الكتابة من المسافة صفر / د. أنيس فوزي قاسم
«من المسافة صفر» تعبير جديد في اللغة الدارجة يستخدمه رجال المقاومة الفلسطينية حين يصيبون هدفهم، وهم في حالة التحام مع جنود الاحتلال. إنه يعبرّ عن البهجة والإنجاز بإصابة الهدف. وانتابني شعور مماثل حين سمعت عن صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 21/11/2024، باعتقال وجلب المتهمين بنيامين نتنياهو رئيس عصابة المستوطنين الإسرائيليين، ويوآف غالانت مساعده الأول في العصابة ذاتها. تصورت القرار وكأنه طلقة جاءت من المسافة صفر وأصابت الهدف مباشرة. إنها الدفعة الأولى من الثأر لدماء شهدائنا في غزة، ولصراخ أطفالنا وهم يساقون إلى المحرقة الصهيونية.
هذا القرار الجريء له ما له وعليه ما عليه، وسوف نتناول ما له أولا: إن القرار يفرض على الدول الأعضاء في ميثاق روما، وهو الوثيقة التي أقيمت على أساسها المحكمة الجنائية الدولية، وعددها الآن 124 دولة، التزاماً قانونياً باعتقال هذين المتهمين، إذا صدف إن وجدا، أو وجد أي منهما، في أراضي تلك الدولة، ويسلم إلى المحكمة في لاهاي. وأعلن العديد من الدول الأطراف استعدادها لفعل ذلك، ولاسيما معظم دول المجموعة الأوروبية، رغم أنها من أهم داعمي عصابة المستوطنين في فلسطين.
وحيث إن قرار المحكمة صدر بإجماع أصوات القضاة الذين تناولوا هذه القضية، فإنه غير قابل للنقاش، أو الاجتهاد، ولا يتسع للتفسير أو التأويل. إنه قرار قضائي واجب التنفيذ كما صدر، وليس قراراً سياسياً يتسع لاجتهادات عديدة ولأغراض متنوعة، هو قرار صادر عن هيئة قضائية مؤسسة طبقاً لاتفاقية دولية ومصادق عليها من أكثر من ثلثي دول العالم. رغم أن لائحة الاتهام ما زالت غير معلنة حتى الآن، إلاّ أن المعلومات التي نشرتها المحكمة تشير إلى أنه توفّرت للمحكمة أسباب معقولة للاعتقاد بأن المتهمين ارتكبا جرائم يتحملان عنها المسؤولية الجنائية، مجتمعين، وهي جريمة حرب، باستخدامهما التجويع كأداة من أدوات الحرب، وبارتكاب جرائم ضد الإنسانية باستخدام القتل والهجوم على مدنيين، وأن ذلك تمّ بقصد وتصميم. وقالت المحكمة إن لديها القناعة بأن المتهمين قصدا بعلم أنهما حرما السكان المدنيين من العناصر الأساسية للحياة، مثل حرمانهم من الماء والطعام والدواء والكهرباء، وأنهما أحبطا محاولات إدخال معونات إنسانية إلى غزة، وحين سمحا بإدخال بعض هذه المعونات، فإن ذلك تمّ ليس التزاماً بواجباتهما القانونية الدولية، بل استجابة للضغوط الدولية. واستخدام التجويع كأداة من أدوات الحرب محرّمة دولياً، وهي قاعدة ليست محرمة باعتبارها وردت في اتفاقيات جنيف لعام 1949 أو البروتوكولات الملحقة بها في عام 1977 فقط، بل باعتبارها كذلك قاعدة عرفية في القانون الدولي، حيث ورد عليها نص في القاعدة العرفية رقم (53) التي حظرت التجويع كأسلوب من أساليب الحرب. ومن المهم ملاحظة أن إسرائيل طرف في العديد من الاتفاقيات التي تحرّم التجويع، كما أن محكمة العدل العليا الإسرائيلية اعترفت في العديد من قراراتها، بأن إسرائيل ملزمة كذلك بالقواعد القانونية العرفية.
ومن الجرائم التي يلاحق عليها المتهمان جريمة التهجير القسري للسكان المدنيين، ولا شك أن هذه الجريمة من أشدّ الجرائم مضاضة، ذلك أنها تنزع الإنسان من محيطه الطبيعي وتهدده بفقدان كل عناصر الأمان. وقد صدر حتى الآن من قبل الجيش «الأعلى أخلاقاً في العالم» أكثر من 184 أمر تهجير لأهلنا في غزة، واتبع ذات الإجراء في مناطق في الضفة الغربية، ومؤخراً، في لبنان. وفي قرار للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا. قالت إن طرد الناس من مساكنهم «يشكل جريمة إبادة» ذلك أن المتهم، في هذه الحالة، لا يقتل ضحاياه فوراً، بل يخلق الظروف التي تؤدي الى التدمير الكلي او الجزئي للسكان المستهدفين.
منذ صدور أوامر إلقاء القبض على المتهمين الإسرائيليين، نسمع التهديد والوعيد من مسؤولين أمريكيين بأن الوصول إلى المتهمين الإسرائيليين سيأتي بالويل والثبور لقضاة المحكمة وجهازها
لا شك أن بعض الدول الأطراف في معاهدة روما، قادرة على الاحتيال على الالتزامات القانونية الواردة فيها. فمثلاً بريطانيا، وهي شريك فاعل ونشيط في جريمة الإبادة الجارية حالياً في غزه، لاسيما أنها تقوم بتزويد إسرائيل بالسلاح (وهناك حالياً قضية أقامتها «مؤسسة الحق» مع آخرين ضد بريطانيا أمام المحاكم الإنكليزية لاشتراكها في جريمة الإبادة، باعتبار أنها تصنع قطع غيار للطائرات الإسرائيلية F- 35) وبالمعلومات التي تزود إسرائيل بها من خلال الطلعات الجوية التي يقوم بها سلاح الجو البريطاني من قاعدته في قبرص. كما أنها قادرة على منح نتنياهو وغالانت «شهادة مهمة خاصة» لكي تمنحهما الحصانة الدبلوماسية إذا حضرا الى بريطانيا. ومنذ عام 2013 بدأت وزارة الخارجية البريطانية إصدار مثل هذه الشهادات لمسؤولين أجانب متهمين بارتكاب جرائم خطيرة في القانون الدولي، حماية لهم من الملاحقة القضائية. وقد سبق لمسؤولين إسرائيليين، مثل تسيبي ليفني وبيني غانتس وآموس يادين، أن استفادوا من هذه الشهادات، مع العلم أن لا أحد منهم كان مطلوباً للمحكمة الجنائية. والأسبوع الماضي قام رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي هاليفي، بزيارة بريطانيا ربما تحت مظلّة الشهادة ذاتها.
أما بعض الدول غير الأطراف في معاهدة روما، فكانت أكثر عدوانية للمحكمة الجنائية، فالولايات المتحدة الأمريكية، مثلاً، أصدرت عام 2002 قانوناً لحماية المسؤولين الأمريكيين وحلفائهم، من أن تطالهم يد المحكمة الجنائية عن جرائم ارتكبوها في مناطق النزاع في أفغانستان، وبعد ذلك في العراق. ويعرّف الجمهور الأمريكي هذا القانون بـ«قانون غزو لاهاي» لأن القانون يمنح الرئيس حق اتخاذ الإجراءات كافة، بما في ذلك حق استخدام القوة العسكرية لإطلاق سراح أي أمريكي أو حليف لأمريكا إن تمّ اعتقاله أو إيداعه لدى المحكمة في لاهاي.
يتضح من هذا النص أنه من الأنسب تسمية هذا القانون بـ«قانون البلطجة». ومنذ صدور أوامر إلقاء القبض على المتهمين الإسرائيليين، نسمع التهديد والوعيد من مسؤولين أمريكيين بأن الوصول إلى المتهمين الإسرائيليين سيأتي بالويل والثبور لقضاة المحكمة وجهازها. وأول رد فعل تهديد جاء من الرئيس جو بايدن الذي حذر المحكمة من مساواة إسرائيل بحماس، وهذا ينطوي على تمييز عنصري صارخ. والسناتور ليندسي غراهام، ويبدو أنه يخوض حرباً صليبية في خدمة الصهيونية، يطلق تحذيرات غير لائقة، باعتباره أحد الشخصيات السياسية المهمة في الكونغرس وقد حذّر من أن قبول هذه الأوامر سيكون رجالنا هم من تصدر بحقهم أوامر مماثلة في المرحلة التالية، أي أنه يحصّن ـ احتياطياً ـ متهمين أمريكيين من المساءلة القانونية. وقد سايره في ذلك السناتور توماس كوتون، الذي طالب باتخاذ إجراءات عسكرية ضد المحكمة الجنائية، بعد أن أصدرت أوامر الاعتقال. والسناتور كوتون الذي تقوم منظمة الأيباك الصهيونية بتمويل حملاته الانتخابية، أعلن «أن المحكمة هي محكمة كانغارو [هزلية]، وان كريم خان متعصّب ومشوش. ويل له ولأي شخص آخر يحاول تنفيذ هذه الأوامر غير القانونية».
ومن الواضح أن بعض الساسة الأمريكيين جاؤوا إلى السلطة بطريق البلطجة وعلى هذا الأساس يتصرفون ويحددون مواقفهم السياسية. قد يقال، وعلى ضوء الحماية البريطانية والأمريكية لجرائم إسرائيل، فما الفائدة من مذكرات الاعتقال بحق المتهمين الإسرائيليين وقائمة المتهمين- على سبيل الاستطراد- قد تطول ويضاف إليها متهمون جدد مثل قائد سلاح الجو ورئيس الأركان؟ ينطوي هذا التساؤل على بعض الصحة، إلاّ أنه يجب ان لا نقلل من التأثير السياسي والمعنوي على دولة المستوطنين، ذلك أن هذه الدولة لا تتوقف عن الزعم بأنها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» وأن جيشها هو «الجيش الأكثر والأعلى أخلاقاً من كل جيوش العالم» بينما يرأس هذه الديمقراطية، وهذا الجيش شخصان فاران من وجه العدالة، ومطاردان من قبل محكمة دولية. إن أوامر الاعتقال تطعن في مشروعية هذا النظام في الصميم وتقوّض مصداقيته وأخلاقيته. إنه نظام مارق.
إن الجرائم التي ارتكبتها عصابة المستوطنين في فلسطين، لا تماثلها ربما إلاّ جرائم ألمانيا في افريقيا في مطلع القرن الماضي، وجرائم النازي في أواسط القرن الماضي، ما سيخلق جيلاً من الضحايا الفلسطينيين، الذين ربما سيتمكنون من خطف بعض هؤلاء المستوطنين كما تمّ خطف مجرم الحرب أيخمان من الأرجنتين، وتسليمهم الى المحكمة الجنائية في لاهاي.