبر طريق يمرّ في منطقة الغبيري، وقد أقنعت نفسي بأن احتمالات تعرّضي لخطر استهداف سيارة تمر بمحاذاتي وأنا عالقة في زحمة السير التي تخنق شوارع العاصمة بسبب النزوح، تفوق احتمالات تعرضي لخطر مماثل إذا ما قطعت سريعاً أحد الطرقات التي طاولها القصف، مستبعدة بذلك إمكانية وقوع غارة صباحاً على الضاحية.
محاولة التذاكي هذه كادت تودي بي الى المنطقة المستهدفة والتي لم أكن، لولا زخّات الرصاص، لأتنبّه الى قيام أدرعي بتوجيه إنذارات بإخلائها. ومذاك، أصبحت تلك الرشقات تلعلع كلما نشر أدرعي إنذاراً على منصة إكس، سواء أحصل ذلك نهاراً أو ليلاً. وهذا ما حصل منذ ليلتين وأفسد خطة هروبي من القلق والأرق إلى الاستغراق في نوم عميق يخفف من وقع الانفجارات على أذني وعلى نفسيتي. فما كدت أنام حتى أيقظتني رشقات كثيفة متواصلة من الرصاص عند الساعة الواحدة من بعد منتصف الليل، وبقيت تئز حتى لبيت نداءها وقمت الى هاتفي لأستطلع المواقع التي شملتها الإنذارات، ومضت ساعة قبل أن تفرج الغارة عني فأعود الى النوم، ليعاود الرصاص إيقاظي عند الثالثة فجراً.
هذه المرة كانت الرشقات أقرب وأكثف واستمرت لفترة أطول، وقد تنبهت بفضلها الى أن أحد مواقع الاستهداف لا يبعد من بيتي أكثر من 500 متر، فقمت الى الشبابيك والأبواب ووسعت فتحها الى أقصى حد لأتفادى تكسرها في حال كان عصف الانفجار أقوى من قدرة احتمالها. لم تنفّذ الغارة قبل الرابعة والنصف، ونجى زجاج منزلي منها. عندها فقط تمكنت من النوم بضع ساعات عوضت أرق الليلة العصيبة.
لولا الرصاص لربما كنت تمكنت من العودة الى النوم بعد الغارة الأولى، حتى توقظني الغارة الثانية لقربها وضخامتها ونباح كلاب الحي وأصوات أبواق السيارات التي رافقتها. ربما كنت سأحظى بليلة نوم تمتد حتى الرابعة والنصف، وهي حتماً أفضل من الليلة التي لم أنمها، وعلى الرغم من ذلك لا أشعر تجاه مطلقي الرصاص إلا بالامتنان.
لم أتخيّل أن يأتي اليوم الذي لا أكون فيه غاضبة من الرصاص الطائش الذي يطلق في الهواء، وقد غضبت منه عندما أطلق ابتهاجاً وكذلك حداداً. غضبت منه حين أُطلق احتفاء بإطلالة مسؤول أو زعيم، ورأيت فيه خطراً يتربص بالمارة الأبرياء الغافلين. لكنني اليوم ممتنة له لأنه نبه وينبه كثيرين الى الخطر المحدق بهم.
للمرة الأولى أرى فيه حنواً وعطفاً واحتضاناً أبوياً وشعوراً بالمسؤولية تجاه الناس ومحاولةً لحمايتهم. كنت كلما رأيت مشهداً يظهر كيفية تصرف الإسرائيليين عند سماعهم صفارات الإنذار، أتحسر على ناسنا المتروكين لتدبير أمورهم وحدهم، فمن لم يكن منهم متصلاً بشبكة الإنترنت ولديه خدمة الخبر العاجل لا سبيل له للاحتماء من الضربات، وإن طاولته فسيكون في عداد الأضرار الجانبية، ونجاته أو وفاته سيان عند حساب الخسائر والانتصارات.
الشعور بالعجز أمام هذا الاستخفاف بحياة الناس كان يثقل علي، لذا جاء اجتهاد رشقات الرصاص كبديل لصفارات الإنذار ليدل على أن ثمة من يهتم.
لهذا كله، أشعر بالامتنان للشبان الذين يطلقون الرصاص لأنني أستطيع الآن أن أحرر يدي من الالتصاق بهاتفي وعيني من التحديق بشاشته، وذهني من الانشغال بتقصّي الخطر. أستطيع أنا وغيري أن نستسلم للنوم ونحن مطمئنون الى أن ثمة من يسهر ليحذرنا إذا أُنذرت مناطقنا من أدرعي، السادي ذو الابتسامة العارمة التي تشي بمدى تلذّذه بتعذيبنا عبر قضّ مضاجعنا وحرماننا من النوم والراحة.