مقال هام … سوريا في خِضَمّ الصّراعات الدّولية * / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 27/12/2024 م …
لا تزال الولايات المتحدة، ومن ورائها حلف شمال الأطلسي، تُنَفِّذُ الإنقلابات للإطاحة ببعض الأنظمة السياسية، فضلا عن الحصار ضد إيران منذ أكثر من أربعة عُقُود وضد كوبا منذ أكثر من ستة عُقُود، رغم تصويت أعضة الأمم المتحدة كل سنة بأغلبية ساحقة ضدّ حصار كوبا، فضلا عن إطلاق “الثورات المُلَوّنة” منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وتَمّت تجربة خِطّة تمويل مجموعات من “المجتمع المدني” ومنظمات “غير حكومية” لتنظيم احتجاجات من أجل مطالب مَشْرُوعة، كالدّيمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق النّساء أو الأقليات الأثنية والدّينية وما إلى ذلك، لكن لا يتحكم المتظاهرون في هدف الإحتجاجات ولا في تطوراتها، ولا في ما تُرَوّجه وسائل الإعلام السّائد التي تُزَوِّرُ الوثائق والشهادات، وتَمّت مثل هذه الخِطّة في بلدان عربية أخرى ضمن مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الأمريكي/الصّهيوني، والمتمثل في إسقاط أنظمة الحُكْم التي قد تُعَرْقِلُ مَسَار الهيمنة الأمريكية وفي تدمير الدّول وتفْتِيتُها على أُسُس أثنية وطائفية، بواسطة مجموعات إرهابية أو أقلّيات أثنية ودينية ( كما في السُّودان والعراق) مما يُضْفِي على العُدوان الإمبريالي صفة “الحرب الأهلية” أو “الصّراع الدّاخلي”، وهو ما حصل في سوريا حيث انطلقت احتجاجات قد تكون عَفْوِيّة ومشروعة في البداية، وتم الإلتفاف عليها بِسُرْعة من قِبَل الإخوان المسلمين خلال الأيام الأولى برفع راية ( علم الإنتداب الفرنسي الذي أراد تقسيم سوريا إلى ثلاثة أقاليم، وترمز إليها النُّجُوم الثّلاث ) وشعاراتهم قبل ظهور السّلاح تحت أنظار السّفيرَيْن الأمريكي الذي كان يُحرّض المتظاهرين والفرنسي الذي تَمَيّزَ بتصريحاتها الوَقِحَة، ووصفت وسائل الإعلام الرّجعية، والقوى السياسية “الغربية” – من اليمين المتطرّف حتى اليسار التّرُتْسْكِي – هذه الثورة المُضادّة، المَدْعُومة والمُسَلَّحَة من قِبَل الإمبريالية، ب”الثورة ضدّ الإسْتِبْدَاد والطُّغْيان”، مما يطرح تساؤلات مشروعة بشأن مصدر السلاح وغاية الدّعم السياسي والإعلامي لمجموعات الدّين السياسي وللمليشيات الإرهابية والإنفصالية، واصطفاف بعض اليسار “الغربي” وراء حلف شمال الأطلسي ( في ليبيا وأوكرانيا وسوريا… )، ولا يعني التّساؤل دعْمَ أي مِنّا للإستبداد والطُّغْيان الذي نُعاني منه، سواء في “المَرْكز” الرأسمالي المتطور، أو في بلدان “الأطْراف”.
يمكن التّأكيد إن الهدف ليس “مُقاومة الإستبداد” وإنما تمهيد الطّريق لمشروع “الشرق الأوسط الكبير” وإعادة تشكيل الرّقعة المُمتدّة من المحيط الأطلسي إلى أفغانستان، من المغرب إلى حدود روسيا، والذي ساهم في إعداده و”التّبْشِير” به الزعيم السياسي الصهيوني شمعون بيريز ( 1991) وبرنارد لويس ( مقال بعنوان “إعادة هيكلة الشرق الأدنى” – مجلة فورين أوفيس” 1992) وتوماس فريدمان ومؤسّسة “كارنغي” والإستخبارات الأمريكية، بذريعة “ضرورة تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية” في الوطن العربي ومنطقة غرب آسيا، كتَتِمّة للمؤتمرات الإستعمارية السابقة مثل مؤتمر برلين و”كامبل بنرمان” ( 1907 ) واتفاقية سايكس – بيكو ( 1916) و وعد بلفور ( 1917) ومؤتمر بلْتِمُور ( 1942) وغيرها، وعاد هذا المُخطّط الأمريكي إلى السّطح، خصوصًا منذ سنة 1993، بعد حصول تغييرات هامة في الوطن العربي، من بينها تطبيع مصر والأردن وقيادات منظمة التحرير الفلسطينية مع العدو الصهيوني، وتضاؤل دور الأنظمة العربية التي كانت تُشكّل “جبهة الصمود والتّصدّي”، وانهيار الإتحاد السوفييتي، وخصوصًا بعد احتلال العراق وتعزيز القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج، مما يُيَسِّر السيطرة الأمريكية الكاملة على منابع النفط والغاز، وعلى الطرقات التجارية بين آسيا وأوروبا وعلى منطقة استراتيجية تمتد من شرقي إفريقيا إلى آسيا…
قدمت الولايات المتحدة مشروع «الشرق الأوسط الكبير» إلى مجموعة الثماني ( قبل إقصاء روسيا لتُصبح مجموعة السّبع )، ودعت إلى عقد اجتماع بالولايات المتحدة سنة 2004 لتَبَنِّي هذا المشروع من قِبَل الدول الصناعية، وشنّت الولايات المتحدة – باسم “المجتمع الدّولي”، أي القُوى الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات- “حروبًا استباقية” على العديد من البلدان الواقعة في هذه الرُّقعة الجغراقية المُسمّاة “الشرق الأوسط الكبير”، بذريعة مكافحة الإرهاب أو لنَشْر الدّيمقراطية بالقُوّة العسكرية، وباستخدام الأسلحة المُحَرّمة كاليوانيوم المُنضّب والفوسفور الأبيض والقنابل الحارقة…
إن ما حصل في العراق وليبيا وسوريا هو جزء من مُخَطّط شامل، يتجاوز كل بلد على حِدَة، ويشمل منطقة مُمتدة من موريتانيا إلى أفغانستان وحدود الصّين وروسيا، وهو مشروع امبريالي أمريكي يندرج ضمن التنافس بين القوى الإمبريالية للسيطرة على المنطقة والقضاء على القوى الإقليمية التي يمكن أن تُعارض التّدخّلات الخارجية، ويستخدم هذا المخطط بعض المطالب والطموحات المشروعة لبعض فئات المجتمع، بهدف التّحكّم في الثروات والإقتصاد والمنافذ البَرِّيّة والبحرية في هذه المنطقة، وحماية الكيان الصّهيوني، واستبدال الروابط “العربية” أو “الإسلامية” بنظام “شرق أوْسَطِي” تكون الهيمنة فيه للكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وأدواتها مثل حلف شمال الأطلسي – خصوصًا منذ صياغة “المفهوم الإستراتيجي الجديد” سنة 2010، وتصميم مجموعة من الإستراتيجيات والخطط التي تُمكِّن الحلف من السيطرة على المنطقة وثرواتها وموقعها الإستراتيجي الرابط بين ثلاث قارات، من خلال الحَظْر والحصار الإقتصادي، أو من خلال المنظمات “غير الحكومية” أو من خلال العدوان المباشر أو بواسطة المنظمات الإرهابية المُسلّحة، كما يحدث حاليا في سوريا، بدعم مباشر من تركيا (حلف شمال الأطلسي) ومن الولايات المتحدة (الإمبريالية الأعْظَم) ومن الكيان الصهيوني، قاعدة ووكيل الإمبريالية العالمية…
تكمن أهمية سوريا في موقعها الجيواستراتيجي وفي احتمال مرور خط أنابيب نقل الغاز من إيران إلى أوروبا عبر أراضيها، وهو مشروع منافس لخطة نقل الغاز من قَطَر إلى موانئ تركيا ثم أوروبا، فضلا عن عدم توقيع اتفاقيات تطبيع مع الكيان الصّهيوني، ولهذه الأسباب وغيرها احتلت الولايات المتحدة جزءًا من سوريا (شرقي نهر الفرات، على الحدود بين سوريا والعراق والأردن) حيث حقول النفط والغاز والحبوب، وأعلنت حصارًا اقتصاديًّا مُحكمًا ودعمت الحركة الإنفصالية الكُرْدِيّة وأشرفت على تنظيم وتدريب وتسليح المنظمات الإرهابية، بتنسيق مع تركيا والكيان الصهيوني وأعضاء حلف شمال الأطلسي في قارة أوروبا، واستخدمت “داعش” ثم “هيئة تحرير الشام” وروجت لها إعلاميا كقوى تَحرّر ورعتها (مع تركيا، رغم الحسابات الخاصّة لكل طَرَف) إلى أن استولت على السّلطة، مُستغلة ثغرات النظام السوري وخيانات العديد من رموزه العسكرية والسياسية، وكان الموقف السَّلْبِي لقيادات “هيئة تحرير الشّام” من القصف الصهيوني واحتلال أراضي سورية إضافية أهم مُؤَشِّرٍ على عمالة هذه القيادات، خصوصًا بعد تصريحات أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني ) بأن أرض سوريا لن تكون مُنْطلقًا لمحاربة العدو الصهيوني، لأن ذلك لا ينْدَرِجُ ضمن أولوياته…
تركيا أهم المُستفيدين من الوضع في سوريا:
سمح مدى تدخل تركيا (عضو حلف شمال الأطلسي) في سوريا بالإطاحة بالنظام السوري من قبل تحالف تقوده الجماعة الإسلامية هيئة تحرير الشام ( جبهة النصرة سابقًا، المنشقة عن القاعدة) كما سمح باحتلال أراضي سورية جديدة من قبل الكيان الصهيوني، وأعلنت الحكومة التركية إنها تأمل في تشكيل حكومة على “النموذج التركي”، الذي يجمع بين الإسلام السياسي المحافظ والديمقراطية الشّكلية والإدارة النيوليبرالية للاقتصاد، ويبدو أن السّلطة الإسلامية الجديدة في سوريا مُتّفَقَة مع هذه الرُّؤية…
بدأت تركيا والقوى “الغربية” في تسليح الميليشيات الإرهابية منذ سنة 2011، مما ساهم في عسكرة الصّراع بين الحكومة السورية والمليشيات الإرهابية، وإضفاء الطابع الطائفي عليه، وأدى ذلك إلى تقسيم البلاد بحكم الأمر الواقع إلى ثلاث مناطق متميزة بين سيطرة الحكومة وحلفائها وتركيا وحلفائها والولايات المتحدة وحلفائها ( خصوصًا من الأكراد ) وأدّت الحرب إلى فرار ما لا يقل عن أربعة ملايين سوري إلى تركيا، وإلى تأجيج المشاعر المعادية للاجئين السّوريين الذين يُعانون من الإستغلال الفاحش من قِبَل أرباب العمل وأصحاب العقارات في تركيا، وساهمت السلطات التركية في تأجيج الحملات العُنصرية لتحويل الانظار عن المشاكل الدّاخلية.
أشادت الصحف الإسلامية برجب طيب أردوغان باعتباره “مُطْلِق الثورة السورية” أو “فاتح سوريا” أو “أعظم استراتيجي في القرن الحادي والعشرين” وتتنبأ وسائل الإعلام المُناصرة له بنمو النفوذ التركي في المنطقة، لكن الوقائع تُبَيِّنُ إن سقوط النظام السوري هو نتيجة لمخطّطات أمريكية ( مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير ) تعمل على تحويل “الحُلفاء” مثل أردوغان وزعماء المليشيات الإرهابية إلى مجرّد بيادق، مما قد يجعل أوهام إعادة نُفُوذ الإمبراطورية العُثمانية للمنطقة غير واقعية ومَبْنِيّة على أُسُسٍ هشة، غير إن للنظام التركي حساباته الخاصة، فهو يُسيْطِرُ على عدة فصائل مسلحة بشمال سوريا، مثل التحالف المعروف باسم الجيش الوطني السوري ( الجيش السوري الحر سابقًا)، وتأمل تركيا أن تقضي القوات المُساندة لها على “قوات سوريا الديمقراطية” التي يتزعمها الأكراد، وتدعمها وتُسلحها وتدربها الولايات المتحدة، وأن تُخضع الأكراد السوريين لحكومة إسلامية في دمشق.
رغم إدراج هيئة تحرير الشام على قائمة واشنطن الرسمية للجماعات الإرهابية، رَبَطَ قادتها علاقات جيدة مع حكومات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (أي الناتو) الذين أعربوا عن رضاهم عن الإطاحة بالسلطة السورية، لأن “ضرورة إضعاف إيران التي تريد تعزيز نفوذها الإقليمي أهم من محاربة الإسلام السياسي” الذي يُمْكن تطويعه ليصبح خادمًا للمصالح الإمبريالية، ولذلك فإن الفصائل الإرهابية الإسلامية تقوم بمهمات ” مدفوعة الأجر ” أو هي بمثابة “المُتعاقدة من الباطن ” مع الإمبريالية الأمريكية، والدليل هو صمت قيادات هيئة تحرير الشام أمام اشتداد القصف الجوي الصهيوني وأمام التّصريح العَلني لنتن ياهو بأنه “سيجعل من هضبة الجولان أرضًا إسرائيلية”، بعد أن دمر الجيش الصهيوني القدرات العسكرية السورية. أما النظام التركي فهو يهدف إلى تعزيز القوة العسكرية والدبلوماسية والتجارية التركية، وهو ما من شأنه أن يشكل انتصاراً لأردوغان، ولكنه انتصار يَقِلُّ قيمة عن أحلامه و أوهامه العثمانية.
إن التنافس الإمبريالي المستمر له أيضًا بعد اقتصادي، فقد تعرضت سوريا للدمار بسبب الحروب بالوكالة بين العديد من البلدان، والتي حصدت أرواح نصف مليون شخص وشردت أكثر من عشرة ملايين ودمرت البنية التحتية والإقتصادية للبلاد، واليوم، أثارت عملية إعادة الإعمار شهية رجال الأعمال في مختلف أنحاء العالم، وأدّت إلى ارتفاع مَلْحُوظ لأسهم شركات قطاع البناء خلال الأيام الأخيرة في أسواق الأسهم.
مشاريع الخصخصة ونهب الثروات
من غير المُؤَكّد بقاء سوريا كدولة مُوَحّدة، في أعقاب انهيار النظام السوري، وقد يُؤَدِّي الوضع الحالي إلى إنشاء دُوَيْلَات صغيرة تَسْهل السيطرة عليها، كما حصل في يوغوسلافيا في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، إثر التدخّل العسكري لحلف شمال الأطلسي، وذكرت وكالة رويترز، يوم 12 كانون الأول/ديسمبر 2024، أن هيئة تحرير الشام بدأت “تَبءسط سلطتها على الدولة السورية بنفس السرعة الخاطفة التي استولت بها على البلاد، ونشرت الشرطة، وشكلت حكومة مؤقتة، واجتمعت مع مبعوثين أجانب”، وانتقل البيروقراطيون، الذين كانوا يديرون “إمارة إدلب الإسلامية” في شمال غرب سوريا إلى مقر الحكومة في دمشق، وتم تعيين محمد بشير، رئيس “الحكومة الإقليمية” التابعة لهيئة تحرير الشام في محافظة إدلب التي يحتلها الإرهابيون، “رئيساً للوزراء بالإنابة”، وتم فتح البلاد للاستغلال الاقتصادي “الغربي”، لأن “هيئة تحرير الشّام” كانت قد أبلغت رجال الأعمال المحليين والدوليين أنها “سوف تنتهج نموذج السوق الحرة وتدمج البلاد في الاقتصاد العالمي، بعد عقود من سيطرة الدولة الفاسدة“، ويعكِسُ التَّوَجُّه الإقتصادي لهيئة تحرير الشام تحالُفَها مع الإمبريالية الأمريكية…
لم تكن سوريا عضوًا في منظمة التجارة العالمية، ورفضت، منذ سنة 1984، قُرُوضَ صندوق النّقد الدّولي، وكانت سوريا “تمتلك أحد أفضل أنظمة الرعاية الصحية تطوراً” في الوطن العربي وفق وثيقة صادرة عن منظمة الصحة العالمية ( نيسان/أبريل 2015 )، وأكّدت وثيقة صادرة عن الأمم المتحدة لعام 2018 “توفير الرعاية الصحية المجانية لجميع المواطنين”، كما كان التعليم مجانيًا للسوريين والعرب، واستقبلت سوريا نحو مليونَيْ لاجئ عراقي إثر الإحتلال الأمريكي، دون تلَقِّي أي مُساعدة دولية، وقبل الحرب كان حوالي 97% من أطفال سوريا في سن المدرسة الابتدائية يحضرون الفصول الدراسية، وتزيد معدلات معرفة القراءة والكتابة عن 90% لكل من الرجال والنساء، وخلال الحرب أصبح ملايين الأطفال خارج المدرسة، وفق تقرير لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، نُشر سنة 2018، وأورَد نفس التقرير ” قبل الحرب، كانت سوريا الدولة العربية الوحيدة التي حققت الإكتفاء الذّاتي الغذائي لفترة أربع سنوات متتالية، وساهم القطاع الزراعي بنحو 21% من الناتج المحلي الإجمالي بين سنتَيْ 2006 و 2011، ويحصل المواطنون على السعرات الحرارية اليومية التي يحصل عليها مواطنو العديد من الدول الغربية، وتدعم الحكومة الأسعار لتبقى في متناول الجميع، فيما بلغ متوسط معدل النمو 4,6% سنويا “… لكن أدَّى الحصار الأمريكي واحتلال مواقع النفط والغاز والزراعة إلى حرمان البلاد من مواردها، واعتمادها على الواردات التي لا تستطيع شراءها بسبب نقص العُملات الأجنبية والحصار، ومنع محاولات إعادة الإعمار، مما أدّى إلى انخفاض حادّ في قيمة اللِّيرة السُّورية وارتفاع تكاليف المعيشة وعَجْز المواطنين عن شراء أبسط الأشياء، وافتَخَرَ نائب وزير الخارجية الأمريكية “جيمس جيفري” بهذه التّطورات التي خلقت أزمة إنسانية حادّة، وكانت الولايات المتحدة – التي سجّلت أبو محمد الجولاني على قائمة الإرهابيين المطلوبين – تقوم باتصالات متكررة وسرية مع هيئة تحرير الشام وساعدتها بشكل فعال، وإن كان ذلك “بشكل غير مباشر” لأن وزارة الخارجية صنفتها ككيان إرهابي، وأفْضت هذه الإتصالات إلى إعلان الجولاني، خلال شهر تموز/يوليو 2022 عن خطط هيئة تحرير الشام لمستقبل سوريا، وتضمنت الخطة فقرات متعددة عن التمويل والصناعة و”بناء نموذج السوق الحرة، وفتح الأسواق المحلية أمام الاقتصاد العالمي”، وتأمل هيئة تحرير الشام دعم تركيا ( التي تنهب مصانع حلب وموارد سوريا منذ بداية الحرب) واستثمارات من قَطَر والسّعودية والإمارات، وسيطرة القوى الإمبريالية على اقتصاد سوريا الذي أنهكته الحرب والنّهب التّركي والقصف الصهيوني والأمريكي…
خاتمة:
عندما انطلقت عملية “طوفان الأقصى”، وصفتها الدّول الإمبريالية وإعلامُها بالإرهاب، فيما اعتَبَرَت المجازر الصهيونية والإبادة “دفاعًا عن النّفس”، كما اعتبرت المليشيات الإرهابية في سوريا نموذجًا للتّحَرُّر من الدّكتاتورية والإتبداد، ورمزًا للدّيمقراطية، رغم تصنيفها رسميا ضمن المجموعات الإرهابية وأصبح زُعماء هذه المليشيات يستقبلون مُمثِّلِي الدّول الإمبريالية ( والرّجعية العربية) قبل شَطْبِ أسمائهم من قائمة الإرهابيين “المبحوث عنهم” ( Wanted )، ويكمن “السِّرّ” وراء هذه الحُظْوة التي يلقاها أحمد الشّرع ( أبو محمد الجولاني) ورفاقه من زعماء الإرهاب، في غض طَرَف زعماء الإرهاب عن العدوان الصهيوني واحتلال أجزاء من سوريا وتدمير البنية التحتية والثكنات والأسلحة السُّورية، لأن المنظمات الإرهابية مَدِينة للإمبريالية الأمريكية ولتركيا ( عضو حلف شمال الأطلسي) وللكيان الصهيوني في تسليحها وتمويلها وتدريب عناصرها لتتمكّن من السّيطرة على البلاد (أو الأجزاء التي لا تحتلها الولايات المتحدة وتركيا والكيان الصّهيوني ) وتوجيه السّلْطة نحو أَجَنْدَة تخدم مصالح هذه الجهات الخارجية، ولو تعارضَت تلك المصالح مع طموحات أغلبية الشعب السّوري الذي بدأت بعض قطاعاته تُعبّر عن احتجاجها ضدّ السلطات الجديدة وتُعبّر عن مطالبها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، في معظم المُدن السورية…
حقّقت الإمبريالية الأمريكية والكيان الصّهيوني وتركيا الأطْلَسِيّة الإخوانية ( العُثمانية الجديدة ) نَصْرًا مُهِمًّا – من خلال الحرب المُباشرة أو الحرب بالوكالة – بانهيار العديد من الأنظمة العربية، وآخرها نظام سوريا، كحلقة من حلقات السيطرة على الوطن العربي، وخسر الشعب السّوري ( بعد 13 سنة من الحصار والإنهاك والتّجويع ) والشّعب الفلسطيني وروسيا وإيران ولبنان وما يُسمّى “محور المقاومة ” مواقع استراتيجية ضمن حرب طويلة الأمد، مما يتطلّب منا – كشعوب عربية وقُوى تقدُّمية – مُضاعفة الجُهُود للصّمود بهدف الحدّ من الخسائر وإعادة بناء صُفُوف “المُقاومة” ( بمعنى مُقاومة الإمبريالية والرّجعية المَحلِّيّة ) قبل الإنتقال إلى مراحل أُخرى من مُقاومة الإمبريالية بزعامة الولايات المتحدة والإستعمار الإستيطاني الصّهيوني وطُموحات تركيا الأطلسية العُثمانية الجديدة، والأنظمة العربية المُتواطِئة مع القوى الإستعمارية، بهدف تحرير الأرض والإنسان في هذه الرُّقعة الجغرافية المُمتدّة من المحيط إلى الخليج…
تمثلت مظاهر الهزيمة في تهنئة قيادة حماس “الشعب السوري على نجاحه في تحقيق تطلعاته نحو الحرية والعدالة”، وفي إعلان زعيم هيئة تحرير الشام “إن إيران كانت ولا تزال عدونا الرئيسي… (إننا فخورون ) بإعادة المشروع الإيراني في المنطقة أربعين عامًا إلى الوراء… بالقضاء على الميليشيات الإيرانية وإغلاق سوريا أمام النفوذ الإيراني”، وباعتبار “حماس” حركة مقاومة ضد الكيان الصهيوني وصامدة منذ 15 شهرًا فإن موقفها يُؤثِّرُ على ملايين العرب، وفي الواقع فإن تدمير سوريا وتقسيمها واحتلال أجزاء منها من قِبَل تركيا الأطلسية والكيان الصّهيوني والإمبريالية الأمريكية يُشكّل ضربة مُوجِعَة للشعب الفلسطيني وكافة الشعوب العربية.
تَميّز الظّرف الحالي بزيادة الغطرسة الإمبريالية والصّهيونية، كما تَمَيّز بنُمُوّ وعي شباب العالم بعدم شرعية الاستعمار الإستيطاني الصهيوني، لكن هذا الوعْي منقوص ولا يزال متأثرًا بالدّعاية الإيديولوجية الإمبريالية (عبر الإعلام) بشأن ما جرى في ليبيا والعراق وسوريا، وبشأن الدّعم الأمريكي لمليشيات الأكراد التي تحولت وظيفتها إلى إسناد الإحتلال الأمريكي والصهيوني لسوريا وإلى تقسيم البلاد، دون حصول الشعب الكردي على حق تقرير مصيره، وتتكامل وظيفة مليشيات الأكراد مع الدّوْر الوظيفي لمليشيات الإرهاب الإسلامي ( هيئة تحرير الشام وأخواتها ) التي يحصل مُقاتلوها على أَلْفَيْ دولارا شهريا، مقبل أربعين دولارا لعناصر الجيش السوري، ويتمثل بعض هذا الدّور الوظيفي في تمكين رأس المال الأمريكي والأوروبي من الإستيلاء على ثروات وأُصُول البلاد وإلحاقها ب”محور التّطبيع”، واستكمال دمْج الكيان الصهيوني – اندماجًا مُهيْمِنًا – في الوطن العربي بإضافة حلقة جديدة لسلسلة التّطبيع، ليُصبح “محور المقاومة” مُنكشفًا، وبدون سند، لأن مُعارضي الإمبريالية الأمريكية من مجموعة “بريكس”، كالصّين وروسيا، لا تتميّزان بمناهضة الإمبريالية والصّهيونية، بل لها مصالحها وأهدافها الخاصة المُتمثّلة في زيادة حصّتها من السّوق الدّولية…
تتميّز هذه الفترة بانحسار رُقعة الأصدقاء واتّساع رُقعة الأعداء، ولذلك وجب العمل مع من تبقى من الحُلفاء في البلدان الإمبريالية وخارجها، على توسيع رقعة الأصدقاء في أوساط كادحي العالم والشُّعُوب الواقعة تحت الإضطهاد وفي أوساط الشباب الذي عارض الإبادة في فلسطين.
*هذا النّص جزء من مجموعة مقالات تحاول تسليط الضّوء على ما يحصل في سوريا في ظل الظّروف الدّولية، من بينها مقالان آخران بعنوان:
= = ما لا تذكره وسائل الإعلام – الأهداف الخَفِيّة للولايات المتحدة – مكانة النفط والغاز في عملية تدمير سوريا 16/12/2024
= = سوريا ضمن مُخطّط “الفوضى الخَلاّقة” 20/12/2024