ألمانيا مِرْآة لوضع الإتحاد الأوروبي / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 24/12/2024 م …
مقدّمة:
نشر “ماريو دراغي”، الرئيس السابق للمصرف المركزي الأوروبي ورئيس وزراء إيطاليا السابق، تقريرًا مُتشائمًا عن حالة الإقتصاد الأوروبي، أشار إلى “انهيار قطاع الصناعة في أوروبا وخصوصًا قطاع صناعة السيارات، وفقدان القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي، خصوصًا بعد ارتفاع أسعار الطاقة، مقابل تطور الصناعات الصينية والهيمنة المالية الأمريكية…”
تُمثل ألمانيا قاطرة اقتصاد مجموعة الإتحاد الأوروبي بحوالي رُبع الناتج المحلي الإجمالي للمجموعة، لكن اقتصادها في تراجع، وتُشير توقعات النمو الاقتصادي الوطني للعام 2025 إلى ضُعف النمو ( 0,2% ) في كافة بلدان الإتحاد الأوروبي، وفق مؤسسات الإحصاء والمصارف المركزية ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وقد يكون أداء فرنسا، ثاني قوة اقتصادية أوروبية ( 0,9% ) وإيطاليا، ثالث أكبر قوة اقتصادية أوروبية ( 0,7% ) أفضل قليلاً لكنه نموها يقلّ عن 1% فيما قد تصل نسبة نمو اقتصاد إسبانيا، رابع أكبر قوة اقتصادية أوروبية إلى 2,5%، لكن دول الإتحاد الأوروبي تُحقّق أرباحًا من خلال تصدير رأس المال إلى مناطق جغرافية مُلائمة لزيادة الأرباح، وعلى سبيل المثال، أعلنت شركة الصناعات الكيماوية الألمانية (BASF ) إنجاز مشروع بقيمة عشرة مليارات يورو في الصّين، وأعلنت شركة “فولكس فاغن ” الألمانية لصناعة السيارات استثمارًا بقيمة سبع مليارات دولار كجزء من خطة قانون خفض التضخم الأمريكي (IRA الذي تدعمه الدّولة الإتحادية الأمريكية بحوالي 370 مليار دولارا، فضلا عن التخفيضات الضريبية وتشجيع الصّادرات، لتشجيع الصناعات الأوروبية واليابانية وغيرها على نقل مصانعها إلى الولايات المتحدة، ولذلك قررت “فولكس فاغن” إغلاق مصانعها في أوروبا ونقل جزء من نشاطها إلى الولايات المتحدة…
الإتحاد الأوروبي- خفض الإنفاق الإجتماعي وزيادة الإنفاق العسكري
أدّت الليبرالية الجديدة ( النيوليبرالية ) أو الحقبة الجديدة من العَوْلَمَة إلى تحرّر رأس المال من القُيُود، خصوصًا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وأدّى هذا “التّحَرُّر ” إلى اختيار المكان والوسائل والظروف التي تُمكّنه من تنمية أرباحه، والضّغط على السّلطة السياسية – هي عادة تُمثّل مصالح الرأسمالية – لسن قوانين لصالح رأس المال على حساب المصلحة العامة، وأدت هذه السياسات إلى عواقب وخيمة على البيئة الإجتماعية والإقتصادية لكافة بلدان الإتحاد الأوروبي وإلى انهيار كبير في النشاط الاقتصادي، وخصوصًا النشاط الصناعي الذي انتقل ( باستثناء التكنولوجيا المتقدّمة ذات الإستخدام العسكري وذات الربحية والقيمة الزائدة المرتفعة) إلى مناطق أخرى من العالم، وفقًا لمعايير الربحية، دون مراعاة العواقب على البيئة الاجتماعية والاقتصادية، من ذلك تحطيم فرنسا الأرقام القياسية للعجز التجاري في مجال التصنيع، مما أَلْحَقَ ضرَرًا بالغًا بالعمال الذين يعانون من البطالة، بينما يتمتع الرّأسماليون والأثرياء بالحوافز المالية والضريبية وانخفاض تكلفة الدين وزيادة فرص الربح، ولئن استفاد الإتحاد الأوروبي من النيوليبرالية بإبرام علاقات غير متكافئة مع الدّول العربية الواقعة على حوض البحر الأبيض المتوسط، والأردن والخليج، فإنه ازداد خضوعًا لسياسات الولايات المتحدة، الإمبريالية الأَعْظَم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، حيث ترفض الولايات المتحدة تقاسم النّفوذ، وتتصرف كقائد لا منافس له سوى الصين وروسيا. أما أوروبا فإنها جزء من الجغراقيا السياسية الأمريكية…
تُعاني دُول الإتحاد الأوروبي – وخصوصًا ألمانيا وفرنسا، أول وثاني أكبر اقتصادَيْن – أزمة اقتصادية وأوضاعًا سيئة، وارتفاعًا في في أعداد الشركات التي أعلنت إفلاسها، ومع ذلك تنفق المزيد من المال لشراء النفط والغاز الصّخرِيّيْن الأمريكيين بأربعة أضعاف سعره في الولايات المتحدة، رغم رداءة جودته، ومقاطعة موارد الطاقة الروسية الرخيصة وعالية الجودة، كما تنفق دول الإتحاد الأوروبي (باسم الإتحاد أو باسم حلف شمال الأطلسي) أموالاً كثيرة لتكديس السّلاح في أوكرانيا وفي فلسطين المحتلة، وأعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية (أورسولا فون دير لاين) اعتزام دول الإتحاد الأوربي تقديم نحو 130 مليار يورو لمُساعدة أوكرانيا على محاربة روسيا، فضلا عن أطنان الأسلحة والمعدّات والذّخائر، وسوف تُعاني أوروبا من ضغوطات الولايات المتحدة، خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، بعد أن ضغطت الولايات المتحدة منذ سنوات على أعضاء حلف شمال الأطلسي ( أي دول الإتحاد الأوروبي) لزيادة الإنفاق العسكري إلى نحو 2% من الناتج المحلّي الإجمالي لكل بلد، وأعلن دونالد ترامب “يجب على أوروبا تسديد ثمن حمايتنا لها، وزيادة حصتها في ميزانية حلف شمال الأطلسي”، وكانت ألمانيا سَبّاقةً لتحقيق هذا الهدف، فضلاً عن مُشاركتها النّشطة في كافة الحُروب العدوانية الأمريكية، والمُساهمة بمبلغ يفوق نسبة 30% من قيمة الذّخيرة التي تم إرسالها من قِبَل الإتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا، وارتفع الإنفاق العسكري لدُوَلِ الإتحاد الأوروبي بنسبة 30% بين شباط/فبراير 2022 ( تاريخ انطلاق الحرب في أوكرانيا وشهر أيلول/سبتمبر 2024) ويُتوقّع أن يصل إلى 326 مليار يورو بنهاية سنة 2024، وأن يرتفع خلال سنة 2025، وفق “جوزيب بوريل” مسؤول السياسة الخارجية في المفوضية الأوربية، وأعلنت رئيسة المُفَوّضية الأوروبية (أورسولا فون دير لاين وزيرة الحرب الألمانية السابقة) خلال شهر حزيران/يونيو 2024، إن على الإتحاد الأوروبي أن يرفع الإستثمار في الإنفاق العسكري وتعزيز البرامج الحربية إلى خمسمائة مليار يورو ( من 147 مليار يورو قبل عشر سنوات)، خلال السنوات العشر المُقبلة، وبَرَّرَ الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “مارك روته” ( رئيس حكومة هولندا السابق ) زيادة الإنفاق الحربي الأوروبي والأطلسي بضرورة “ضمان القُدْرة على الدّفاع والرّدع على المدى البعيد “
خصّصَ الإتحاد الأوروبي عددًا من الإجتماعات لوضع خطة تتضمن خفض النّفقات الإجتماعية وخصخصة المرافق والقطاع العام، ورفع ميزانية التّسَلُّح وعَسْكَرَةَ الدّبلوماسية والسياسة الخارجية الأوروبية، اقتداءً بالولايات المتحدة، وعقد المجلس الأوروبي لوزراء الحرب اجتماعًا مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي في بروكسل (مَقَرّ الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي) يوم التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وانعقد خلال نفس اليوم اجتماع في عاصمة بولندا بين مُفَوّض الشؤون الخارجية للإتحاد الأوروبي ووزراء خارجية ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا وبولندا، وجميعها أعضاء نشطة جدًّا في حلف شمال الأطلسي، وناقش المُشاركون في الإجتماعَيْن نفس الموضوع المُتعلّق بخفض الإنفاق الإجتماعي وزيادة الإنفاق العسكري، وأظْهَرَت وزيرة خارجية ألمانيا حماسة بالغة لزيادة الإنفاق الحربي إلى أكثر من 2% التي أمَرَتْ بها الولايات المتحدة، وإرسال المزيد من منظومات الدّفاع الجَوِّي والدّبّابات والمُعدّات والذّخيرة إلى أوكرانيا، ولو أدّى ذلك إلى الإقتراض، عبر إصْدار سَنَدات اليورو لتمويل عَسْكَرَة السياسة الخارجية الأوروبية التي لا تستفيد منها سوى شركات الصناعات الحَرْبِيّة، مما يُمثّل تحويلا لوجهة الإنفاق ( المال العام) من ميزانيات مكافحة الفقر وتعزيز البُنَى التّحتية والتّعلم والصّحة والنّقل، إلى قطاع الصناعات الحَرْبِيّة…
ركود اقتصادي وأزمات سياسية
انهارت حُكومتا فرنسا وألمانيا، أهم قُوّتَيْن اقتصادِيّتَيْن وسيّاسِيّتَيْن في مجموعة “الإتحاد الأوروبي” خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2024، فيما يُعاني الإتحاد مشاكل عديدة وخلافات بين أعضائه بشأن العديد من القضايا، وأهمها تأثيرات حرب أوكرانيا وعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في واشنطن، وكان قد هَدّدَ بفرض رُسُوم جمرُكية إضافية على سلع الدّول الأجنبية، بما فيها الإتحاد الأوروبي، كما تعيش ألمانيا وفرنسا ( أوّل وثاني أكبر اقتصادات أوروبا ) مشاكل اقتصادية يعود بعضها إلى تطبيق الإتحاد الأوروبي الأوامر الأمريكية بشأن مُقاطعة المحروقات الرّوسية وفرض حَظْرٍ على روسيا…
في فرنسا التي بلغ عجز الميزانية 6,1% – بينما تفرض قواعد الإتحاد الأوروبي 3% كَحَدٍّ أقصى للعجز- وتجاوزت نسبة الدَّيْن العام 100% من الناتج المَحَلِّي الإجمالي، رفضت أغلبية نُوّاب البرلمان ( الذي لا توجد به أغلبية نيابية واضحة) ميزانية التقشف للعام 2025، مما اضطر الحكومة إلى الإستقالة، مما يرفع من تكاليف الدّيُون الفرنسية، وقد يُهدّد ذلك الإستقرار المالي لمنطقة اليُورو ( 19 دولة عضو بالإتحاد الأوروبي) كما حصل خلال أزمة الديون السيادية في اليونان وقبرص وإسبانيا وإيرلندا بين سَنَتَيْ 2009 و2015
في ألمانيا، يُعاني الإقتصاد من الرُّكُود وتراجع الصادرات الصناعية، ما يَجُرّ اقتصاد الدّول الأوروبية الأخرى إلى التّراجع وربما الإنهيار، وأدّى التّراجع الإقتصادي إلى انخفاض شعبية الحكومة وسقوطها إثر عدم حصولها على ثقة أغلبية أعضاء البرلمان، حيث عارضها 394 نائبًا (من إجمالي 717 نائب ) ومنحها 207 نائبًا فقط ثقتهم، ونتيجةً لذلك سوف تجري انتخابات تشريعية سابقة لأوانها خلال شهر شباط/فبراير 2025 وأصبح الخلاف بين مكونات الإئتلاف الحكومي علنيًّا، وتجسّد في الخلاف بين المستشار “أولاف شولتس” ( الحزب الديمقراطي الإجتماعي) و “روبرت هابيك” ( حزب الخُضْر ) بشأن وضع الإقتصاد وأسباب تأزُّمِهِ وآفاق انتعاشه في ظل ارتفاع تكاليف الطاقة وانخفاض الصادرات، وتراجع قيمة الدّخْل الحقيقي السَّنَوِي للأُسَر بنحو 2500 يورو، وانخفاض دَخْل الفئات الوُسْطى، بعد خمس سنوات من الرُّكود، وفق وكالة “بلومبرغ” بتاريخ 16/12/2024، وتجدر الإشارة إن كافة الأحزاب الألمانية مُتّفِقَة على الدّعم المُطْلَق للحروب العدوانية التي يشنها حلف شمال الأطلسي وللكيان الصهيوني ونظام أوكرانيا، في مقابل معاداة روسيا ومقاطعة الغاز الروسي الذي كان يُشكّل أحد أسباب ازدهار اقتصاد ألمانيا وازدهار الصناعات الألمانية التي تجسّدها شركات صناعة السيارات مثل فولكس فاغن و مرسيدس اللَّتَيْن تجاوزتهما الشركات الصينية في مجال صناعة وترويج السيارات الكهربائية، وقَدّرَ رئيس المصرف المركزي الألماني ( بداية كانون الأول/ديسمبر 2024) إن على ألمانيا زيادة الإستثمار السنوي في البنية التحتية والمرافق العامة بما يصل إلى 160 مليار يورو، لتأهيل الإقتصاد الألماني وليكون قادرًا على المنافسة في الأسواق العالمية، فيما أشار صندوق النقد الدّولي إلى زيادة معدّلات الإستثمار العام لمواجهة التراجع الاقتصادي الذي تفاقم بفعل ارتفاع أسعار الطاقة، بعد مقاطعة محروقات روسيا ذات الجودة العالية والثمن الرخيص، حيث كانت ألمانيا تستورد من روسيا نحو 60% من احتياجاتها من الديزل، وأكثر من 30% من وارداتها من النفط، ونحو 50% من وارداتها من الغاز ومن الفحم، قبل حَظْر الإتحاد الأوروبي ( بإيعاز أمريكي ) توريد المحروقات الروسية وضخ المليارات لتسليح أوكرانيا، مما عَمَّق أزمة الإقتصاد الألماني الذي كان يعتمد على مصادر الطاقة الرخيصة وتصدير السيارات و الآلات و الهندسة الكهربائية و الإلكترونيات و المواد الكيميائية ، خصوصًا إلى الولايات المتحدة والصّين، وقد تزداد أزمة الإقتصاد الأوروبي حدَّةً بَعْدَمَا يتسلّم دونالد ترامب منصب الرئاسة الأمريكية يوم العشرين من كانون الثاني/يناير 2025، لأنه يعتزم فرض رسوم تجارية إضافية على السلع الواردة إلى السوق الأمريكية…
رغم التَّراجُعِ والركود – الذي بدأ منذ فترة حكم الإتحاد الدّيمقراطي المسيحي بزعامة أنغيلا ميركل – لا تزال ألمانيا تتصدّر الإقتصاد الأوروبي ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي الألماني نحو 4,5 تريليون دولارا، ولا تزال الفجوة واسعة بين اقتصاد ألمانيا والمُلاحِقِين المُباشرين، مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، لكن ألمانيا لا تستطيع الفكاك من القبضة الأمريكية، فقد شكَّلَت، بعد هزيمة النّازِيّة، قاعدة مُتقدّمة للولايات المتحدة، حيث يُرابط 52 ألف جندي في 21 قاعدة عسكرية وفق البيانات الرّسمية، واستخدمت الإمبريالية الأمريكية قاعدة “رامشتاين” في ألمانيا ( إلى جانب قاعدة “سيغونيلاّ” في إيطاليا) لقصف وتدمير واحتلال أفغانستان والعراق ومجمل الوطن العربي وإفريقيا، ومن أهم القواعد العسكرية الأمريكية الأخرى في ألمانيا: سباندهاليم و لاندشتور ( مركز ضخم للطِّب العسكري) و فيسبادن و شتوتغارت ( حيث يوجد مَقَرّ القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا – أفريكوم ) و غرافينفوهر و راينداليم…
أقَرَّ المستشار الألماني أولاف شولتس بفشل مشروعه في السّلطة، ودعا نواب البوندستاغ (البرلمان الإتحادي) إلى التصويت على الثقة بحكومة الإئتلاف التي سقطت وكانت تَجْمَعُ إلحزب الاجتماعي الديمقراطي وحزب الخضر و حزب الديمقراطيين الأحرار الليبراليين، وذلك في الجلسة التي خصصت للاقتراع على الثقة بالحكومة التي سوف تستمر في تصريف الأعمال إلى حين الإنتخابات التي يجب أن تتم في غضون شَهْرَيْن، واضطر المستشار أولاف شولتس إلى طرح التصويت على الثقة، داعيا النواب إلى إسقاط الحكومة، إثْرَ تفاقم خلافاته مع وزير المالية ( كريستيان ليندنر زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار الليبراليين ) بسبب الإنعكاسات السلبيّة لتطبيق ألمانيا التعليمات الأمريكية بحذافيرها بشأن الحرب الإقتصادية ضد الصين أو بشأن مقاطعة روسيا منذ بداية حرب أوكرانيا، وتتمثل هذه الإنعكاسات في تراجع أداء الإقتصاد وانهيار شعبية الحكومة وأحزابها المُكونة للإئتلاف، مقابل ارتفاع شعبية الأحزاب الأكثر يمِنِيّةً مثل الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحزب “البديل من أجل ألمانيا” (اليمين المتطرف)
تمكنت حكومة أولاف شولتس من تجاوز خلافاتها لكن حرب أوكرانيا واصطفاف ألمانيا وراء أمريكا جعلتها تفقد إمدادات الغاز الروسي الذي كان أحد أهم أسباب ازدهار الإقتصاد الألماني التي مكّنَتْهُ تنافُسِيّته (بسبب انخفاض أسعار الطاقة) من زيادة حجم وقيمة الصادرات، وأدّى انقطاع إمدادات الغاز الروسي الرخيص إلى استيراد الغاز الصّخري الأمريكي، الرّديء ومرتفع الثمن، كما رفعت ألمانيا ميزانية التّسلّح إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي ضمن برنامج ضخم للتسلح وإرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، منذ شباط/فبراير 2022، وزيادة إمدادات الأسلحة المتطورة إلى الكيان الصهيوني، منذ العدوان الأخير ( 01 تشرين الأول/اكتوبر 2023 ) على الشعوب العربية في فلسطين واليمن ولبنان وسوريا، فارتفعت وتيرة الإضرابات العُمّالية، وتراجعت شعبية الإئتلاف الحاكم في الانتخابات المحلية والإقليمية، بسبب تراجع الإقتصاد وتراجع قيمة الدّخل الحقيقي واتّساع الفجوة الطّبقية…
خاتمة
شكّل انهيار القطاع الصناعي في أوروبا – وخصوصًا قطاع صناعة السيارات – أهم مؤشّرات انحدار اقتصاد ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وعَمَّقت الإجراءات الحِمائِيّة “للحليف” الأمريكي هذه الأزمة، وبالمُقابل ارتفع الإنفاق العسكري في كافة بلدان الإتحاد الأوروبي، خصوصًا منذ بداية الحرب في أوكرانيا، ولا تزال الدّول الأوروبية يمُطالَبَة ب”زيادة الإستثمار والإنفاق العسكري والأمْنِي وإنتاج الأسلحة “، وفق الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “مارك روته” (رئيس وزراء هولندا سابقًا) الذي يُطالب الحكومات “بخفض حصة معاشات التقاعد والرعاية الصحية ونظام الضمان الاجتماعي من الدّخل القومي للبلدان الأوروبي (…) وتخصيص جزء من هذه الأموال لتعزيز الأمن والدّفاع لضمان حُرّيّة جيل أبنائنا وأحفادنا، ولحماية حريتنا وازدهارنا وأسلوب حياتنا (…) يجب أن يستعدّ المواطنون الأوروبيون لتقديم التضحيات اليوم من أجل أمن الأجيال اللاّحقة…”
ترافق هذا الخطاب – الذي يَسْتَلْهِمُ ماهيّته ومضمونَهُ من الحقبة الفاشية في أوروبا- مع حملة سياسية وإعلامية تُنْذِرُ المواطنين الأوروبيين ب”هجوم روسي وشيك على أوروبا التي لا تمتلك ما يكفي من الأسلحة والذّخائر والمُعدّات…” لتبرير زيادة الإستثمار في الصناعات الحربية – خصوصًا في قطاع الطيران والصواريخ والطائرات الآلية وتحديث أنظمة برامج القتال الجَوِّي والأسلحة النّوَوِيّة وأسلحة الدّمار الشّامل التي يتم تجريبها في فلسطين ولبنان وغيرها…
ترتبط جُلّ الدّول العربية المُطِلّة على البحر الأبيض المتوسّط بعلاقات شراكة غير متكافئة مع الإتحاد الأوروبي الذي يتدخّل في الشؤون الدّاخلية لهذه البلدان، باسم حقوق الإنسان أو الدّيمقراطية أو الشّفافية أو الحَوْكَمة، وما إلى ذلك، في حين ترتبط الدّول الأُوروبية والإتحاد الأوروبي بعلاقات “غير متكافئة” مع الولايات المتحدة التي تُمْلِي شُرُوطها السّياسيّة والإقتصادية والعَسْكَرِية، وبينت الأحداث إن كِليْهما ( الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي) يتخَلَّيَان عن الحُكّام العُملاء لهما، إذا ما انتهى دَوْرُهُم، ويَدّعِيان “محاربة الإرهاب” فيما يُسلّحان مليشيات الإرهاب للإطاحة بالأنظمة التي لا تُنَفِّذُ أوامرهما بنسبة 100% ويَفْرِضان شُرُوطًا مُذِلّة على العُملاء وعلى المنظمات التي يُمَوِّلان نشاطها، لكنهما لا يُعيران أهمّيّة للخدمات المُقَدّمة لهما إذا ما تعلّق الأمر بفلسطين أو ببعض القضايا الأخرى الثقافية أو الإقتصادية أو السياسية…
من المستحسن دراسة كَيْفِيّة فَكّ الإرتباط مع هذه القُوى الإمبريالية، ما دامت مهتمة بأزماتها، وربط علاقات متكافئة ومُتكاملة بين البلدان العربية والإفريقية والآسيوية، وإنشاء كُتَلٍ إقليمية قادرة على فَرْض علاقات نِدِّيّة مع القوى الإمبريالية، كالإتحاد الأوروبي الذي يَرْضَخ لأوامر الولايات المتحدة، ولو كان تطبيق هذه الأوامر مُضِرًّا باقتصاد أوروبا، مثل الحظْر على روسيا وعدم استيراد الغاز الرُّوسي الذي ساهم طيلة العُقُود الماضية في ازدهار الإقتصاد الألماني والأوروبي…