الباحث ابراهيم غرايبة يكتب: العلويون .. محاولة للتعريف بعيدا عن الاتهامات الاثني عشرية والسنية




إبراهيم غرايبة ( الأردن ) – السبت 15/3/2025 م …

يعتبر كتاب تاريخ العلويين من تأليف محمد أمين الطويل أشهر كتاب عن العلويين، وصدر مؤخرا كتاب رشيد الخيون النصيرية العلوية، ويعرض الخيون مجموعة من المصادر المعتمدة أو المقبولة لدى العلويين “النصيريين” مثل “أوهام المؤلفين في أحوال العلويين” للشيخ
العلوي تمام أحمد، وكتاب “عقيدتنا وواقعنا” للشيخ العلوي عبد الرحمن بالخير، والعلويون بين الأسطورة والحقيقة لهاشم عثمان.

ربما تكون تسمية النصيريين هي الأكثر دقة وتحديدا؛ باعتبار أن محمد بن نصير هو المؤسس للطائفة، أو أنه قاد انشقاقا في المذهب الجعفري وصار له في ذلك أتباع، ولأن تسمية العلويين تشمل كل الشيعة بل وكثير من السنة المنتسبين نسبا أو سياسيا إلى علي بن أبي طالب، ولكن طالما أنها تسمية عرفوا بها في الشرق العربي، ويفضلونها (العلويون النصيريون) على غيرها من التسميات فلا بأس في ذلك. وقد غلبت عليهم تسمية النصيريين، وربما كان أول إعلان لتسمية العلويين في كتاب محمد أمين غالب الطويل (ت 1932) تاريخ العلويين، والذي يقول إنه بعد الحرب العمومية (العالمية الأولى) استعاد العلويون اسمهم بعدما حرموا منه على يد الدولة التركية مدة 412 سنة.

يقول رشيد الخيون في كتابه “النصيرية العلوية” “تجمعت ضد العلويين سهام الشيعة والسنة وانضم إليهم في العقود الأخيرة الخصوم السياسيون لحزب البعث”، فكانوا موضعا لإشاعات كثيرة وافكار متناقضة وغريبة، وأضيف إلى ذلك أنهم لم يقدموا أنفسهم تقديما كافيا للتعرف عليهم من مصادرهم أو كما يعرفون أنفسهم، كما فعلت المذاهب الشيعية الأخرى، مثل الاثني عشريين والإسماعيليين والدروز والزيديين، وليس ذلك بالضرورة لأنهم جماعة سرية أو لأنهم يخفون عقائد وأفكارا مختلفة عما سواهم من الشيعة، ولكن سبب ذلك على الأغلب هو الصراعات والعزلة والتهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي رزحوا تحته قرونا طويلة من الزمن، وعندما تأسست الدول الحديثة وانتشر التعليم والثقافة كانت النخبة العلوية علمانية غير متدينة ولا ترى نفسها مشغولة بخدمة ونشر المذهب العلوي، ولكنها كانت منخرطة في التيارات السياسية والفكرية السائدة في المشهد العربي، وذلك بخلاف الجماعات الشيعية الأخرى التي ظلت فيها القيادة الدينية جزءا من النخب، وطورت بذلك مؤسسات فكرية وتعليمية وأصدرت كتبا وأبحاثا للتعريف الديني والعلمي بمذاهبها، وفي أحيان وبلاد أخرى غير سوريا كانت الحوزة الشيعة تقود السياسة والمجتمع.

وفي ظل العزلة والسرية التي أحاطت بالعلويين لحقت بهم أيضا إشاعات وأفكار كثيرة مستمدة من أمثلة وحالات برغم صحتها فإنها لا تصلح دليلا أو مصدرا للحكم والفهم، ومن الطبيعي أن تنشأ في أجواء السرية والكتمان حالات كثيرة من الاوهام وسوء الفهم، وإذا أضيف إلى ذلك أن الآخر المعادي او المهيمن أو المتخذ موقفا متعصبا او عنصريا والذي يملك في الوقت نفسه مؤسسات علمية وفكرية وهو الذي يحكم أو ينشر فمن المتوقع أنها سوف تكون كتابات وأحكاما محملة بالعداء والاستعلاء وضعف المعلومات والمصادر دون شعور بذلك.

العلويون هم شيعة أقرب إلى الاثني عشرية، وتسمية العلويين هي التسمية الأولى التي أطلقت على أنصار ومؤيدي علي بن أبي طالب قبل تسميتهم بالشيعة، ولكنهم ظلوا يحملون وحدهم اسم العلويين وصارت الأغلبية تسمى شيعة، ثم ظهروا بعد قرون من العزلة والإهمال والخوف وكأنهم مذهب شيعي مختلف يسمى “علوية”.. ولا يمكن اليوم فهم تاريخ الشيعة بجماعاتهم المختلفة من غير ملاحظة الخوف والملاحقة التي أظلت تاريخهم وانعكست بطبيعة الحال على الايديولوجيا، ويحدث أيضا في بيئة السرية والكتمان تكريس لمفاهيم كثيرة وتأخذ حالة من الاستقرار المديد، كما أنها لا تتعرض للنقد والمراجعة.

وعلى سبيل المثال فإن ظاهرة عدم الالتزام الديني لدى جماعات شيعية مثل الدروز والعلويين والاسماعيليين تعود إلى حالة اجتماعية مستمدة اصلا من جدل ديني في المسيحية والإسلام حول الإيمان والعمل، إذ ثمة راي ديني مسيحي وإسلامي أن الإيمان يكفي للقبول عند الخالق، وأما العمل فهو إضافة إلى الإيمان، ويكفي المؤمن بعد الإيمان أن يفعل الخير ويتجنب الشر ويتحرى العدل ويتجنب الظلم، وسادت حالة العزوف عن اداء الفرائض الدينية في المجتمعات الإسلامية والمسيحية أيضا، ولكنها تحولت في البيئة المغلقة إلى فكرة راسخة لم تراجع، وأضيفت أليها خرافات وقصص، مثل الاعتقاد أن الأولياء والصالحين يؤدون عن قومهم وأتباعهم الفرائض الدينية، ولكن ذلك ليس بالطبع مذهبا دينيا يمكن نسبته إلى العلويين أو الدروز أو الاسماعيليين.

لا ينفي العلويون عن أنفسهم “الباطنية” ولكنها لا تعني لديهم ما يتهمهم به غيرهم، فهي تعني أن للكلمات والعبارات معنى باطن بالإضافة إلى معناها الظاهر “التأويل” وليس المقصود بالباطن الإخفاء أو التمويه، وإن كانت التقية متبعة عند الشيعة، وهي أيضا مقبولة لدى السنة، ولكن التاريخ السري الطويل للشيعة جعل التقية تأخذ مساحة كبيرة حتى بدت وكأنها أصل غالب، بخلاف السنة الذين جعلتهم الغلبة يرون التقية والسرية أمرا مذموما.

ثمة بالطبع أدلة كثيرة في القرآن على فكرة الخفاء والرموز، مثل الآية: “فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات” “وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا” والأحرف أو الكلمات التي تلفظ حروفا منفصلة في فواتح بعض السور، مثل ألم، حم، كهيعص، حم عسق،… وهناك أيضا آيات كثيرة جدا تحتمل المجاز وتعدد التفسير، مثل “فإنك بأعيننا” “يد الله فوق أيديهم” “الرحمن على العرش استوى” “واصطنعتك لنفسي”.

ولدى العلويين مصدر آخر للعلم والحكمة إضافة إلى القرآن والسنة (في روايات وأسانيد بعضها ينفردون بها وبعضها تشترك مع روايات وأسانيد السنة) والتأويل أو العلم الباطن الذي يعتقدون أن آل البيت يختصون به، هو “الجفر” وهو من العلوم التي يصفونها بأنها “خفية” ويتضمن ما يعتقدون أنه من وضع وتأليف علي بن أبي طالب ثم جعفر الصادق.

ويعتقد العلويون أن لكل إمام من الأئمة الاثني عشر “باب” وكان علي باب الرسول، ويستشهدون في ذلك بحديث نبوي “أنا مدينة العلم وعلي بابها” وسلمان الفارسي كان باب علي بن أبي طالب، ومن رؤسائهم الدينين العظام بعد الائمة الاثني عشر الحسين بن حمدان الخصيبي، والذي عاش فترة طويلة في حلب يدير الشؤون الدينية في دولة الحمدانيين (وهم من الشيعة أو العلويين كما كانوا كلهم يتسمون، وإن ظهرت مذاهب انشقت عن العلويين واتسمت ايضا بأسماء أئمتها مثل الاسماعيليين والزيديين) وألف كتبا عدة يعرف منها “الهداية الكبرى”.. وفي تفرق الشيعة الإثني عشريين بعد الامام الثاني عشر حسب القبائل والعلماء والدعاة والأحداث السياسية الكبرى، تشكلت هوية خاصة بمن يعرفون اليوم بالعلويين، وهم القبائل العربية الشيعية التي استوطنت الساحل السوري، وامتدت إلى ما صار فيما بعد جزءا من تركيا.

ينتسب العلويون في سورية إلى قبائل عربية اعتنقت المذهب الشيعي في وقت مبكر، واستوطنت الساحل السوري، مثل المهالبة الذين ينتسبون إلى المهلب بن صفرة، من قبيلة كندة، وبني هلال وتغلب والتنوخيين، والغساسنة، وقد تحالفوا مع العباسيين السنة في مواجهة الفاطميين (وهم شيعة إسماعيليون) وكانت لهم على مدى التاريخ جولات وهزائم، فقد أنشأوا دولا قوية ومهيمنة مثل الحمدانيين والغسانيين، وكان البويهيون حلفاء أقوياء لهم، وفي مرحلة صعود السلاجقة والترك تعرضوا للأذى والاضطهاد، ووقع بينهم وبين الاسماعيليين عداء وقتال، وتحالفوا مع صلاح الدين والأيوبيين.. ولكنهم تعرضوا لاضطهاد شديد في زمن الترك العثمانيين، فاعتصموا بالجبال المنيعة لتحميهم من جيوش الدولة العثمانية وعيونها.. ولذلك فقد تحالفوا مع إبراهيم باشا ضد العثمانيين عندما غزا بلاد الشام عام 1830، وزاد ذلك في اضطهادهم وعداوتهم مع العثمانيين بعد انسحاب ابراهيم ابن محمد علي عام 1840.

كانت فترة الحكم العثماني بالنسبة للعلويين قرونا من العزلة والفقر والتمييز التركي والعربي السنّي ولا شك أنها أثرت على تكوينهم ومواقفهم وأفكارهم، وفي الواقع فقد كان صعودهم إلى واجهة التأثير ثم الحكم من خلال حزب البعث ووصول حافظ الأسد العلوي إلى رئاسة سوريا عام 1970 مشحونا بذاكرة طويلة وعميقة من الانتقام والخوف من المستقبل، وهذا ما يجعل حل المسألة العلوية في سوريا صعبا ومعقدا.

يشكل العلويون 10 في المائة من سكان سورية، ولهم وجود كبير في تركيا، ويقال إن إيران اجرت تشكيلا عميقا في الفكر والفقه العلوي واستعادت العلويين إلى الحوزة الاثني عشرية، ولكن من المؤكد أن العلويين عرب ينتسبون إلى القبائل العربية العريقة، وقد ساعدت عزلتهم على شعورهم العربي وتمسكهم بتاريخهم ونسبهم، وربما يكون ذلك من أسباب حماسهم ومشاركتهم الواسعة في حزب البعث والحزب القومي السوري والحركات القومية العربية.

تبدأ قصة التشكل العلوي “النصيري” المتميز عن الشيعة الاثني عشرية الجعفرية إلى ما حصل بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (260 هـ) وغياب ولده المفترض محمد الملقب بالمهدي في السنة نفسها أعلن أحد وجوه الشيعة الإمامية آنذاك محمد بن نصير النميري (ت 270 هـ) أنه المكلف بشأن الإمام الغائب،.. وبذلك أخذ يتردد في كتب الملل والنحل اسم النميرية عند البعض وعند البعض الآخر عرفوا بالنصيرية.

الخلاف النصيري مع الشيعة الاثني عشريين كان سياسيا ولم يكن دينيا، وخلط مؤرخون وغيرهم بين العلويين والاسماعيليين ربما بسبب تسمية الباطنية التي تشمل فرقا عدة، وقد اعتبر شيخ الطائفة الإمامية في زمانه محمد بن الحسن الطوسي (ت 469 هـ) في كتابه “الغيبة” ان ابن نصير من المذمومين الذين ادعوا النيابة والسفارة للمهدي المنتظر كذبا. ويحسب الحسين بن حمدان الخصيبي ( ت 334 هـ) مرجعا عند النصيريين وقد أفصح الخصيبي عن بابية ابن نصير للإمام الحادي عشر الحسن العسكري وولده المهدي ومنزلته المتقدمة عند الائمة.

ذكر العلويين النصيريين كثير من المؤلفين السنة والشيعة في مبالغات وتهويل مثل ابن حزم في “الفصل في الملل والأهواء والنحل” بأنهم من السبئية القائلين بإلهية علي وقد غلبوا في وقتنا هذا على جند الأردن بالشام وعلى مدينة طبريا خاصة. وقال عنهم الشيعي ابن ابي الحديد (ت 656 هـ) في شرح نهج البلاغة ان ابن نصير كان من اصحاب الحسن العسكري فلما مات ادعى وكالة لابن الحسن الذي تقول الإمامية بإمامته، فضحه الله بما أظهره من الالحاد والغلو والقول بتناسخ الأرواح، ثم ادعى انه رسول الله ونبي من قبل الله وارسله علي بن محمد بن الرضا، وجحد إمامة الحسن العسكري وإمامة ابنه، وادعى بعد ذلك الربوبية، وقال بإباحة المحارم.

وفي المقابل يذكر محمد كرد علي (خطط الشام) إجابة شيخ النصيريين العلويين حينه سليمان أحمد سليمان على استفساره منه عن اصل طائفته قائلا: لا فرق بينهم وبين الإمامية إلا بما أوجبته السياسة والبيئة وعادات العشائر التي توارثها سكان الشام” وشيخ مذهبهم الذي ينتمون إليه الخصيبي، ولهم طرق كالنقشبندية والرفاعية وغيرها من الطرق الصوفية بالنسبة لأهل السنة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

4 × أربعة =