مفاتيح في جيوب الراحلين .. حين تصبح الذاكرة وطناً في المنفى / ربا زيدان
ما الذي يمكن أن يدور في ذهن شخص يغادر منزله على عجل، عالماً أنه لن يعود إليه أبداً؟ ما الذي يخطر بباله وهو يجمع ما يمكن حمله من حياة كاملة، بينما تُمطر الأرض حوله قذائف؟ وكيف يمكن لعقلٍ بشري معالجة كلّ هذه المرارة ؟ مالذي يفكر به نازحٌ يُجبره الاحتلال على حمل ما بقي من لحمه ..أطفاله ،ويغادر أرضه ..
ربما يحمل صورة باهتة لطفلٍ ضاحك، أو عقد زواج، أو قدرا ليعينه حين يقف في طوابير الجوع والعوز، رغم غنى الأرض، أو لعله يحمل مفتاحاً لمنزلٍ يصمد بعد أن تدكه آليات الموت والدمار…
لحظات كهذه تفوق الخيال؛ تحمل في طياتها مزيجاً من الحزن، والهلع، والغضب، وعجزاً لا يمكن وصفه.
ليس النزوح الإجباري مجرد هجرة قسرية ..بل اقتلاعٌ من الجذور، ونفيٌ من الذات. هو التخلي عن البيت الذي بُني بعرق الجبين، عن ذكريات العمر، وعن الحياة كما كانت تُعرف. إنّه انتقال من حياة مألوفة إلى المجهول ..إلى مآوي مؤقتة لا تحمل سوى البؤس والموت .
تضع الحروب الأفراد أمام قراراتٍ مؤلمة. . لم يكن لهم يد فيها بل فرضها عليهم نظام عالمي مختّل ، يدافع عن مصالح الشركات والمؤسسات التي تجني الأموال وينسى حقوق البشر ، بوصفهم ، في مناطق محددة من العالم، أضرارا جانبية ،كائنات تستحق العدل والمساواة، يُترك النازحون أمام معادلة قاسية: البقاء والموت، أوالنزوح والمجهول. لكنّ المغادرة في حد ذاتها موتٌ آخر؛ موتٌ للكرامة، وللأحلام، وللأمان.
يحمل المغادرون موطنهم أعباءً تفوق قدرتهم على الاحتمال. يتحول النزوح كنمط حياة إلى معركة يومية للنجاة: البحث عن مأوى، والطعام، والحفاظ على أبناء الدم وعلى الأهل طوفان من الخراب والاستهداف. يشرع النزوح القسري أبوابا لجروح جديدة لم يعهدها أصحاب الأرض والتاريخ والمكان والحضارة.
وحين تلّح عليهم ذاكرة البيت، والدفء والاستقرار، مهما كان نسبيا، تقتلهم الذكريات.. تظهر لهم في كل انعطافة لتذكرهم بما رحلوا عنه، قصص العائلة الممتدة، وقرقرات الأطفال وثياب العيد، وأهازيج المواسم التي ألفوها… والبلد.. ذاك الوجع الأكبر والأشد.
كيف يتعامل المرء مع خسارات أكبر من أن تعوّض؟..
في أروقة الأخبار وتقارير الإغاثة، يُختزل النزوح إلى أرقام: “مليون نازح”، “خمسة آلاف أسرة مشرّدة”. لكن وراء كل رقم قصة: رجل فقد أرضه، وجد لم يتبقَ له من الأحفاد أحد، وأم دفنت أطفالها بجدائلهم وثيابهم وطفل بترت أطرافه..
تسرق الحروب من الإنسان إنسانيته، وتعيد صياغة معاني البقاء. يصبح كل يومٍ جديد تحدياً للبقاء حياً على مستوى الجسد والعاطفة والروح..
النزوح هو الوجه الأكثر قسوة للحرب، إذ يحوّل البشر إلى لاجئين في عالمٍ غريب. إنه تذكيرٌ مؤلم بأن الحرب لا تنتصر لأحد. ففي كلّ نزوحٍ، تُسلب الأحلام، وتضيع سنوات من العمر بين الخوف والانتظار.. والامل في أن ينتصر العالم يوما للحقّ، وقلّما يفعل..