سوريا تفككت: التداعيات والتحديات والمجابهات / د. عصام نعمان
في أقل من عشرة أيام انهار النظام السياسي في سوريا، واختفى معه كبار الممسكين بمفاتيح سلطاته وأجهزته. انهياره السريع أذهل أصدقاءه كما أذهل أعداءه، وفتح مستقبل سوريا على مخاطر شتّى. لا غلوّ في القول إن انهيار النظام خلّف بلاداً مفككة وشعباً مشرذماً على نحوٍ يمكن توصيفه بأنه أخطر حدث في تاريخ عالم العرب، خصوصاً هلاله الخصيب والكئيب، منذ نكبة فلسطين بقيام «إسرائيل» سنة 1948. سوريا هي قلب المشرق العربي ومفتاحه الجيوسياسي والاستراتيجي. لها حدود طويلة مع كلٍّ من لبنان وفلسطين والأردن والعراق، ولها ساحل على شرق البحر الأبيض المتوسط يتصل بساحل تركيا شمالاً ولبنان جنوباً. يزخر البحر قبالة ساحلها بمكامن غنية بالنفط والغاز، شأن بادية الشام الغنية بمكامن الذهب الأسود. سوريا هي «قلب العروبة النابض»، كما كان يحلو لجمال عبد الناصر أن يدعوها. عروبتها هوية وليست عصبية، ذلك أنها تحتضن 26 طائفةً وإثنية تعتمد كلٌ منها عصبية خاصة بها، العروبة كهوية تعلو على العصبيات الطائفية والإثنية.
الاضطرابات، التي عصفت بسوريا باتت الآن التحدي الأول والأخطر الذي يستوجب معالجة تداعياته بتوحيد البلاد وتوطيد الأمن والاستقرار وتعزيز جهود الإنماء والإعمار وترسيخ الطمأنينة والسلام
الجيش السوري كان العمود الفقري للجسم السياسي السوري، استطاع بفضل عقيدته العروبية وتنظيمه العسكري الصارم أن يكون مصهراً وطنياً لكل جنوده وضباطه. وهو، كعمودٍ فقري للجسم السياسي السوري، كان فعلياً السلطة المركزية للبلاد والسياج الحامي لوحدتها الوطنية، ليس أدل على ذلك من أن كل الانقلابات العسكرية التي شهدتها (وعانتها) سوريا لم تتسبّب بانقسام البلاد والشعب، لأن الجيش بقي متماسكاً ومتحداً، ما حال دون تصدّع الوحدة الوطنية وكيان الدولة. لذا لم يكن مستغرباً أن ينهار النظام السياسي وتتفكك البلاد، بعدما فَقَد الجيش السوري تماسكه ووحدته وإرادة القتال نتيجَة تدنّي الرواتب وشظف العيش.
ثمة أسباب أخرى لانهيار نظام الأسد، أهمها أن الولايات المتحدة كانت فرضت على سوريا «قانون قيصر»، الذي حظّر على جميع الدول والمؤسسات والأفراد في العالم التعامل اقتصادياً مع سوريا، ما تسبّب بأزمة اقتصادية شديدة وضائقة معيشية خانقة أضافتا إلى معاناة اقتصاد البلاد أعباء حربٍ مزمنة مع متمردين إسلاميين متطرفين تُصنّفهم الولايات المتحدة إرهابيين، ومع ذلك تُغرقهم بالمال والسلاح والعتاد. هذه الأزمات والتداعيات رافقتها ونجمت عنها تحديات عدّة أبرزها واخطرها ثلاثة:
*أولاً: توحيد سوريا وتوطيد استقرارها
سوريا حاليّاً مقسّمة وشعبها مشرذم، هناك أربع مناطق تحكمها «سلطات» متعددة ومنطقة خامسة تحتلها «إسرائيل». في شمالها، شرقيّ نهر الفرات، تسيطر منظمة «قسد» الكردية (قوات سوريا الديمقراطية) المصنّفة إرهابية من قِبَل تركيا والولايات المتحدة، وتضع يدها على آبار النفط في محافظة الحسكة وتستثمرها بحماية قوة عسكرية امريكية متمركزة في جوارها. في محافظة دير الزور في وسط سوريا الشمالي، منطقة سيطرت عليها «قسد»، ثم تمرّد عليها مسلحون من أبناء العشائر العربية وانحازوا إلى «هيئة تحرير الشام» بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً). هذه المنطقة الملأى بحقول النفط وآباره تحميها قوة عسكرية أمريكية تموضعت في جوارها وأتاحت لـ»قسد» استثمار مواردها. في محافظة إدلب، غربيّ البلاد، منطقة يسيطر عليها خليط من المنظمات المعادية للنظام السابق، أبرزها واقواها «هيئة تحرير الشام». من محافظة دمشق جنوباً صعوداً إلى محافظات حمص وحماه وحلب شمالاً، تمتد منطقة شاسعة تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام»، وقد أعلن احمد الشرع بوصفه قائداً لإدارة العمليات العسكرية، قيام حكومة مؤقتة فيها يُفترض أن تديرها، بالإضافة إلى محافظات الحسكة ودير الزور وإدلب واللاذقية وطرطوس. في جنوب البلاد، احتل الجيش الإسرائيلي المنطقة العازلة بين الجولان المحتل والجولان المحرر، بالإضافة إلى بلدات وقرى تابعة لمحافظات درعا والسويداء والقنيطرة، بما في ذلك قمة جبل الشيخ، فأصبح العدو على بعد نحو 20 كيلومتراً من دمشق. يمكن الاستنتاج أن هذه التطورات والانقسامات والاضطرابات، التي عصفت وتعصف بسوريا باتت الآن التحدي الأول والأخطر الذي يستوجب المجابهة ومعالجة تداعياته وأضراره وذلك بتوحيد البلاد وتوطيد الأمن والاستقرار وتعزيز جهود الإنماء والإعمار وترسيخ الطمأنينة والسلام.
*ثانياً : إعادة بناء سوريا دولةً ومؤسسات وجيشاً
انهيار الجيش السوري بما هو العمود الفقري للجسم السياسي، أسقط نظام الأسد وبالتالي الدولة، بما هي إطاره الدستوري والإداري، ذلك يستدعي بلا إبطاء مبادرة القوى الوطنية، بشتى انتماءاتها السياسية وفعالياتها على أرض الواقع، إلى التلاقي للبحث في التحديات الخطيرة السائدة والتوافق تالياً على النهج والآليات اللازمة للخروج من حال الانقسام والاضطراب إلى المباشرة بإعادة توحيد البلاد وتوطيد الأمن والاستقرار والطمأنينة فيها من خلال التدابير الآتية:
ـ تأليف حكومة توافق وطني انتقالية جامعة، تضمّ ممثلين للمكوّنات والجماعات والتيارات كافة في الوسط الشعبي، بغية توفير متطلبات الأمن والمعيشة من جهة، ومن جهة أخرى وضع الترتيبات اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة ينبثق منها مجلس نواب يتولى السلطة التشريعية في البلاد، وتكون أولى مهامه وضع دستور جديد للدولة على أن يجري إقراره في استفتاء شعبي، ويصار بعد ذلك إلى تأليف حكومة وطنية جامعة لاستكمال مهام بناء الدولة، ولاسيما جيشها الوطني وسائر مؤسساتها وأجهزتها الإدارية والأمنية والاقتصادية.
ـ التواصل مع الدول الصديقة في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي بغية تأمين أعلى مستويات التضامن مع سوريا في سعيها إلى إنهاء احتلال «إسرائيل» لأراضيها بلا شروط، والتفاوض مع تركيا وإيران لتسوية الخلافات والنزاعات العالقة معهما بما يؤمّن توطيد الأمن الإقليمي.
ثالثاً: ترسيم وترسيخ دور سوريا في الصراع العربي ـ الإسرائيلي
تسيطر «إسرائيل» حاليّاً على مناطق واسعة من أراضي سوريا لا تقل مساحتها عن خُمس المساحة الإجمالية للبلاد، بعد قيامها بإلغاء اتفاق وقف الاشتباك المعتمد بينهما بعد الحرب سنة 1974، وتدمير نحو 70% من مجمل أسلحة وقواعد وذخائر وتجهيزات الجيش السوري، البرية والجوية والبحرية، في جميع أنحاء البلاد. ولوحظ أن الحكومة السورية المؤقتة برئاسة محمد البشير لم تتخذ، حتى كتابة هذه السطور، اي موقف شاجب للاحتلال الإسرائيلي، أو تقديم إشعار بشأنه إلى مجلس الأمن الدولي. إن هذا التطور الأمني البالغ الخطورة لا يشكّل تهديداً لأمن سوريا القومي وسيادتها فحسب، بل يمثّل أيضاً تهديداً خطيراً للأمن القومي العربي، الأمر الذي يتطلب ارتفاع المسؤولين عن إدارة شؤون البلاد في الوقت الحاضر وحكومتها العتيدة بعد الانتخابات المقبلة إلى مستوى الأخطار المصيرية المحدقة بسوريا، كما بالأمة واتخاذ المواقف والتدابير الكفيلة بمواجهتها والتغلّب عليها.
إلى ذلك، يقتضي أن يدرك قادة سوريا حاضراً ومستقبلاً جسامة الخطر الصهيوني الماثل والدعم الزاخم والدائم، الذي توفّره الولايات المتحدة لكيان الاحتلال الإسرائيلي على نحوٍ لا يهدد سوريا فحسب، بل يهدد ايضاً شعوب فلسطين ولبنان والأردن والعراق ومصر، ما يستوجب ترسيم وترسيخ دور سوريا الأساسي في الصراع العربي ـ الإسرائيلي بإطار استراتيجية متكاملة للدفاع العربي المشترك عن شعوب الأمة وحقوقها ومصالحها وصون ترابها الوطني. التحسّب للأخطار الماثلة شرط أساس لصدّها والتغلّب عليها.
*كاتب لبناني
[email protected]